[المآذنُ العالية]
يوم دوّت "الله أكبر" فوق رمال سيناء
المكان : سيناء
الزمان : 10 رمضان / 6 أكتوبر من العام 1973
الساعة : الثانية ظهرا إلا دقيقة واحدة
أجواء يخيم عليها الصمت والهدوء ، يوم قد يبدو كسائر الأيام على الضفتين ،،
ضفة غاشمة منتصرة ، وأخرى مؤمنة منكسرة ،،
وهدوء كهذا الذى يسبق العاصفة .
لحظات من الصمت لم يقطعها إلا دوىّ المدافع وطلقات الرصاص وصرخة "الله أكبر"
المآذن العالية ، هى خطة عبور الجيش المصرى إلى ثرى سيناء ،،
وأعجب من تسميتها بهذا الإسم تحديدا ولا أعرف القصد من مسماها المدهش هذا ،
أهى رمز الإسلام ورمز الشموخ والعزة والكرامة ،،
أم هى صرخة الله أكبر تدوى فى أرجاء سيناء ،،
المآذن العالية هى واحدة من أبرع الخطط العسكرية فى العصر الحديث وضعها عقل مصرىّ هو الفريق "سعد الدين الشاذلى" وتم تطويرها فيما بعد لتصبح الخطة "بدر" .
وما هى إلا ساعات لينهار اقوى خط دفاعى عرفه التاريخ وتهوى عقيدة ترسخت فى أذهان العالم بأسطورة جيش لا يُقهر ،،
لحظة نادرة فى عرف الدولة الغاشمة الباطشة حين نرى رأسها الأكبر "مائير" تبكى وتصرخ "أنقذوا إسرائيل" ،،
1967 – 1973
أعوامٌ ستة تجتهد إسرائيل فى محوها من ذاكرة العرب بكل ما فيها من هزائم وإنتصارات ،،
أعوام لا نبالغ إن قلنا أنها شكلت مصير العرب وإسرائيل على حد سواء ،، ولأنها تخفى جريمة تمت بليلٍ والعرب نيام ،، لتسلبنا فلسطينا وفوقها أرضا لنا تقيم عليها دولة إسرائيل الكبرى ،
نحن هنا نسلط الضوء على هذه الفترة فلم يكد يمر عليها 35 عاما فحسب ولا يعرف عنها أحدنا القليل أو الكثير ،، لا يعرفها إلا من عاشها لحظة بلحظة وهم قليل ،، وأقل القليل منهم من يدرك أسرارا طوتها يدُ التاريخ عنهم ،،
إن شهادة ميلاد إسرائيل كما نعرفها اليوم لم تكن فى 1948 بل إنها رسمت ملامحها الكاملة فى صباح الخامس من يونيو من العام 1967 ،،
شاهدنا كيف وصل الإستهتار العربى أقصاه فى فترة سادت فيها الشعارات الجوفاء وكانت ضحيتها الأولى هى الشعوب التى لا زالت تعيش الكذبة الكبرى إلى يومنا هذا ، ،
لقد كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف المطارات المصرية فى حين كانت تعلن الإذاعة المصرية عن تساقط عشرات الطائرات الإسرائيلية بصورة مضحكة وسخيفة ،،
تغيرت القيادة وظلت سياسة التجاهل قائمة لا تتغير ،، وحتى فى ذروة الإنتصار ترتكب القيادة السياسية أخطاء فادحة تكاد تطيح بالنصر رغم معارضة العسكريين ، فتحدث الثغرة وتظهر علينا وسائل الإعلام كالعادة بوجهها السخيف لتهون من فداحة الأمر وكأن الشعوب لا حق لها سوى أن تعرف إلا ما يسمح به سادتها ..
لقد إنتصرت إسرائيل فى 3 ساعات فى مسرحية هزلية برع كل طرف فى أداء دوره فيها ، فى حين إنتصرت مصر وسوريا والعرب فى حرب حقيقية لم يستغرق بناء الجيش فيها سوى أعوام ستة فحسب ،،
ومن مرارة الهزيمة والإنكسار إلى نشوة النصر وأخطاء سياسية توشك أن تطيح بالنصر العسكرى ،،
ومن سكرة النصر إلى مهزلة السلام ومذبحة التنازلات وسوء تقدير سياسى ضاع معه صوت العقل الذى لم يكن سوى إعتراضات العسكريين المصريين وإستقالات 3 وزراء للخارجية المصرية على التوالى وقتها لتنجح إسرائيل ليس فقط فى تحييد أكبر قوة عربية بل أيضا فى عزلها عن العالم العربى ،،
الطريق من هنا
من هنا ، وعبر سيناء ،، سيكون لهذا الجيش المصرىّ شأن كبير فى تحرير الأقصى يوما بإذن الله ،، وقد شهد التاريخ لحظات فاصلة كان لهذا الشعب وجيشه نقطة الحسم فيها ، ، وكأن لموقع مصر الجغرافى وإحتضانها فلسطين قدرا مُقدرا لتكون الحارس والمدافع عنها برا وبحرا ولا نعجب إن كان للحملات الصليبية منها نصيب النصف تتشاطره هى وربوع بيت المقدس على حد سواء ،،
قالوا والعالم كله ورائهم : مستحيل أن تفكر مصر مجرد التفكير.. في اتخاذ قرار حرب ضد إسرائيل بعد هزيمة يونيو 1967 لأنه لم يحدث في حرب ما منذ عرفت البشرية الحروب أن جيشا وجد نفسه أمام ثلاثة موانع علي التوالي كل واحد منها في حد ذاته مستحيل !
كل الخبراء العسكريين يؤكدون هذا الكلام ،، فالخسائر ستكون رهيبة والخبراء توقعوها 65% أول يوم قتال فقط .. أى أن من كل 100 مقاتل مصري يقتحم القناة نخسر منهم 65 مقاتلا !
لأنهم اعتمدوا في كل تحليل لهم على حقائق كثيرة وأغفلوا تحليل المقاتل المصري نفسه ..
لأنهم يجهلون الإنسان المصري الذي يبدو وديعا هادئا صامتا لكنه العبقريّ لا يعرف المستحيل ..
لم يقدروا حقيقة المصريين وأخذوا هزيمة يونيو والانسحاب المهين والقرارات الهزيلة المتضاربة.. أخذوا سلبياتنا مقياسا ونسوا أنها أخطاء أفراد في قيادة وليست خطايا شعب ..
لكن الحقيقة التى عرفها العالم أن أقوى خط دفاعي عرفته العسكرية ، ثلثاه استسلم للمصريين في يوم ونصف اليوم من القتال .
الطريق يبدأ من هنا ، من قلب القاهرة ،، والهدف سيكون بإذن الله "القدس"
حقائق لا تقبل الزيف أو الخداع نلخص بعضها فى هذه المقدمة ونشاهد أكثرها رأى عين فى مجرى الأحداث ،،
• ثمة حقيقة واضحة وضوح الشمس تتجلّى من قراءة تاريخنا المعاصر بدقة ،،
لا أمن ولا أمان للعرب إلا بزوال إسرائيل ،،
قد يبدو هذا الرأى متطرفا فى نظر الكثيرين لكنها حقيقة أولى يعرفها العسكريون العرب وبشهادة كثيرين منهم ،، إن أسلوب نشأة هذه الدولة الصهيونية على القتل والسلب وعقيدة العصابات الذى أبدا لن تكتفى بالقليل أو الكثير،، وطبيعة اليهود حقيقة أخبرنا عنها القرآن وشاهدناها بأعيننا فى سيرة الرسول أكثر من مرة ، هذه الدولة التى شنت أكثر من ثلاثة حروب على جيرانها العرب فى غضون 30 عاما لا أكثر ،،
وإسرائيل ليست كأى دولة يخدم فيها الجيش الدولة ولكن العكس هو الصحيح فالدولة فى إسرائيل تخدم الجيش والشعب هو الجيش ،،
كانت إسرائيل منذ نشأتها دولة عسكرية بالمفهوم المطلق لما يعنيه هذا التعبير.. حيث انخرط الرعيل الأول من مؤسسي الدولة في الكفاح العسكري سواء من خلال المنظمات شبه العسكرية، أو عصابات الإرهاب، أو التجنيد في الفيلق اليهودي في خلال الحرب العالمية الأولى، أو اللواء اليهودي في الحرب العالمية الثانية.. وقد قيمت قدرة الكفاح، والزعامة للقادة الإسرائيليين طبقاً لما بذلوه في النواحي العسكرية،
في نفس الوقت، وطبقاً لتأثير المؤسسة العسكرية، فإن الجيش الإسرائيلي، هو الذي يعد القيادات السياسية، ودائماً ما تتولى الشخصيات العسكرية المناصب الرئيسية والوزارات في الدولة. وكل قيادة عليا تختار مساعديها من العسكريين حتى تستمر حلقة التواصل. ويرجع ذلك إلى العديد من العوامل أهمها:
1. طبيعة قيام الدولة، الذي بني على قهر وطرد شعب، لكي يتخذ "شعب الله المختار" مكانه الطبيعي في أرض الميعاد، التي تحاط بأعداء من كل جانب.
2. وضع أمن إسرائيل في المقام الأول، واعتماد الفكر الإسرائيلي على القوة كضمان لبقاء الدولة.
3. التربية العسكرية للشعب الإسرائيلي، والتي تشمل مختلف فترات حياته، ومن خلالها يكون ولاءه للجيش باستمرار، ويطبق تعاليمه العسكرية على مجريات الأمور الحديثة في الدولة.. وبروزه في الحياة العسكرية، يضمن له المكان السياسي المرموق على مستوى الدولة.
والجيش في عقيدة قادته هو أداة للدفاع عن الدولة المحاصرة بواسطة العرب. وقد دفعهم هذا الاعتقاد إلى عدة نتائج هامة وهي ضرورة امتلاك قوة عسكرية أكبر من قوة كل الدول العربية المجاورة، وأن يكون لديهم القدرة على الرد السريع والانتقام الخاطف. وأنه إذا جاء السلام، فسيكون نتيجة هزيمة العرب في ميدان القتال. أي "السلام عن طريق القوة".
إن جغرافيا الأمة العربية لا تسمح بكيان يتوسطها وفى موقع إستراتيجى كهذا بين آسيا وإفريقيا يفصل بين أمم الشرق والغرب من العرب ،، وقبل هذا هى أمة عدوانية لا تعرف سوى لغة الحرب والدمار ،، كل هذه الاسباب تدعونا إلى تدارك حقيقة واحدة ،، إن زوال إسرائيل مسالة أمن قومى لكل العرب وليس عرب الجوار فقط ، وإذا كانت دولة كالولايات المتحدة تشن حربين خارج أرضها وفى قارة أخرى لحفظ أمنها القومى فأحرى بنا أن نؤمن حدودنا وخاصة أن التهديد ماثل ومتجدد يوما بعد يوم .
• إن دولة إسرائيل تؤمن بحرب قادمة ولهذا تحشد ترسانتها العسكرية والنووية فى حين نحن غائبون / مُغيّبون عن الوعى وتغيب عنا هذه الحقيقة .
• فى خضم الصراع برزت أهمية الحاجة إلى تصنيع سلاحنا بأيدينا ، فالشرق والغرب لن يمدنا بأكثر من حاجتنا للبقاء وهذا وحده ورقة ضغط لن نقبل المساومة عليها فى زمن السلم أو الحرب ،، الحاجة إلى سلاح عربى يصنعه العرب بأيديهم بدءا من طلقات الذخيرة وحتى أعقد تكنولوجيا الطائرات ،،
• إن بقاء إسرائيل عقيدة ثابتة تؤمن بها الولايات المتحدة الأمريكية ، ورأينا فى حرب سيناء كيف إتحدت إسرائيل وأمريكا فى كيان واحد وأمة واحدة بشكل سافر ومقيت ،، وهذا يدعونا فى النهاية إلى تساؤل خطير ،، إذا كانت أمريكا تعتبر بقاء إسرائيل من بقاءها ، فأمريكا عدو لنا وإن لم تكن عدوا فعلى الأقل هى ليست صديق . فى حين لا يختلف الأمر فى أمم الشرق والغرب معا فبقاء إسرائيل ورقة للمساومة دوما ورأينا الإتحاد السوفيتى يزود مصر وسوريا بأسلحة دفاعية وفقط بقدر ما يمكنها من تحقيق الهدف الأدنى دون توجيه ضربة إلى عمق إسرائيل ،، سياسة شيطانية لا يتقنها إلا هؤلاء .
• إن أمة الإسلام ومنهم العرب أمة عجيبة بل هى العجب العجاب ،، إنها أمة لا تقبل الخضوع أو السقوط أبدا عبر كل تاريخها ، ما بين النصر والهزيمة ، الإنكسار والإنتصار ، خيط رفيع هو أقرب إلينا من التصور ،،
• حرب سيناء تعد واحدة من أعقد الحروب الحديثة إن لم تكن الحرب الأعقد ، إذ اجتمعت فيها سلسلة عوائق تعيق تقدم أقوى الجيوش الحديثة من عائق مائى صعب وخط دفاعى هو الأقوى فى تاريخ الحروب ، ناهيك عن تفوق عسكرى شاسع للخصم .
• إن بسالة وشجاعة الجندى المصرىّ فى سيناء كانت عامل النصر الأول فى هذه المعركة ، إن ما حققه المصريون كان صعبا بل مستحيلا أن يحققه أى جيش متقدم وليس الإنجاز فى تحققه فحسب بل فى الدقة ونسبة الخسائر المذهلة وبراعة ما كان ليحققها إلا هؤلاء وبعتاد لا يرقى أبدا إلى أقل متطلبات المعركة .
• إن النقطة المضيئة الأولى فى هذه الحرب هى ذكاء العقل العربى وقدرته على التعامل بواقعية مع ما تفرضه عليه الظروف سواء أكان فارق التسليح والعتاد أو خلل مضطرب فى توازن القوى ينجح دائما فى تحييده ،، والأهم هو مقدرة الجيش المصرىّ والسورىّ على خداع العالم بأكمله وليس إسرائيل فحسب ،، خداع الموساد جنبا إلى جنب مع المخابرات الامريكية والغربية ، إعداد دولة بالكامل للحرب وتنظيم جيش بكامله من وضع دفاعى إلى تشكيل هجومى ، تعبئة عامة للجيش ثم توفير كل ما يلزمه من أدوات ومعدات وأسلحة ،، ثم الهجوم تحت مرأى ومسمع العدو .
• حرب أكتوبر غيرت المفاهيم العسكرية الحديثة والعقيدة العسكرية وأعادت الإهتمام الأول بالجندى الإنسان ،، وتغيرت معها عقيدة الحرب فى الجو والبحر وعلى رمال الصحراء .
• إن إختلاف العرب اليوم لم يختلف عن إختلافهم بالامس بل بعض الوجوه والملامح راسخة فى أماكنها ، لكنها بالرغم ،، تتفق وتتحد فى سيمفونية رائعة ويتدفق العتاد والأرواح إلى ساحة الحرب من كل قطر عربى ،، وهكذا يتجدد الأمل كلما لاح خطر وكلما لاح بطل ،،
• لقد أبتليت مصر بقيادة سياسية فاشلة فى الفترة من 67 – 73 ،، (عبدالناصر – السادات) ،، الأولى كانت سببا مباشرا فى الهزيمة والأخرى لم تحسن التصرف فى النصر وكلاهما ينجو دائما من العقاب فى حين تشكل إسرائيل لجنة "أجرانات" لتحاكم جنرالاتها بعد 1973 رغم أنها حرب وقائية خارج الأرض ،
إننا لا نحصى دروس النصر أو الهزيمة ونتعامى ونحن مبصرون عن حقائق الأمس وتوقعات المستقبل لهذا فسوف تتكرر أخطاء الأمس إن لم نتدبرها ونحسب لها حسابا .
• إن على سوريا أن تحرك السكون والصمت فى الجولان اليوم بحرب إستنزاف ترهق إسرائيل ، لقد كانت حرب الإستنزاف فى سيناء أحد عوامل النصر أمام كيان لا يحتمل أقل الخسائر البشرية نظرا لطبيعة إسرائيل الديموجرافية المحدودة وحجمها كدولة إقتصادية لا تلائم سياسة الحرب الطويلة والتعبئة الدائمة .
• إسرائيل كيان لا يحترم أى قرار دولى ولم تحترم إسرائيل اى قرار ما دامت فى موقف قوة ، وقد إخترقت الكثير منها على مرأى ومسمع العالم إلى درجة تجعلنا نشعر بالسخف والسذاجة فى إحترام كل الشكليات الصورية من مجلس أمن وأمم متحدة ، لن يكون للعرب من صوت عالمىّ سوى بمجلس عربى إسلامى قوىّ وليس فى مجلس يُوصى علينا فيه كالأطفال من دول كبرى لا تحرص إلا على مصالحها وحدها .
• إن الصراع بين صهيون وأمة العرب أزلىّ لن ينتهى إلا بزوال أحدهما ،، وإن دعاوى السلام بينهما محض أكذوبة كبرى ،، فلا سلام مع حق ضائع سليب ولا سلام مع قوم سمتهم الأولى فى كل التاريخ هى نقض العهد والميثاق ، "كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً" .. وإن على مصر اليوم إلغاء أو تعديل إتفاقية السلام فإسرائيل اليوم تستطيع إجتياح سيناء مجددا فى ساعات معدودة دون ما يردعها من معدات عسكرية مصرية ثقيلة (طائرات – دبابات) تحرم المعاهدة تواجدها على أرض سيناء ،،