حرب ناعمة أم جزء من حرب باردة متجددة بين الشرق الروسي والغرب الاوروبي الأميركي تلك التي تجري على أرض "غلال القمح الآسيوي"أوكرانيا" حاليا بين معارضة تتطلع الى الديمقراطية والانعتاق من مظلة الهيمنة الروسية وبين الرئاسة والحكومة المنضوية تحت لواء موسكو.
حرب التظاهرات والاعتصامات احتجاجا على سياسة الحكومة التي تجري في شوارع العاصمة كييف وعدد من المدن الاوكرانية الكبرى تفجرت كأزمة سياسية منذ نحو شهرين إثر رفض الحكومة توقيع اتفاق تجاري مع الاتحاد الاوروبي وتوجهها بدلا من ذلك الى تعزيز العلاقة مع روسيا عبر اتفاق يمنحها مساعدة بمليارات الدولارات.. ومنذ ذلك الحين يحتل أنصار المعارضة ساحة الاستقلال في كييف بينما عمدوا خلال الايام الاخيرة الى احتلال مقار حكومية.. كما شكلوا وحدات مسلحة بالأسلحة البيضاء لمواجهة تدخل محتمل من قبل الشرطة ضدهم.
أما لماذا أوكرانيا وهي الجمهورية الثانية من جمهوريات الرابطة المستقلة التي تتزعمها روسيا ومدى أهميتها حتى تجري على أرضها بين الفينة والاخرى أزمة سياسية تارة وحزبية واقتصادية تارة أخرى .
تكمن أهمية أوكرانيا بالنسبة لروسيا انطلاقا من كونها تمثل عمقا استراتيجيا أمنيا لروسيا فالأرض بينها وبين روسيا متصلة حدوديا وجغرافيا وحتى سكانيا في بعض المناطق مما يجعل منها مشكلة اساسية لموسكو في حال توجهها نحو أوروبا "سياسيا" او اقتصاديا.. وفي ذات الوقت فإن اوكرانيا تشكل بوابة روسيا على البحر الأسود وبالتبعية المتوسط وهذه مسألة مهمة جدا من الناحيتين العسكرية والتجارية لروسيا.
وتقول المصادر الدبلوماسية المحايدة في موسكو إن روسيا تستخدم دول الاتحاد السوفيتي القديم كمنطقة امتداد وعمق استراتيجي وعسكري لها وفي المقابل تضغط الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي على نفس الدول من اجل أن تبقى ليبرالية ديمقراطية وتخرج من العباءة الاشتراكية مثلما حصل في رومانيا وجورجيا من قبل، وأوكرانيا حاليا.
وتبدو أوكرانيا برئيسها الحالي يانوكوفيتش الذي رفض جملة تعديلات اقتصادية في برنامج حكومته قد تسهل انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي وضع بلاده على حافتي انقسام شعبي وسياسي نصف قريب من روسيا ويميل نحوها ونصف جغرافيا أقرب لأوروبا ويرغب في اللحاق بركب اتحادها.
ثورة أوكرانيا الحالية وثورة جورجيا قبلها أو ما يسمى بالثورات الملونة أي السلمية كلها كانت تسعى ولا تزال لنقل السلطة السياسية وعقيدتها من الميل في اتجاه روسيا الى الميل في اتجاه "الغرب الليبرالي".. وأوروبا التي ترى في الازمة الاوكرانية ثورة شعبية إنما تريدها تهديدا مباشرا لروسيا ووضعها في وضع "دفاعي" بالضغط الاوكراني عليها.
وكانت روسيا قد تدخلت عسكريا في جورجيا عام 2008 بشكل مباشر لمنعها من التحول الى سيف ضغط مسلط على رقبتها من قبل الغرب الاوروبي والأميركي. لكنها بالنسبة لأوكرانيا ترقب الوضع والأزمة فيها عن كثب وتسعى لمنع أي تدخل غربي في شؤون كييف الداخلية حتى اذا تحولت الازمة الأوكرانية الى تهديد مباشر وجدي لموسكو فحينها يتغير الموقف تبعا لتغير الاوضاع على الارض.
وكانت القوات المسلحة الاوكرانية قد طلبت في بيان لها من الرئيس يانوكوفيتش اتخاذ تدابير عاجلة لتسوية الازمة السياسية التي تعصف بالبلاد، مشيرة الى ان تصعيد المواجهة يهدد وحدة الاراضي الاوكرانية فيما لم يحدد الجيش طبيعة الاجراءات التي يدعو لها.
دعوة القوات المسلحة الاوكرانية للرئيس يانوكوفيتش الى اتخاذ تدابير عاجلة لتسوية الازمة زادت المخاوف ايضا من اشتعال حرب اهلية في البلاد مع استمرار المواجهات بين المعارضين للحكومة وقوات الامن حيث قالت وزارة الدفاع الاوكرانية إن الجنود الاوكرانيين والعاملين في قوات الدفاع يدعون الرئيس الاوكراني لاتخاذ تدابير عاجلة في إطار الشرعية لإحلال الاستقرار في البلاد، مؤكدة على عدم جواز السماح بالاستيلاء على المباني الحكومية بالقوة والحيلولة دون السماح للهيئات الحكومية بأداء واجباتها.. كما ان تصعيد المواجهة في اوكرانيا يهدد وحدة اراضي الدولة.
وبهذا البيان يلمح الجيش الى عدم إمكانية الدخول في معترك الازمة الى جانب النظام كما يرى مراقبون للازمة بعد تساؤلات حول موقف الجيش فرضها اتساع نطاق الاحتجاجات لتشمل مدنا اخرى غير العاصمة كييف وسيطرة المحتجين على عدة مبان حكومية فيها رغم ان وزير الدفاع الاوكراني بافيل ليبيديف نفى قبل ايام احتمالات تدخل الجيش في الازمة أو حتى وجود نية لديه للتدخل.
وفي الوقت الذي أبدت فيه المعارضة الأوكرانية استعدادها لتشكيل الحكومة الجديدة وأخذ كامل المسؤولية على عاتقها، لكن دون أن يشارك حزب الأقاليم الحاكم في هذه الحكومة قال رئيس الكتلة البرلمانية لحزب "باتكيفشينا" (الوطن) المعارض أرسيني ياتسينيوك في تصريحات متلفزة "لقد قلنا بوضوح إننا مستعدون لتشكيل حكومة يثق بها الشعب ويتعاون معها الشركاء الغربيون".
كما استبعد ياتسينيوك تشكيل حكومة تشارك فيها أحزاب المعارضة والحزب الحاكم على حد سواء، قائلا: "لا نوافق على ذلك، إننا نشكل الحكومة بمفردنا وفي هذه الحال نأخذ المسؤولية عما يجري في البلاد على عاتقنا".
وأضاف أن أولويات المعارضة، في حال تشكيلها الحكومة، ستتركز على إلغاء الاحتكارات وإجراء إصلاحات في مجال الطاقة من أجل تقليص الاعتماد على موارد الطاقة المستوردة.
واستطرد قائلا إننا ننوي القضاء على الفساد الذي بلغ مستوى غير مسبوق، وإجراء إصلاحات في المجالين الضريبي والمصرفي.. وتابع أنه يجب إجراء إصلاحات تشمل منظومة القضاء والأجهزة الأمنية أيضا.
يشار الى أن ياتسينيوك، وهو يتزعم حاليا حزب "باتكيفشينا" بينما تبقى زعيمته يوليا تيموشينكو في السجن، سبق أن أبدى تحفظه، عندما عرض عليه الرئيس فيكتور يانوكوفيتش منصب رئيس الوزراء لكن الحكومة الأوكرانية التي شكلها حزب الأقاليم الحاكم استقالت نهاية الشهر الماضي، في إطار سلسلة التنازلات التي أقدمت عليها السلطات من أجل نزع فتيل التوتر مع المعارضة على خلفية الأزمة السياسية التي تستمر منذ نوفمبر.
ورغم انعقاد جولات من التفاوض والتباحث بين المعارضة والحكومة حيث ينتظر المتظاهرون نتائج تلك الجولات الا ان روسيا أعربت عن قلقها الشديد حيال ما اسمته بمساعي قوى المعارضة الاوكرانية الرامية الى تصعيد الاوضاع وإذكاء التوتر في البلاد.. وجاء في بيان للخارجية الروسية أن موسكو تعتبر دعوة أحد قادة المعارضة الاوكرانية علانية إلى تشكيل ما سماها بفرق الانتفاضة وتسيير دوريات في الشوارع وتنظيم حملات احتجاج عند مقار الادارات المحلية في المناطق الاوكرانية عملا مناقضا لتمسك المعارضة بالديمقراطية والقيم الاوروبية .
وقالت الخارجية الروسية ان ما يثير الدهشة هو ان تبني مثل هذه الخطوات الاستفزازية جاء في اعقاب اللقاءات التي عقدت مؤخرا في ميونيخ بين المعارضة الاوكرانية ومسؤولين غربيين.
تلك التطورات في الازمة مع تصعيد التظاهرات في كييف تمت على خلفية إعلان الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي خلال مؤتمر ميونيخ الاخير للأمن عن دعمهما لقادة المعارضة محذرين من مغبة تدخل الجيش الاوكراني في الازمة حيث عبر وزير الخارجية الأميركي جون كيري عن تضامن بلاده والاتحاد الاوروبي مع الشعب الاوكراني فيما وصفه بمعركة للتقارب مع أوروبا.. لافتا الى ان بلاده تدرس مسألة فرض عقوبات على حكومة كييف.. إلا ان روسيا انتقدت تصريحات المسؤولين الغربيين في هذا الشأن ووصفتها على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف بالتدخل في الشؤون الداخلية لأوكرنيا.
وعلى وقع الازمة الاوكرانية وتفاعلاتها انعقدت مؤخرا في بروكسل قمة مقتضبة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس المجلس الاوروبي هيرمان فان رامبوي ورئيس المفوضية الاوروبية جوزيه مانويل باروزو حيث انصب الحديث في جانب مهم منها على الازمة الاوكرانية وتبيين مواقف الطرفين الاوروبي والروسي منها.
المراقبون لتطورات وتفاعلات هذه الازمة التي يخشى ان تمتد آثارها السلبية في حال تصاعدت وتيرتها الى العلاقات الروسية الغربية يؤكدون أن الحوار هو السبيل الوحيد للخروج من الازمة وتجنيب البلاد الحرب الاهلية.. وبينما تجعل المعارضة من الحوار أمرا غير ممكن الحصول قريبا بإصرارها على مطالبها، فيما النظام يراوغ بالحوار ويلتف حول المطالب فإن من السابق لأوانه التكهن بنتائج هذه الأزمة وانعكاساتها.
http://sdarabia.com/preview_news.php?id=31053&cat=9#.UwT2ss7zpsZ