الفصل الأول: لمحة موجزة عن الأئمة الأربعة
الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله (80-150) هـ [1]
نسبه:
هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الفارسي، كان جده من أهل كابل، أسر عند فتح بلاده ثم مُنّ عليه، وأبو حنيفة - وإن كان مولى - لم يجر عليه الرق ولا على أبيه، بل كان حر النفس أصيلاً.
مولده ونشأته:
ولد أبو حنيفة رحمه الله في الكوفة سنة ثمانين للهجرة على رواية الأكثرين،
ونشأ وتربى بها، وعاش أكثر حياته فيها متعلماً ومعلماً.
ولد أبوه (ثابت) على الإسلام، ويُروى
أنه التقى بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه صغيراً، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته.
نشأ أبو حنيفة رحمه الله
في بيت إسلامي خالص، وابتدأ حياته تاجراً،
ثم لفته الشعبي فقيه الأثر -لما لمح فيه من مخايل الذكاء وقوة الفكر-
إلى الاختلاف إلى العلماء مع التجارة، فانصرف إلى العلم دون أن يهمل التجارة.
طلبه للعلم:
أخذ أبو حنيفة رحمه الله يطلب العلوم الإسلامية
التي كانت في عصره، فحفظ القرآن على قراءة عاصم، ودرس الحديث،
وعرف قدراً من النحو والأدب والشعر، وجادل الفرق المختلفة في مسائل الاعتقاد
وما يتصل به، ثم عدل إلى الفقه واستمر عليه واستغرق كل مجهوده الفكري فيه، وقد ذكر في اختياره للفقه قوله:
«كلما قلبته وأدرته لم يزدد إلا جلالة... ورأيت أنه لا يستقيم أداء الفرائض وإقامة الدين والتعبد إلا بمعرفته، وطلب الدنيا والآخرة إلا به».
ثم اتجه أبو حنيفة رحمه الله
إلى دراسة الفتيا على المشايخ الكبار الذين كانوا في عصره،
فلزم شيخه حماد بن أبي سليمان مذ كان في الثانية والعشرين
من عمره إلى أن مات شيخه وأبو حنيفة رحمه الله في الأربعين من عمره.
ومع ملازمة أبي حنيفة رحمه الله لشيخه حماد إلا أنه كان كثير
الرحلة إلى بيت الله الحرام حاجاً، يلتقي في مكة والمدينة
بالفقهاء والمحدثين والعلماء، يروي عنهم الأحاديث، ويذاكرهم الفقه،
ويدارسهم ما عندهم من طرائق.
وكان يتتبع التابعين أينما وجدوا،
وخصوصاً من اتصل منهم بصحابة امتازوا في الفقه والاجتهاد، وقال في ذلك: «تلقيت فقه عمر وفقه عبد الله بن مسعود وفقه ابن عباس عن أصحابهم».
وقد جلس الإمام أبو حنيفة في الأربعين من عمره
في مجلس شيخه حماد بمسجد الكوفة، وأخذ يدارس تلاميذه ما
يعرض له من فتاوى وما يبلغه من أقضية، ويقيس الأشباه بأشباهها والأمثال
بأمثالها بعقل قوي مستقيم، ومنطق قويم، حتى وضع تلك الطريقة الفقهية
التي اشتق منها المذهب الحنفي.
أخلاقه:
كان أبو حنيفة رحمه الله بالغ التدين،
شديد التنسك، عظيم العبادة، صائماً بالنهار، قائماً بالليل، تالياً لكتاب الله،
خاشعاً دائباً في طاعة الله، قام الليل ثلاثين سنة، وكان القرآن الكريم ديدنه وأنيسه.
ومن أخلاقه:
السماحة والجود، فقد كانت تجارته تدر
عليه المال الوفير رغم ورعه واكتفائه من الربح بالقدر اليسير، وكان
ينفق أكثره على المشايخ والمحدثين، اعترافاً بفضل الله عليه فيهم.
قال فيه الفضيل بن عياض رحمه الله:
«كان أبو حنيفة رجلاً
فقيهاً معروفاً بالفقه، واسع المال، معروفاً بالإفضال على كل من يطيف به،
صبوراً على تعلم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام،
حتى ترد مسألة في حلال أو حرام فكان يحسن أن يدل على الحق، رهاباً من مال السلطان».
منزلته العلمية ومصادر علمه:
كان الإمام أبو حنيفة
فقيهاً مستقلاً قد سلك في تفكيره مسلكاً استقل به وتعمق فيه، وقد بقيت أصوات الثناء تتجاوب في الأجيال تعطر سيرته، قال أحد العلماء: «أقمت على أبي حنيفة خمس سنين
فما رأيت أطول منه صمتاً، فإذا سئل عن شيء من الفقه تفتح وسال كالوادي، وسمعت له دوياً وجهارة بالكلام».
كما وصفه معاصره الورع التقي عبد الله بن المبارك بأنه مخ العلم، فهو قد أصاب من العلم اللباب، ووصل فيه إلى أقصى مداه.
صفاته:
اتصف أبو حنيفة رحمه الله
بصفات جعلته في الذروة بين العلماء، صفات العالم الحق الثبت الثقة،
البعيد المدى في تفكيره، المتطلع إلى الحقائق، الحاضر البديهة، الذي تسارع إليه الأفكار.
كان رحمه الله ضابطاً لنفسه، مستولياً على مشاعره،
لا تعبث به الكلمات العارضة، ولا تبعده عن الحق العبارات النابية،
كان يقول:
«اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له».
وقد أوتي استقلالاً في تفكيره جعله لا يخضع في رأيه إلا لنص من كتاب أو سنة أو فتوى صحابي.
كان مخلصاً في طلب الحق مما نور قلبه وأضاء بصيرته، فكان لا يهمه إلا الحق سواء كان غالباً أو مغلوباً، وكان لإخلاصه لا يفرض في رأيه أنه الحق المطلق،
بل يقول: «قولنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا».
هذه جملة الصفات التي جعلت من أبي حنيفة رحمه الله فقيهاً انتفع بكل غذاء روحي وصل إليه.
شيوخه والموجهون الذين التقى بهم وأثروا فيه:
التقى الإمام أبو حنيفة بعدد من الذين عمروا من الصحابة، منهم أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى، وسهل بن سعد رضوان الله عليهم، ولكنه لم يرو عنهم؛ إذ كان في سن لقائه بهم صغيراً، ولكن أجمع العلماء على أنه التقى بكبار التابعين وجالسهم ودارسهم وروى عنهم وتلقى فقههم.
وقد قال: «كنت في معدن العلم والفقه، فجالست أهله ولزمت فقيهاً من فقهائهم».
وهذا يدل على أنه عاش في وسط علمي،
وجالس العلماء وعرف مناهج بحثهم، ثم اختار من بينهم فقيهاً وجد فيه ما يرضي نزوعه العلمي،
وهو حماد بن أبي سليمان الذي انتهت إليه مشيخة الفقه العراقي في عصره،
فلزمه ثماني عشرة سنة.
وكان حماد قد تلقى معظم فقهه على إبراهيم النخعي فقيه الرأي، كما تلقى عن الشعبي فقيه الأثر، وهما اللذان انتهى إليهما فقه الصحابيين الجليلين عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وكانا قد أقاما بالكوفة وأورثا أهلها تراثاً فقهياً عظيماً.
ومن شيوخه عطاء بن أبي رباح الذي أخذ خلاصة علم ابن عباس رضي الله عنهما عن مولاه عكرمة، وكان أبو حنيفة رحمه الله يلازمه ما دام مجاوراً لبيت الله الحرام.
ومنهم نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما، وقد أخذ عنه أبو حنيفة رحمه الله علم ابن عمر وعلم عمر رضي الله عنهما.
وهكذا اجتمع للإمام أبي حنيفة علم عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم عن طريق من تلقى عنهم من تابعيهم رحمهم الله أجمعين.
ولم يقتصر الإمام أبو حنيفة على الأخذ عن هؤلاء الفقهاء؛
بل تجاوز ذلك إلى أئمة آل البيت فأخذ عنهم ودارسهم،
ومنهم الإمام زيد بن علي زين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وعبد الله بن الحسن بن الحسن.
محنته ووفاته:
عاش أبو حنيفة رحمه الله عصراً مليئاً بالمشاحنات والتيارات،
فقد أدرك دولتي بني أمية وبني العباس، ولما طلب منه ابن والي الأمويين على الكوفة أن يعمل معه امتنع،
فسجن وعذب، ثم هرب ولجأ إلى مكة، واتخذها مقاماً ومستقراً له من سنة (130-136) للهجرة،
فعكف على الفقه والحديث يطلبهما بمكة التي ورثت علم ابن عباس رضي الله عنهما.
ولما استتب الأمر للعباسيين عاد إلى الكوفة وأعلن ولاءه لهم، وتابع حلقات درسه في مسجد الكوفة، واستمر على ولائه للدولة العباسية، إلا أنه على ما يظهر انتقد موقف الخليفة المنصور من بعض آل البيت من أبناء علي رضي الله عنه، وكان حول الخليفة كثيرون
يحسدون أبا حنيفة رحمه الله ويوغرون صدر المنصور عليه، فكان أن عرض عليه الخليفة المنصور منصب القضاء امتحاناً لإخلاصه، فاعتذر الإمام عن قبول المنصب، تحرجاً من الوقوع في الإثم؛ لأنه يرى القضاء منصباً خطيراً لا تقوى نفسه على احتماله،
فتعرض لمحنة قاسية بسبب رفضه؛ إذ وجد الخليفة المنصور الفرصة مواتية للنيل منه،
فسجن وعذب، ثم أخرج من السجن على أن يفتي، فكان يُرْجِعُ المسائل ولا يفتي فيها بشيء، فسجن من جديد، ثم أخرج ومنع من الفتوى والناس والخروج من المنزل، فكانت تلك حاله إلى أن توفي رحمه الله سنة (150) للهجرة على أصح الأقوال، وقيل:
إنه مات مقتولاً بالسم في سجنه رحمه الله.
وكان قد أوصى أن يدفن بأرض الخيزران فحمل إليها، وقدر عدد من شيع جنازته وصلى عليها بخمسين ألفاً، وقد صلى المنصور نفسه عليها، إقراراً منه بعظمة دينه وتقواه،
وقال: "من يعذرني منك حياً وميتاً؟!"
فرحم الله الإمام أبا حنيفة، ورضي عنه وأرضاه.
الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة([2])« 93 - 179هـ »
نسبه:
هو إمام دار الهجرة، أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن
الحارث بن غيمان بن جثيل بن عمرو بن الحارث الأصبحي.
منقول