موضوع منقول
'داخل مصر.. ارض الفراعنة على حافة الثورة' لجون برادلي: عن ثلاثية الفساد والقمع والفقر
د.عماد عبد الرازق
' في مقابل كل خطوة سارها عبد الناصر الى اليسار، سار السادات خطوة الى اليمين. اما مبارك فهو يقول: لا تتحرك' .
هذه النكتة التي تتداولها الالسن في الشارع المصري، يوردها الصحافي البريطاني جون برادلي، في كتابه 'داخل مصر..ارض الفراعنة على حافة الثورة INSIDE EGYPT: THE LAND OF THE PHAROHS ON THE BRINK OF A REVOLUTION'، الذي صدرت طبعته الاولى في ايار (مايو) 2008 عن دار نشر 'بالغريف ماكميلان' في الولايات المتحدة.النكتة تلخص في رأيه محنة مصر الحالية، حين يرصد تفشي حالة من السلبية في اوساط المصريين مقرونة بتوقعات ان يمدهم 'الاخرون' باحتياجاتهم، ويردها الى عهد عبد الناصر، حيث تم الحط من قيمة المنافسة كمبدأ يستحث الناس على التقدم والابداع والابتكار.في المقابل فان المنافسة التي شجعها السادات بعد تبنيه سياسة الانفتاح، لم تكن تعني الخلق والابتكار، بل الحصول على مزايا من الدولة. والنتيجة النهائية- كما يقول المؤلف - هي ان عهد مبارك يجمع بين اسوأ ما في العالمين او التجربتين، الناصرية والساداتية.
هذه المقارنة التي ترد في الفصل الثامن والاخير من الكتاب بعنوان 'مصر بعد مبارك'، تشير من ناحية اخرى الى منهج الكتاب الذي ينطلق من تحليل اسباب فشل ثورة 23 يوليو من وجهة نظره في الفصل الاول بعنوان 'ثورة فاشلة'، ليقفز بعد ذلك سريعا على عهد السادات، الا انه يعود مكررا الى عهد عبد الناصر في مواضع عدة من فصول الكتاب ليرصد منشأ العديد من العلل المصرية الحالية.وهذا في رأينا خلل اساسي في الكتاب، ليس لنقده عصر عبد الناصر وانما لتجاهله تركة السادات، والتي ترسبت وترسخت العديد من اثقالها وعللها في عهد مبارك، خاصة وان السادات كان اول من تحدث عن فكرة 'التركة' هذه، حين قال في احدى خطبه 'ان عبد الناصر ترك له تركة مثقلة'.وهذا ما لم يقله مبارك عن السادات، لاسباب لا تحتاج لشرح او اسهاب، بل انه عمل طوال ربع قرن على تعميق هذا الارث الساداتي وترسيخه على كل صعيد، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.ولنفس هذه الاسباب فان النكتة المصرية اعلاه على طرافتها لا تعبر تماما عن واقع الحال، فليس صحيحا بالمرة ان شعار 'لا تتحرك' يعبر عن عهد مبارك، بل العكس تماما. فإلى جانب ترسيخ ميراث السادات وتعميقه، شهد الربع قرن الاخير، تدهورا على كافة صعد الحياة المصرية تقريبا، وهو ـ وللمفارقة - ما يفصله الكتاب ويسهب في شرحه وتحليله بل والتنبؤ باحتمالات المستقبل الحبلى بالتوقعات، وهو بالتأكيد انجازه الاساسي، في وقت تغيب فيه او تندر الكتب التي تتناول الحالة المصرية، ربما باستثناء كتاب 'ماذا حدث للمصريين؟' للدكتور جلال امين، استاذ الاقتصاد في الجامعة الامريكية بالقاهرة، والذي يذكره برادلي على نحو عابر.
عصر الضياع وفقدان الكرامة
في الفصل السابع بعنوان 'الكرامة الضائعة 'Lost Dignity يسلط المؤلف الضوء على مدينة الاقصر الغنية بالاثار الفرعونية في صعيد مصر، كاشفا جانبا خفيا من الحياة السرية للمدينة وعالم الزيجات الانتهازية غير المتكافئة بين اجنبيات عجائز وشبان مصريين في مقتبل العمر يسعون الى هذه الزيجات بوصفها قارب النجاة الوحيد المتاح امامهم لانتشالهم من الفقر المدقع والبطالة المتفشية.وبعد استعراض كتالوغ من العلاقات المشينة والفضائحية والتي تنتهي بعضها نهايات مأساوية، يخلص الكاتب الى نتيجة مفادها 'انه اذا كانت عطية ناصر الى المصريين انه منحهم احساسا بالكبرياء والفخر، فان لعنة مبارك تتمثل في انه خلق مناخا ثقافيا باتت الصفات الشخصية الوحيدة الممكنة فيه هي الانتهازية المشينة وافتقاد الكرامة.في بلد تقوم القطط السمان بنهبه على نحو محموم، وباتت فيه فضائح الوزراء الذين ينهبون ملايين الدولارات ويهربونها خارج البلاد الى البنوك الاجنبية روتينا يوميا، تصبح السرقة والخداع هي الطريق الوحيدة للمضي للامام في نظر الكثيرين'.( 195 (.
ويستشهد المؤلف في بداية هذا الفصل بالمخرج الراحل يوسف شاهين الذي كان يكن احتقارا شديدا للنظام العسكري المصري، وينقل عنه قوله في حديث ادلى به لصحيفة الكترونية في المانيا اسمها 'قنطرة': 'نحن نعيش في ظل ديكتاتورية مطلقة'.وعبر شاهين في الحوار ذاته عن فقدانه لأي امل ان تصبح مصر بلدا حرا ومتحررا في المستقبل، واصفا الاجيال الجديدة من الشباب بأنهم حشد من الارواح الضائعة بلا هدف لا هم لهم سوى مغادرة الوطن. ويقول شاهين' انا اراهم كل يوم مصطفين امام ابواب السفارات الالمانية والفرنسية، الجميع يريدون الهجرة.كنت دائما اقول للشباب لا تهاجروا..اذا كنتم قد تعلمتم فنحن نريدكم هنا.كنت 'دقة قديمة' في حينها لا افكر الا في جمال وطني.اليوم اقول لهم ارحلوا، ليس هناك من فرصة امامكم هنا.البلد غارق في الفساد.وببقائكم هنا ستصبحون فاسدين'.
هكذا اصبحت الوطنية قرينا لتفكير 'عفا عليه الزمن'، وهو اكثر ما يثير الحزن في كلام شاهين، على حد قول المؤلف.والفساد، ذلك الغول المعدي، هو بالضبط ما يصيب العديد من الشباب المصريين الذين تغلق امامهم ابواب الهجرة او الهروب، وهؤلاء هم المحظوظون، اذا جاز التعبير، فالاقل حظا هم هؤلاء العشرات الذين تنتهي بهم محاولاتهم للهروب من الوطن في قاع البحار، كما تشهد بذلك مآسي قوارب المهاجرين الغارقة. في هذا السياق يستعير المؤلف عبارة شكسبير من مسرحية 'الملك لير': بأن الأسوأ ليس حقيقة الأسوأ..طالما انه لا يزال بوسعنا القول هذا هو الأسوأ.( 198).
هل مصر دولة فاشلة؟
يخصص المؤلف الفصل السادس للفساد المتفشي في كل نواحي الحياة في مصر تقريبا، وكيف انه يتراوح من سائق التاكسي الذي يتحايل للحصول على بضع جنيهات زائدة عن الاجرة، وليس انتهاء بتزوير الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم الانتخابات عام 2005، والتي فاز فيها الرئيس مبارك الذي يحكم البلاد منذ عام 1981 بدورة رابعة، عن طريق اعادة ترشيح نفسه عبر البرلمان ثم اقرار هذا الترشيح عبر استفتاء دون أي معارضة تذكر.ليس هذا حكم المؤلف، بل تقريرا صادرا عن 'صندوق السلام FUND FOR PEACE'، وهي منظمة حقوقية مستقلة لابحاث التعليم مقرها واشنطن.نفس هذا الصندوق وضع مصر في المرتبة السادسة والثلاثين من بين 177 دولة اخرى اعتبرت في عداد 'الدول الفاشلة'.وهو مصطلح يمكن ان يعني اما ان الدولة فقدت السيطرة المادية على اراضي البلد، كما في الصومال وافغانستان، او انها فقدت سلطتها في تنفيذ القرارات وتقديم الخدمات الاساسية لمواطنيها، وان تعمل ككيان متكامل ومتجانس والممثل الوحيد للبلد على الصعيد الدولي.ويضع الصندوق 12 معيارا لقياس مدى فشل الدولة، وقد حصلت مصر على 9 من 10 على معيار تجريم الدولة وافتقارها للشرعية وهو ما يمكن ان يعني 'تغلغل الفساد على نحو وبائي، او تكسب النخب الحاكمة ومقاومتها للشفافية، والمساءلة والتمثيل السياسي للناس ومصالحهم، وتفشي فقدان الناس في مؤسسات الدولة على نطاق واسع، ونمو وانتشار عصابات اجرامية على صلة بالنخب الحاكمة.كما حصلت مصر على 8.5 من 10 على مقياس تعليق العمل بالقوانين او تطبيقها تعسفيا، وتفشي انتهاكات حقوق الانسان، وتفتت النخب وتشرذمها الى مجموعات نفعية تحكمها ولاءات ومصالح انانية مشتركة، واستخدام الشعارات القومية البلاغية الجوفاء من قبل النخب الحاكمة.وينقل المؤلف عن الصحافي مجدي الجلار، رئيس تحرير 'المصري اليوم' قوله في كلمة القاها ضمن ملتقى بحثي بعنوان 'نحو مزيد من الشفافية في الاسواق المحلية'، ان هناك حالة فساد تسجل كل دقيقتين في مصر، وان نسبة لا تتعدى واحد من عشرة من هذه الانتهاكات يتم ضبطها.
وفي تقرير آخر اعدته جماعة 'كفاية' المعارضة في نحو 220 صفحة، يشير المؤلف الى مناحي الفساد العديدة، بدءا من توزيع المبيدات المسرطنة بواسطة وزارة الزراعة في عهد يوسف والي (1981- 2003)، وقائمة باسماء رجال اعمال وبرلمانيين متورطين في قروض بنكية غير قانونية تقدر ببلايين الدولارات، وعمليات تزوير ارقام البطالة والتضخم طوال ربع قرن من سوء ادارة الاقتصاد، فضلا عن تفشي الفساد، والكوارث الطبية في مستشفيات الحكومة نتيجة اهمال الاطباء الذين يتقاضون مرتبات هزيلة.
فضلا عن انتشار التعذيب وظاهرة اطفال الشوارع، وعددهم في القاهرة وحدها يتجاوز مليون طفل. ويصف التقرير الفساد بانه مرض عضال اصاب كل اعضاء المجتمع واجهزته الحيوية، بدءا من الضابط الذي يتقاضى 5 جنيهات ليتغاضى عن مخالفة مرور، وصولا الى اعلى مراتب الدولة وحتى الرئيس نفسه الذي يصفه التقرير بالمفسد الاكبر.
ويختتم المؤلف هذا الفصل الحافل بشهادات وتقارير لمنظمات دولية ومصرية حول حجم الفساد في مصر، بشهادة للكاتب الروائي صنع الله ابراهيم قدمها امام وزير الثقافة ونخبة من المثقفين والادباء بمناسبة منحه جائزة الرواية من 'نادي القصة' 2003، والتي قال فيها 'ليس لدينا مسرح ولا سينما ولا بحث علمي ولا تعليم، لدينا مهرجانات ومؤتمرات وحفنة من الاكاذيب.ليس لدينا صناعة ولا زراعة ولا صحة ولا تعليم ولا عدالة، الفساد والنهب ينتشران وكل من يعترض عليهما يتعرض للمهانة والضرب والتعذيب.وقد القت بنا الاقلية الانتهازية في واقع رهيب'.وقد اعلن ابراهيم في ختام كلمته رفضه تقبل الجائزة لانه صادرة عن حكومة ليس لديها مصداقية تخولها منح الجوائز اصلا، على حد قوله.
التعذيب: ضحاياه وجلادوه..ادواته وطرقه
في الفصل الخامس الذي يخصصه المؤلف للتعذيب، يتتبع وقائع مأساة صبي في الثالثة عشرة من عمره قبض عليه لأنه سرق باكو شاي وتعرض لتعذيب شرس أدى في النهاية الى وفاته.ويستخلص المؤلف من هذه وحوادث وممارسات اخرى عديدة ان هناك ثقافة للتعذيب متفشية في المجتمع وانها' لا بد وانها كانت موجودة منذ وقت طويل، تحميها ترسانة من القوانين الملتوية، في مقدمتها قانون الطوارئ الذي تحكم به مصر من عدة عقود، ومن ثم باتت ممارسات التعذيب بمعزل تام عن اجراءات تطبيق القانون التي نشأ التعذيب اصلا كأحد وسائله، بل صار التعذيب غاية في حد ذاته'. والاخطر من هذا، يشير المؤلف الى ان دراسات اجريت على جرائم التطهير العرقي والابادة الجماعية، بينت ان اشخاصا عاديين جدا ومواطنين شرفاء وصالحين يمكن ان يتحولوا بمنتهى البساطة الى قتلة ومعذبين اذا ما كان النظام القائم يخلق بيئة تضمن حصانة هؤلاء الذين يتورطون في جرائم من هذا النوع، بل انهم يصيرون اكثر جرأة وشراسة كلما ادركوا انهم فوق القانون.وهذا بالضبط هو ما فعلته الدولة المصرية وساهمت في انتشار التعذيب.
وفي هذا الصدد يكشف المؤلف عن ارقام ذات دلالة هامة، حيث يشير الى ان ميزانية قوات الامن تبلغ 1.5 بليون دولار، اكثر من ميزانية الرعاية الصحية، ويبلغ عدد قوات الامن 1.4 مليون جندي، وهو رقم يبلغ اربعة اضعاف القوات المسلحة.ووفقا لمنظمة حقوق الانسان المصرية، فان عدد السجون تضاعف عشر مرات في الخمسة والعشرين عاما الماضية، في حين ان تعداد السكان لم يتضاعف سوى مرتين في الفترة ذاتها، وفي حين ان عدد المعتقلين لاكثر من عام دون توجيه اتهامات او محاكمة زاد عن عشرين الفا. وذلك وفقا لتقرير منظمة حقوق الانسان المصرية.وعن تقرير اخر للمنظمة نفسها صدر في 2007، نقرأ تفاصيل عن اعداد ضحايا التعذيب الذين يقدرون بالمئات في العقود التالية 'التعذيب في مصر منهجي ومنتظم، على النقيض تماما من مزاعم وزارة الداخلية، ليس مجرد حالات فردية.وبين عامي 1993 وتموز/يوليو 2007 تم توثيق 567 حالة تعذيب، توفي 167 منهم كنتيجة مباشرة للتعذيب.ولا تمثل هذه الاعداد سوى قمة جبل الجليد، فهناك المزيد من المئات الذين لم يكتب لهم بعد ان يروا ضوء النهار.وفي هذا يشير المؤلف الى ان المعتقلين في مصر- وكما هو متوقع- يحرمون تماما من أي اتصال بالعالم الخارجي، وبالتأكيد بأهلهم وذويهم، بل هناك العديد ممن يعتقلون في سرية تامة. وهؤلاء واولئك نادرا ما يشار الى اعتقالهم، بل كل ما يعرف عنهم هو انهم 'اختفوا' فجأة. اما اكثر وسائل التعذيب استخداما في المعتقلات المصرية فتتضمن الضرب المبرح، والصدمات الكهربائية، والتعليق من الرسغين، او الكاحلين، او في اوضاع صعبة لفترات طويلة، الى جانب تهديد المعتقلين اذا لم يعترفوا بان اهاليهم سيتم قتلهم او اغتصابهم او انتهاكهم جنسيا بطرق مختلفة. هذه الوسائل قد تبدو مألوفة جدا للقارئ 'الغربي'، حسب المؤلف، لسبب بسيط جدا، هو ان هذه الوسائل تحيل مباشرة الى فضيحة التعذيب الكبرى التي صدمت العالم في السنين القليلة الاخيرة، ويعني بها ابو غريب، حيث تابع العالم صور العراقيين عراة، معصوبي العينين، مكومين فوق بعضهم البعض، او تحت تهديد الكلاب، وكأنما لا جديد تحت الشمس. (اخبرني صديق مطلع، ان الذين مارسوا عمليات التعذيب الفعلية في ابو غريب كانوا ضباطا وجنودا عربا، واكتفى الامريكان بالظهور في الصور، والعهدة على الراوي).
إنتهي الجزء الاول
إلي الجزء الثاني ..=>