أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، اذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بالاطلاع على القوانين بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة المواضيع التي ترغب.

رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨)

حفظ البيانات؟
الرئيسية
التسجيل
الدخول
فقدت كلمة المرور
القوانين
البحث فى المنتدى


 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول



 

  رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
mi-17

المدير
وزيــر الدفــاع

المدير  وزيــر الدفــاع
mi-17



الـبلد :  رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Qmdowc10
المزاج : الحمد لله
التسجيل : 23/02/2013
عدد المساهمات : 43668
معدل النشاط : 58332
التقييم : 2408
الدبـــابة :  رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) B3337910
الطـــائرة :  رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Dab55510
المروحية :  رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) B97d5910

 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) 1210

 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Best11


 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Empty

مُساهمةموضوع: رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨)    رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Icon_m10الثلاثاء 10 أبريل 2018 - 16:52

تمهيد

طالما ترَدَّدتُ في تسطير أيّ شيء لا عن حرب فلسطين (1948) ولا عن "معركة جَنين" وقائدها "المقدم الركن عمر علي" وقتما كان آمراً للفوج الثاني من اللواء الجبلي الخامس، ولم تَطُلْ سوى يومَي (3، 4/حزيران/1948) خلال تلك الحرب، فقد نُشِرَ عنهما العديد من الكتب والبحوث والدراسات والمقالات، وتردَّد إسمهما في معظم المناسبات الوطنية والعسكرية بداعٍ ومن دونه، فضلاً عن عدم عثوري -في حينه ولغاية يومنا الراهن- على قاعدة مادية رصينة وموثّقة ونبذة رسمية عن "معركة جنين" وخطّتها وتفاصيل تنفيذها وإحراز ذلك النصر الناجز فيها.
ولكن إصرار العديد من الأصدقاء والمتابعين بضرورة نشر ما إمتلكه -على تواضعها- لا سيّما وأني إستقيتُها في أواسط الستينيات على لسان العم "اللواء الركن المتقاعد عمر علي" من معلومات -ولو كانت عابرة- جعلني أخوض هذه المقالات التي أستشعر بها ضعيفة وغير وافية ولا تشفي طموحي، رغم صَقلي لرواية "الباشا" بالإعتماد على روايات كل من:-
1. الزعيم (العميد) الركن الدكتور شكري محمود نديم- أحد ضباط ركن القيادة العراقية خلال حرب فلسطين.
2. العميد "شاكر محمود السامرائي"- أحد ضباط الفوج/2- اللواء الجبلي/5 الخائض لـ"معركة جنين" مع آمره "المقدم الركن عمر علي".
3. مذكرات "أمير اللواء الركن حسين مكي خماس" عن حرب فلسطين، والتي حققها وأصدرها نجله "اللواء الركن علاء الدين".
4. موسوعة تأريخ القوات العراقية المسلّحة -الجزء الثالث- الصادرة من وزارة الدفاع، للفترة (3/10/1932- 14/7/1958).


 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Subhi.N.Tfiq.1

زياراتي للعم "عمر علي"

منذ أواسط الخمسينيات كنتُ صبياً يصطحبني والدي -الموظف لدى مديرية النفط العامة- وإبن عمّه "العقيد مصطفى عبدالقادر آل يحيى بك" في البعض من زياراتهما لـ"أمير اللواء الركن عمر علي باشا" وقتما عُيِّنَ متصرفاً (محافظاً) للواء (محافظة) السليمانية... ولكن زياراتي الشخصية -بمعدلات شبه شهرية- تكررت لمقامه بمسكنه في حيّ "الوزيرية-بغداد" حينما غدوتُ ضابطاً بالحرس الجمهوري منذ (1964)، وبالأخص لـمّا إستشعرتُ بإرتياحه وسرد أحاديثه على مسامعي من دون تحفّظ يُذكَر.
كنتُ توّاقاً لسماع أمور كثيرة عن هذا "الرجل-الرجل" الذي ترك بصماته ضابطاً لامعاً تدرَّجَ في الرتب والمناصب بشكل مثالي منذ عام (1931) حتى أمسى قائداً للفرقة الأولى من الجيش العراقي يُشار له بالبنان في أوساطه وكل أرجاء وطنه.
وقد سجّلتُ الكثير مما رواه وسط أجنداتي السنوية -التي نصَحَني هو بذلك- كي لا أنسى الأحداث بإنقضاء الزمن، مكرراً ندَمَه الشديد لعدم تسجيلها وقائع (29) عاماً قضاها بالخدمة العسكرية لغاية يوم (14/تموز/1958) وما تلاه من مهازل محاكمته أمام "المحكمة العُليا الخاصة" برئاسة "العقيد فاضل عباس المهداوي" وحكم الإعدام -المتعجرف واللامَعقول- الذي صدر بحقه عام (1959) قبل إطلاق سراحه بعد (سنتين ونصف) قضاها بـ"السجن رقم/1".


 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Omarali.48

حديث "عمر علي" عمّا قبل "حرب فلسطين"

رجوتُ من "العم عمر" أن يخصص لي بضع ساعات من وقته ليتحدث عن "معركة جنين" التي طالما طرَقَت أسماعنا منذ إلتحاقنا تلاميذ بالدورة/41 في الكلية العسكرية، فلبّى ذلك في أمسية ما بعد صلاة التراويح مساء ذلك اليوم الرمضاني المبارك الذي توافق (الثلاثاء-12/1/1965) وبين يديّ قلم وأوراق لأسطّر رؤوس نقاط عن أهم ساعاتها، قبل أن أعود إلى "تشريفات القصر الجمهوري" في تلك الليلة وأسهر حتى السحور لأحوّلها إلى شبه مقالة:-
عمر باشا:- لماذا تصرّ -يا ولدي- على معركة جنين؟؟
أنـا:- أطمح في سماع وقائعها من مقامك العالي دون غيرك، ففي الكلية العسكرية كان معلّمونا يستجلبون إسم "معركة جنين" مرادفاً لإسمك من دون أن يُفَصّلوها، وبعد التخرّج نسمع بها كثيراً وكأنها "جناق قلعة"... فما الحقيقة؟؟؟
عمر باشا:- لمعلّميكم الحقّ في ذلك، فـ"معركة جنين" -رغم إعتزازي بها والشهرة التي إكتسبتُها فيما بعد- لم تكن بمقام معركة كبيرة خُطِّطَت لها وحُشِّدَت قطعات من أجلها المشاة والمدفعية والهندسة وخُصِّصَت لها الطائرات، بل كانت أشبه بـ"معركة هجومية تصادفية" وعلى شكل ((فَزعَة عشائرية)) خاضها فوج مشاة جبليّ واحد لم تُسنِدُه حتى المدافع، وأحرز إنتصاراً سريعاً خلال يومَين فقط من القتال... فشتان بينها ومعارك "جناق قلعة" -التي طالت (7) أشهر متلاحقات وخاضتها أعتى أساطيل العالم المتقدم وتشكيلات جيوشها في حينه- فالبَونُ بينهما شاسع لا يتقبّل المقارنة.
أنـا:- عجيب ما أسمعه منك يا عمّ... أرجو تنويري.
عمر باشا:- قبل الخوض في "معركة جنين" لا بدّ أن أُلخّص لك كيفية إندلاع حرب فلسطين عام (1948) كي تكون ببعض الصورة:-

• ثلاثة عقود سبقت "حرب فلسطين":- على إثر وعد وزير الخارجية البريطانية "آرثر جيمس بلفور" لليهود عام (1917) لتأسيس كيان لهم في "فلسطين"، والذي أصدره قبل (خمسة) أيام فقط من إستكمال البريطانيين -بالتعاون مع من سمّوا أنفسهم بـ"الثوار العرب" منذ (1916)- الإستحواذ عليها من أيدي العثمانيين الذين أبَوا تركَها رغم مُغرَيات أعاظم الدول وضغوط كبرَياتها ولم ينسحبوا منها إلاّ بعد (3) سنوات من القتال العنيف، فقد أسرع اليهود المتشرذمون من معظم أرجاء العالم بتحقيق هجرات مُخَطَّط لها ومُنسّقة إلى "فلسطين" -التي غدت مستعمَرة بريطانية-

 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Om.Ali.1

تدعمهم دول عظمى وتموّلهم مؤسسات رؤوس أموال صهيونية كبرى وتسلّحهم وتُنشِئ لهم مآوٍ ومساكن لائقة لترغيب أقرانهم في اللحاق بهم بـ"أرض الميعاد"، حتى إنبثقت في ربوعها منظمات مسلّحة سُمّيَت (عصابات) -بمباركة الإنكليز الذين غضّوا الطَرفَ عن بناء المئات من المستوطنات المُحصَّنة في ربوع أصحابها بشتى أساليب الترغيب قبل الترهيب، حتى قويت شوكة الصهاينة بإنقضاء الأعوام حتى باتوا مؤثرين في ميادين المال والسياسة والقوة المسلّحة.

 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Om.Ali.2
 
• الإنكليز يتركون فلسطين:- وفي ظلّ تلكم المواقف وسواها وتحت ذرائع مُعلَنة بعدم تمكّن "بريطانيا" بعظمتها وأساليبها فرض الأمن على هذه البلد الصغير جغرافياً!!! وعجزها في تقريب وجهات نظر الطَرَفَين المتخاصمَين قُبَيلَ صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في (20/11/1947) القاضي بتقسيم "فلسطين" المُنتَدَبة إلى دولة عربية وأخرى يهودية.
وأكبر الظن أن قادة اليهود قد فرشوا خريطة "فلسطين" مع البريطانيين وإنتقوا موانئ مطلّة على البحر الأبيض ومرتفعات ومدناً وأماكن جميلة كما شاؤوا، قبل أن يقرر الإنكليز إنهاء إنتدابهم وسحب قواتهم ودوائرهم الإدارية من هذه البلاد يوم (15/5/1948) رغم يقينهم من ريح هوجاء ستعصف بها... وليكن ما يكون.

    رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Om.Ali.3

الموقف العام قُبَيلَ الحرب

• مواقف القادة العرب:- من دون الخوض في تفاصيل المواقف المترددة والـمُخزِية للقادة العرب وجامعتهم -التي لم تجمعهم- وقراراتهم الـمُخجِلة وجيوشهم المتواضعة وإجتماعاتهم ولجانهم التي لم تتمخض عنها -طيلة أشهر- سوى قرارات بائسة سطّروها على الورق وردّدوها في وسائل إعلامهم وإعلاناتهم، وبعد إخفاقاتهم منذ أوائل (1948) في تشكيل "جيش الإنقاذ" الفلسطيني جراء خلافاتهم مع مفتي فلسطين "الحاج محمد أمين الحُسًيني" -لأسباب معروفة- بدعم منظمته المسمّاة "الجهاد المقدّس"، ناهيك عن ((جَرّ هذا وعَرّ ذاك))، فإنهم لم يتفقوا -حتى قبل شهرين من موعد الإنسحاب البريطاني المُزمَع- على مجرد قرار (وَرَقيّ) لتأسيس "قيادة عامة عربية عسكرية مشتركة" وتحشيد بضعة تشكيلات من جيوشهم النظامية لينقذوا "فلسطين".

    رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Alhusayni

• العراق السَبّاق لإنقاذ فلسطين:- ورغم الأقاويل -الجائرة والظالمة- بعمالة النظام الملكي العراقي لبريطانيا، فقد إنفرد "الأمير عبدالإله-الوصيّ على العرش" بإتخاذ قرارات سبق بها جميع القادة العرب المتاخمين لـ"فلسطين" (لبنان، سوريا، الأردن، السعودية، مصر) لمحاولة منع قيام "دولة إسرائيل"..

     رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Abdulelah.B1

فقد لَبّى نداء دعم الفلسطينيين والمملكة الأردنية الهاشمية بالأموال والسلاح والخبرة والمَشوَرة، وأسنَدَ قيادة "جيش الإنقاذ الفلسطيني" -المتفَّق تأليفه من متطوعين فلسطينيين وعرب ومسلمين- إلى معاون رئيس أركان الجيش العراقي "أمير اللواء الركن إسماعيل صفوت"... ووافق على إنتداب "العميد (الفريق أول) الركن المتقاعد طه الهاشمي" مفتشاً عاماً لذلك الجيش -المُفتَرَض- للإشراف على تنظيمه وتجهيزه وتدريبه، قبل تنسيبه لـ"الهاشمي" خبيراً عسكرياً للأمين العام للجامعة العربية "عبدالرحمن عزام باشا"، فضلاً عن إيفاده "أمير اللواء الركن المتقاعد نظيف الشاوي" إلى "القاهرة" ليغدو عضواً رئيساً لـ"لجنة فلسطين العليا" لدى الجامعة العربية.

      رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Taha.Hm.07      
 
 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Nadif.Sh
                                 
 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Om.Ali.4

وكان "الوصي عبدالإله" من أكثر الزعماء العرب في جولاته المكوكية بين القادة المعنيين ومن أسرع المندفعين بالإجراءات العسكرية المُنتظَرة وتحقيق إجتماع حاسم لرؤساء أركان الجيوش العربية مع إقتراب الموعد المقرر لترك الإنكليز لـ"فلسطين"... وهو الذي أوعز للبعثة العسكرية البريطانية ورئيسها "الجنرال رنتن" بمغادرة العراق قبل أشهر من الحرب، فيما لعب رئيس أركان الجيش العراقي "الفريق صالح صائب" أعظم الأدوار وأبرزها بين الزعماء العرب في تقريب وجهات النظر وتقادير المواقف مقارنةً مع أقرانه من القادة العسكريين العرب .  

  رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Salih.Sb.Jb

وكذلك أوعز في أواخر (نيسان/1948) بتحريك "القوة الآلية" (بمستوى لواء مؤلّف من فوج مشاة آلي وكتيبة مدرعات تسندهما كتيبة مدفعية) خلال (48) ساعة بقيادة "الزعيم (العميد) طاهر الزبيدي" لتتحشّد في ضواحي مدينة "المفرق" الأردنية -على مبعدة (80) كلم من نهر الأردن"- فتغدو ((أول تشكيل عربي عسكري نظامي)) يغادر أرض وطنه مبكراً قبل أية قوة نظامية عربية، لتمهّد لإستقبال تشكيلات عراقية أخرى.

             رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Tahir.M.Zb

• تشكيلات عراقية تتلاحق إلى الحرب:- وتحرك من معسكر "المُسَيَّب" جحفل لواء المشاة/1- الفرقة/1 وآمرها "العقيد الركن عباس علي غالب" وبإمرته جحفل الفوج/1-اللواء المشاة/15 من الفرقة ذاتها،

                رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Abasali.G           

وتم إستحداث "مقر خط مواصلات" بإمرة "الزعيم (العميد) الركن أمين خاكي" لتأمين الأمور الإدارية والتموينية، إلى جانب تأسيس "قيادة ميدانية للقوات العراقية" -بمستوى مقر فرقة- وأُنيطت مسؤوليتها لشخص "اللواء الركن نورالدين محمود" قائد الفرقة/1... فيما تم تكليف "اللواء الركن إسماعيل صفوت" ليرضى بالعمل بصفة رئيس لأركان تلك القيادة.


 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Noradinmahmood

وقد أُلحِقَ العديد من وحدات المخابرة والمدفعية والدفاع الجوي والتموين والنقلية والتصليح والطبابة، ووُضِعَ سرب من طائرات القوة الجوية بإمرته في "مطار المَفرَق"، قبل أن يُتّفَق على إناطة مسؤولية إدارة جميع عمليات القوات العربية النظامية وغير النظامية إلى "اللواء الركن نورالدين"، مُرتَبِطاً بـ"الملك عبدالله بن الحسين" -بصفته القائد الفخري الأعلى للجيوش العربية- حيث كان الـمُفتَرَض أن تُباشر القوات المتحشدة بعملياتها التعرضية بتوقيت واحد مع فجر (15/5/1948) مستهدفةً مدناً وبقاعاً إحتلّها الصهاينة في "فلسطين".
أنـا:- يا عمّ عمر... كل معلوماتي المتواضعة عن تلك الفترة أن السيد "نورالدين محمود" كان برتبة "فريق أول ركن" ورئيساً لأركان الجيش العراقي.
عمر باشا:- كلاّ مطلقاّ... فـ"نورالدين محمود" في ذلك الحين كان ما زال برتبة "أمير لواء ركن" قائداً للفرقة الأولى ومقره بمعسكر الديوانية... أما رئيس أركان الجيش العراقي -منذ عام (1944) وخلال حرب فلسطين ولغاية (1951) ولسبع سنوات متلاحقات- فقد كان العسكري المُبدِع "العميد (الفريق أول الركن) صالح صائب الجبوري".
أنـا:- ولكن طالما سمعنا عن كون "اللواء مصطفى راغب باشا" قائداً للقوات العراقية في فلسطين... فما الحقيقة؟؟؟
عمر باشا:- هذا موضوع ثانٍ وشائك ربما سأتطرق له بعدئذٍ... فلا تقطع سلسلة أفكاري.
أنـا:- تأمر باشا... ولكن إسمح لي بسؤال لا أستطيع إرجاءَه:- هل تحركت كل هذه القوات العراقية والعربية لأجل القضاء على ((عصابات صهيونية))؟؟؟!!!
عمر باشا:- أية عصابات يا ولدي؟؟؟ هذه تسمية يرددها الإعلام العربي المخادِع للشعوب إستخفافاً -مُعتاداً في نفوسهم- باليهود وإسرائيل وكل خصومهم، فواقع الحال كان نقيض ذلك.
فقد باشر الصهاينة منذ العشرينيات بتأسيس فصائل مسلّحة بمثابة "جيش شبه نظامي" في أرض "فلسطين" -المحتلّة بريطانياً- بالإفادة من مهاجرين يهود سبق وأن قاتلوا وسط جيوش أوروبية وأمريكية خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وطوّروا ذلك الجيش بإنضمام ضباط وجنود خبروا قتالات شرسة بأفتك الأسلحة في أعوام الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، بل أن "إسرائيل" -فور القرار الدولي على إنبثاقها عام (1947)- بادرت إلى تحويل تلك الفصائل إلى جيش نظامي على شكل (سبعة جحافل ألوية متكاملة تمتاز بسرعة الحركة) تحت قيادة رئيس الأركان "الجنرال يعقوب دوري"

         رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Jakob.Dr
                      
الذي أشرف على تجهيزه سراعاً بالهاونات والرشاشات وأسلحة مقاومة الدبابات والدفاع ضد الجو والمعدات الحديثة، وستأتيه عشرات الدبابات والمدرعات والمدافع والطائرات المقاتلة والقاصفة والنقل التي اُغدِقَت عليه -دون مقابل مادي- من أفضل ما إستثمرته "بريطانيا وأمريكا والإتحاد السوفييتي" من سلاح متطور خلال تلك الحرب العظمى، بل وأصروا على تحويل قواتهم من مشاة يسير على قدميه إلى جيش آلي ذي قابلية حركة ميدانية مشهودة، ناهيك عن إستيلائهم على -أو إستلامهم- معسكرات جاهزة ومطارات متكاملة تركتها "بريطانيا" سائبة في أرض "فلسطين"، فأمسى الجيش الإسرائيلي محترفاً ومهنياً يتفوق بقدراته وإمكاناته على أي جيش عربي بمفرده... أما منظماتهم المسلّحة -وبضمنها النساء القادرات على حمل السلاح- فقد أُنيطت إليها مهمات حماية الأمن الداخلي والمباني والدوائر وسط المدن والبلدات وإنشاء نقاط محصّنة بالكونكريت شكّلت خطوطاً متعاقبة لدرء الأخطار عن مستوطناتهم، فيما تحوّل عدد من تلك المنظمات إلى أشبه ما تكون بـ"قوات خاصة" تُغير على الفلسطينيين مراراً وبشراسة فتُرغمهم على هجر منازلهم وقراهم... وقد سعت رئاسة أركانهم لإتباع مبدأ ((المبادأة)) بعمليات تعرضية إبتغاء نقل المعركة إلى أرض العرب وعدم إنتظار هجماتهم المفترضة على اليهود في البقاع المستولى عليها، وقد توفّقوا في ذلك كثيراً فور إندلاع الحرب وخلالها... فلا تصدّق الأقاويل عن كونَهم مجرد ((عصابات)).
أنـا:- وماذا عن جيوش العرب؟؟
عمر باشا:- كانت ضئيلة العَدَد قليلة العُدَد بَخُلَ عليها الزعماء السياسيون لرداءة إقتصاد دولهم.
أنـا:- وكيف تم تحشيد القوات العربية؟؟؟
عمر باشا:- قَدَّرَ رؤساء أركان الجيوش العربية، وأبرزهم "الفريق الركن صالح صائب" -قبل أسابيع من موعد ترك البريطانيين لـ"فلسطين"- أن يتم تحشيد ما لا يقل عن (خمس) فرق نظامية كي تتفوق على العدو بالعَدَد فتقتحم "فلسطين" بعمليات مشتركة سريعة وتحت قيادة مُوحَّدة من جميع المحاور المتاحة لإستحصال الغاية المُرتَجاة وبأسرع وقت ممكن قبل أن يتدخل العالم لصالح اليهود... ولكن الزعماء السياسيين بمجموعهم (عدا العراق) لم يوافقوا على تحشيد ما يزيد على فرقتين قبل (15/5/1948)، على أمل مُضاعفة العدد تباعاً حسب تطورات المواقف.
أنـا:- والآن هل لك -يا عمي العزيز- أن تنوّرني عن الخطة العامة للهجوم العربي على المناطق المستحوَذة عليها يهودياً؟؟
عمر باشا:- من الطبيعي أني لم أطلع على هكذا مستوى في حينه، فقد كنتُ ما زلتُ بمنصب آمر فوج في شمالي الوطن، ولكني علمتُ بها فيما بعد... وملخّصها:-
• "الملك عبدالله بن الحسين" القائد العام (الفخري) للقوات العربية.
• القائد العراقي "اللواء الركن نورالدين محمود" وكيلاً عن القائد العام في وضع الخطط وتوجيه جميع القوات العربية مع فجر يوم (15/5/1948)، وقد إلتحق تحت إمرته ضابط إرتباط من كل جيش عربي مشارك للتنسيق مع قياداتهم.

خطة المرحلة الأولى

إستهدفت خطة المرحلة الأولى من الحرب تشتيت المستوطنات اليهودية إلى أجزاء وتحريم التعاون فيما بينها تمهيداً للمرحلة اللاحقة لبلوغ "حيفا وتل آبيب":-
• القوات اللبنانية:- (ربما فوج واحد) يتبع محور ساحل البحر الأبيض من "رأس الناقورة" نزولاً نحو "ميناء عكّا".
• القوات السورية (لواء واحد فقط):- يندفع على محورين من مرتفعات "الجولان" بإتجاه مدينتَي "صفد والناصرة".
• القوات العراقية (حوالي فرقة):- تجتاز "نهر الأردن" من قاطع "إربد" مستهدِفةً "قلعة كيشر- كوكب الهوى- مرتفعات العفولة"، والتي عُدَّت الجبهة الأهم والأقرب لبلوغ سواحل البحر الأبيض.
• الجزء الأصغر من الجيش الأردني (بمستوى فوج):- يتعاون مع القوات العراقية لدى عبورها "نهر الأردن" نحو "بيسان- العفولة".
• الجزء الأكبر من الجيش الأردني (عدد من الأفواج):- يتوجه من "جنين" مستهدفاً مدينة "العفولة" ليلتقي فيها القوات العراقية.
• القوات المصرية (لواء واحد فقط):- يتحرك على محورَي "غزة- عسقَلان" و"بئر السبع- مدينة الخليل".

    رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Om.Ali.6
               
أنـا:- وهل طُبِّقَت تلك الخطة؟؟
عمر باشا:- ولا 10%!!!! للأسباب الآتية:-
• قبل كل شيء كانت القوات اليهودية قد بادرت للإستيلاء على المعسكرات والأسلحة التي تركها البريطانيون سائبة منذ أواخر (1947) واوائل (1948)، وشنّوا هجمات هنا وهناك وأزعجوا القوات الأردنية التي كانت متمركزة في المدن الفلسطينية، فقرر رئيس أركان الجيش الأردني "الجنرال البريطاني كلوب باشا" سحب القوات الأردنية منها، ما أتاح للصهاينة فرصة ثمينة للإستحواذ على المزيد من المواقع ذات الأهمية، والتجاوز على بقاع كثيرة من حدود الجزء العربي من "فلسطين المقسّمة"، وبضمنها أحياء عربية وسط "القدس".

             رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Glop.pashaa
           
• وفوق كل ذلك كانت المنظمات اليهودية المسلّحة تتمركز في بقاع عديدة حالما يُفرِغها البريطانيون، ويُنشئون تحصينات على جانبَي الطرق العامة المتشابكة ويزرعون متفجرات لفلق الجسور والقناطر إبتغاء تأخير القوات العربية التي تهدد (إعلامياً) بإسترداد كامل "فلسطين" من أيديهم.
• وحسب الخطة المفترضة للعمليات المشتركة، لم تستطع القوة اللبنانية من إجتياز "الناقورة" نحو الجنوب تحت ذريعة شدة المقاومة اليهودية... فيما تقدمت الجيوش العربية الأخريات مجتازة الحدود الفلسطينية بدون تنسيق ولا إلتزام بقرار القيادة الموحدة، فيما لم يندفع الجيش الأردني بإتجاه "بيسان" ولم يتقدم نحو "جنين-العفولة." ولم ينفّذ "كلوب باشا" إتفاق العودة بقواته إلى "القدس"!!!
• كانت وحدات القوة الآلية من الجيش العراقي بقيادة "الزعيم (العميد) طاهر الزبيدي" ((المنفّذة الأفضل)) للخطة العامة بإجتيازها "نهر الأردن" فجر (15/5/1948) إلى غربيّه نحو "قلعة كيشر" بإسناد مدفعي وجوي، تبعها في العبور مساءً فوج من جحفل اللواء/1 الذي هاجم في اليوم التالي (16/5) على تلك القلعة رغم إخفاقه في إقتحامها، في حين عبر جحفل الفوج/1 من اللواء/15 صباح (17/5) نحو مرتفعات تطلّ على "كوكب الهوى" إستعداداً لتعرض وشيك مُدَبَّر لإستردادها.

 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Om.Ali.7 

  رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Omarali.48A
 
• وفي هذا الشأن العراقي -الذي يشتمل العديد من المواقف الميدانية المتلاحقة، ولا تسعفني ذاكرتي بها- فقد تلمستُ -بعد مرابطتي في ساحة الحرب- ضآلة التَرَوّي في تحريك الوحدات وتبديل محاورها وتكليفها بواجبات مغايرة وإعادتها إلى الخلف ثم دفعها سراعاً إلى الأمام وتغيير الخطط بشكل آني، والتي أثَّرَت سلباً على ثقة آمري الوحدات بالقيادة العامة.
• ومع المحاولات الدولية الواضحة لفرض هُدنة وشيكة بين الطرفَين المحاربَين لإفادة الجانب اليهودي، وبينما كانت القيادة العراقية تستحضر لهجوم واسع على "كوكب الهوى" فقد طلبت من مدير الحركات العسكرية بوزارة الدفاع "الزعيم (العميد) الركن حسين مكي خماس"

       رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Husen.M.chamas            

الإسراع بتحريك جحفل لواء آخر ليَنضَمَّ إلى سابقاته، فقد تقرر -لدواعٍ غامضة- تغيير المحور الرئيس للقوات العراقية من مواقع إنتشارها الراهنة في تلك البقاع لتكون وجهتها نحو "نابلس"؟؟؟!!!
أنـا:- هذه -يا عم- معلومات لم أسمع بها من قبلُ... والآن غدوتُ تواقاً لحركة فوجك الذي يبدو أن دوره قد أتى؟؟؟
عمر باشا:- نعم... ولكني أمسيت مُستَشعِراً بتعب شديد، ولم أعد قادراً على مواصلة الحديث فقد إقترب منتصف الليل... وأنت -ما شاء الله عليك- ليس لديك مانع أن تسهر حتى الصباح، لذا فلنرجئ حركة الفوج ومعركة جنين إلى لقاء قادم بعد أيام، وليكن موعدنا -كما اليوم- بعد صلاة التراويح.


يتبع .......

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mi-17

المدير
وزيــر الدفــاع

المدير  وزيــر الدفــاع
mi-17



الـبلد :  رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Qmdowc10
المزاج : الحمد لله
التسجيل : 23/02/2013
عدد المساهمات : 43668
معدل النشاط : 58332
التقييم : 2408
الدبـــابة :  رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) B3337910
الطـــائرة :  رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Dab55510
المروحية :  رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) B97d5910

 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) 1210

 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Best11


 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Empty

مُساهمةموضوع: رد: رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨)    رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Icon_m10الثلاثاء 10 أبريل 2018 - 17:10

هاتفت "العم عمر باشا" مُستأذناً زيارته بعد صلاة التراويح مساء (السبت-14/رمضان) الموافق (16/1/1965)، وكلّي شوقٌ ليستكمل حديثه عن "معركة جنين"، فإبتدأنا من حيث إنتهينا في جلستنا السابقة:-


 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Subhi.Ndm.4

بوادر حرب لأجل "فلسطين"

أنـا:- نعم يا عم.... في لقائنا قبل أربعة أيام بلغ بكم المَطاف إلى تحريك فوجك من شمالي الوطن إلى "فلسطين"؟؟
عمر باشا:- صحيح، وسأختصر الحديث كثيراً... فقد كنتُ آمراً للفوج/2- اللواء الجبلي/5 في قاطع "قضاء عقرة" لثلاث سنوات منصرِمات، وقد شاركنا -ضمن تشكيلات الفرقة/2 بقيادة "أمير اللواء مصطفى راغب باشا"- في إخماد تمرّد مسلّح ضد الدولة تَزعََّمه "أحمد آغا البارزاني" مع أخيه الأصغر "ملاّ مصطفى" خلال الفترة (آب-ت1/1945) قبل أن نَهزِمَهم إلى "إيران" في غضون شهرَين.
أما في أواسط (1947) فكنا لتوّنا قد أرغمنا مئات المسلّحين البارزانيين بصحبة "ملاّ مصطفى البارزاني" حالما علمنا بعودتهم لأرض العراق إثر إنهيار "دولة مَهاباد" الكردية على يد الجيش الإيراني، مُرغِمينَهم في غضون أسبوعين على الهروب إلى "روسيا".
وفي أواخر (1947) كانت بوادر حرب مع اليهود بائنة للعَيان، فرَجَوتُ آمر لوائنا الجبلي/5 "الزعيم (العميد) ياسين حسن" أن يفاتح المراجع الأعلى ليكون فوجي من أوائل الوحدات التي قد تتوجّه لإنقاذ "فلسطين"... وإستحضرتُ لذلك بتحويل مشاعر منتسبي الفوج من أساليب قتالٍ غير نظامي بأسلحة بسيطة إلى خوض معارك حيال جيشٍ معادٍ متدرّب يمتلك أسلحة جيدة ويُتَوَقَّع منه التشبث بمواقعه.


 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Omarali.12

التدريب على الحرب النظامية

ألغيتُ صفحة الإنسحاب من الذاكرة وطويتُ صفحة التدريب اليومي الرتيب، ووضعتُ منهجاً مفصّلاً لممارسة ((التقدم السريع، الهجوم التصادفي والمُدَبَّر وبالأخص الهجمات الليلية بالإفادة من أبسط الأضواء بإعتماد آلة "الحُك/البَوصَلة"، حركات الإحاطة والإلتفاف، التحوّل الفوري من الهجوم إلى الدفاع ومسك الأرض، الهجمات المقابلة الفَورية لإستعادة هدف قد نخسره، التعرّض على المَنَعات (الصَناكر) المحصّنة، محاصرة القلاع وإقتحامها، التعاون مع المدفعية، قتال الشوارع والمنازل، إلى جانب تطوير القابليات البدنية وتسلّق المرتفعات والصبر على العطش والجوع وتحمّل إنعدام النوم، ناهيك عن الرمي الأسبوعي كلٌّ بسلاحه وسلاح ثانٍ، مع التركيز على الرمي المُتقَن بالهاونات وإستثمار خاصية رشاشات "فيكرس" بالرمي المركّب فوق الرؤوس، إلى جانب التدريب على قذف الرمانات اليدوية أثناء الهجوم والدفاع)).
وهناك إجراءٌ أفادَني كثيراُ بعدئذ إثر إطلاعي على التقارير الدورية التي بدأت الإستخبارات العراقية بإعمامها منذ أواخر سنة (1947) مُتضَمِّنة معلومات عن تشكيل اليهود وحدات مخابرة لأغراض الإستراق والتجسس والتشويش اللاسكي، وذلك بأن يتحدث مخابرو الفوج -ومعظمهم من غير العرب- بالكردية أو التركمانية أو الآثورية في مهاتفاتهم اللاسلكية، ليستحيل على العدو فهمها عوضاً عن "الشفرة" التي يطول فك رموزها.
وفضلاً عن ذلك فقد خرجتُ على المألوف فعَيَّنتُ ((مؤذّناً)) يرتبط بـ"إمام الفوج" الرسمي (كاك فتّاح)، مستثمِراً إمكانات ضابط صف كنا نسمّيه "كريم قوريات" -والذي عُرِفَ مؤخراً بإسم "كريم كولَمَن" المغني التركماني المعروف- لإجادته المقامات وإمتلاكه صوتاً غليظاً- جَهوَريّاً ذا طبقات عالية يطرق الأسماع على بُعد مئات الأمتار، ووجّهتُه برفع الأذان في أوقاته الخمسة، مُضيفاً في نهايته عبارة ((حيِّ على الجهاد)).

 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Janin.1 

طال إنتظارنا أشهراً جراء المواقف السياسية المتضاربة وعدم إتفاق القادة العرب لإنهاء الأزمة قبل إستفحالها، حتى أعلن البريطانيون إنهاء إنتدابهم لـ"فلسطين" وإفراغها من عساكرهم، غاضّين الطّرف -أو سامحين لليهود- بالتمترس في أماكن ومرتفعات في غاية الأهمية مستحوذين على مدن شتى وبقاع طالما حلموا برُبعِها قبل أن يُحَرِّك "العراق" في أواخر (نيسان/1948) طلائع تشكيلات جيشنا -ليسبق جميع الجيوش العربية- للتحشّد في الأرض الأردنية والتهيّؤ لعبور "نهر الأردن" إلى أرض "فلسطين" فجر (15/5/1948).
أنـا:- ولكن، تبدو أن الحرب ستندلع ومازلتم في "عقرة".
عمر باشا:- نعم، ولكن إنتظارنا لم يطل طويلاً، فقد حضر السيد آمر اللواء إلى مقر فوجي صبيحة (23/5/1948) وأبلغني -من دون أفواج اللواء- بالتهيّؤ للتنقّل بالقطار النازل إلى "بغداد" بعد ثلاثة أيام فقط، فتم ذلك مساء (26/مايس)، حيث كان السيد "أمير اللواء مصطفى راغب باشا" -قائد الفرقة الثانية، ومقره في "كركوك"- مع متصرف (محافظ) الموصل وكبار الشخصيات وشيوخ العشائر والآغاوات على رأس موديعنا بمحطة قطار الموصل.

    رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Janin.2                         

وفي صباح اليوم التالي (27/مايس) ترجّلنا في "بغداد" مُنتقِلين إلى "معسكر الوشاش" المُتاخم لأصبح بإمرة جحفل اللواء الجبلي/4 بقيادة "العقيد الركن صالح زكي توفيق"، حيث تداركنا النواقص وإستلمنا خطوطاً من الأعتدة قبل أن نستقلّ فجر (28/مايس) سيارات نقل عسكرية وأخريات مدنية خُصّصت للمجهود الحربي متوجهين عبر الصحراء الغربية إلى "المملكة الأردنية" بـ(أربع) مراحل حتى بلغنا مدينة "المفرق" ظهيرة يوم (31/مايس).
ولكننا لم نرتَح سوى ساعة واحدة حتى أُمِرنا بالإسراع بإجتياز "نهر الأردن" لنبلغ ضواحي مدينة "أريحا" للمبيت ليلة واحدة قبل أن نَتَنَقَّلَ في صبيحة (1/حزيران/1948) إلى "نابلس" ونعسكر مؤقتاً في شماليّ تلك المدينة الجميلة.
أنـا:- أنا لا أعرف المنطقة ولا أستطيع تقدير مواقعها... ولكن أليس طَويُكُم لتلك المسافات -وبضمنها المرحلة الرابعة- في يوم واحد إرهاقاً؟؟
عمر باشا:- نعم... ولكن المسافة بين محطة ضخ "H-5" لا تتعدى (100) كلم عن مدينة "المفرق"، وكان المفترض أن نُقيم قرب مطارها العسكري بضعة أيام... ولكن الموقف الميداني في معظم القواطع أمسى حَرِجاً بعد إنقضاء أسبوعين على بدء العمليات.
أنـا:- موقف حَرِج مع كل هذه الجيوش؟؟؟!!!
عمر باشا:- أووووووه يا صبحي... أية جيوش تتحدث عنها!!! أنا أتضجّر من ترديد كلمة "جيوش" وأكتئب من ذكرها.... فكل القوات العربية النظامية التي تقدَّمَت على المحاور الرئيسة الخمس لم يَتَعَدَّ مجموعُها -مع تكامل جحفل لوائنا في "فلسطين"- على "فرقَتَين"، أي بحدود (20,000-25,000) جندي!!! ولسوف يتقابلون مع ما لا يقلّ عن (100,000) يهودي يحتويهم "جيش الدفاع الإسرائيلي"، فيما المُفتَرَض -حسب الحسابات العسكرية التي درسناها في الكلية العسكرية- أن يكون معدّل المهاجِمين إلى المدافِعين بنسبة (3) تجاه (1)... ولذلك إختلّ التوازن سِراعاً بتقادم الأيام حتى غَدَت "المبادأة" بين أيدي الصهاينة فباتوا في موقف التعرّض بكل الجبهات وأمسَينا نحن بحالة دفاع!!!
أنـا:- أصبحتُم -يا عم- في موقف الدفاع؟؟!!
عمر باشا:- نعم تماماً... فوقتما وصلنا بلدة "المفرق" وإطلعتُ -بعض الشيء- على الموقف العام في غرفة عمليات مطارها العسكري، فقد تلمّستُه حَرِجاً يسوده الغموض، لما يأتي:-
• فاللبنانيون منذ فجر (15/5/1948) لم يتقدموا شبراً واحداً من "رأس الناقورة".
• والسوريون خلال الأسبوعَين المُنصَرِمَين ظلَّ موقفهم مُبهَماً ولا يخبرون أحداً عن مواقعهم.
• والقوة الأردنية لم تندفع نحو "بيسان" ولا لـ"جنين-العفولة." ولم يَفِ "الجنرال كلوب باشا" بوعده (الشفاهي) للقيادة العامة بإعادة قواته الأردنية إلى "القدس".
• والمصريون لم يحرزوا تقدماً واضحاً من الجنوب.
• والقيادات العربية العليا لم تُنَسِّق تحرّكاتها الميدانية المفترَضة والمخطّط لها والمُبَلَّغة إليها، ولم تلتزم بتوجيهات القائد العام (الرسمي) للقوات العربية "أمير اللواء الركن نورالدين محمود".

    رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Nordin.Mh.1     

• ولربما كان العراقيون أفضل من أقرانهم العرب في جدّيةً تنفيذهم للخطة العامة، فقد إجتازت وحدات قوتهم الآلية مع فجر (15/5/1948) -بقيادة "الزعيم (العميد) طاهر الزبيدي"- نهر الأردن نحو "قلعة كيشر"، تبعها جحفل فوج من اللواء المشاة/1 رغم عدم تمكنه من إقتحامها، ودفعوا فوجاً آخر من اللواء المشاة/15 نحو مرتفعات تطلّ على "كوكب الهوى" تمهيداً لإستردادها.

 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Tahir.M.Zb
                   
• ومع المحاولات الدولية لفرض هُدنة وشيكة بين الطرفَين المحاربَين لإفادة الجانب اليهودي، وبينما كانت القيادة العراقية تستحضر تشكيلاتها لهجوم واسع لإستعادة "كوكب الهوى"، فقد تقرر -لدواعٍ غامضة- تغيير المحور الرئيس للقوات العراقية من مواقع تحشدها في تلك البقاع لتنتشر في قواطع "نابلس"!!!

في أرض "فلسطين"

• ووقتما وصلتُ بفوجي إلى "المفرق" ظهيرة (31/مايس) كانت المعلومات الإستخبارية تشير لتعرّض يهودي وشيك وواسع نحو جميع جبهات المواجهة، لذلك أُمِرتُ بعدم التريّث بل إجتياز "نهر الأردن" وبلوغ "أريحا"... وبعد مبيت ليلة واحدة هناك توجهنا صبيحة (1/حزيران/1948) إلى "نابلس" مثلما ذكرتُ.
• وحالما حَدَّدتُ موقع المعسكر الوقتي لعدد من ضباطي مع الصباح الباكر يوم (1/حزيران) فقد أسرعتُ لزيارة مقر القيادة العراقية بمدينة "الزرقاء"، فإستقبلني "الرئيس أول (الرائد) الركن شكري محمود نديم" و"الرئيس أول (الرائد) الركن خليل سعيد" بغرفة الحركات (العمليات) لأخبرهما عن تكامل جحفل فوجي في "نابلس" وأستوضح مسؤوليتي ومَن سأئتَمِر بأوامره... ولكني تلمّستُ إرتباكاً واضحاً في تسيير الأمور مع إقتراب الموعد المحتمل لشن الهجمات اليهودية، مصحوباً بضبابية المواقف في جميع القواطع لعدم تلبية السوريين ووحدات جيش الإنقاذ الفلسطيني توجيهات القيادة العامة بالمباشرة بحركات تعرضية في منطقة "بنت جُبَيْل" لتخفيف الضغط المحتمل على القوات العراقية.

        رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Shukri.M.nadim       

 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Chalil.Sd 

• وفوق كل ذلك فقد فارَ دمي وقتما بلَّغَني الأخ "شكري نديم" واجب إستلامي لمواقع جحفل الفوج/1-اللواء/1 بجبهة (25) كلم المتشتملة "كَفَر قاسم- رأس العين- مَجدَل بابا"، حيث سأضطر لتجزئة سرايا فوجي وفصائلها فأنشرها على شكل حضائر (عشرة جنود) بتلك المنطقة الشاسعة، حيث ستفصل بين كل حضيرة وأخرى مسافة (1) كلم غير متسانِدة فتكون لقمة سائغة حيال أية هجمة قوية، ناهيك عن كون ذلك الفوج منتشِراً هناك عارِفاً بقاطع مسؤوليته مستطلعاً تفاصيله.
• إستقبلني صديقي العزيز "العقيد الركن غازي الداغستاني" -ضابط الركن الأقدم بالقيادة- قبل أن أصِرّ على كون فوجي قد درّبتُه أشهراً للعمل على شكل كتلة واحدة، فالأوجَب الإفادة منه قوةً ضاربة نحو أي قاطع يتعرض لموقف طارئ، فإقتنع بذلك وألغى الفكرة.

     رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Zm.Dg

الخطة الجريئة-الطموحة

وحالما عدتُ إلى "نابلس" وقبل اللقاء مع ضباط الفوج لأصارحهم بمجريات الأمور، حضر "ساعي راكب دراجة" وبلغني بالعودة فوراً إلى القيادة العامة، لأفاجَأ بأمر طَموح يتعاكس مع سابقه بمقدار (180) درجة، وذلك بالإندفاع -مع وحدات أخرى من جيشنا- من منطقة "طولكرم" نحو "كفر يونا" لبلوغ ميناء "ناثانيا" على البحر الأبيض.
كان الأمر اللاحق تطبيقاً للخطة العامة العراقية -الجريئة والطموحة للغاية- بتشتيت الجزء اليهودي المُعلَن من "فلسطين" -في أعظم بقاعه عمراناً وإكتظاظاً بالسكان- إلى شطرين وحرمانه من إستخدام موانئهم على البحر الأبيض المتوسط.
فرِحتُ بالواجب الجديد وبلّغتُ ضباطي الأقدمين به، وبقيتُ متقلِّباً طوال الليل أفكّر في تنفيذه حتى خرجتُ برفقة معظم ضباط الفوج صباح (2/حزيران) إلى قاطع جحفل لواء المشاة/1 بمنطقة "طولكرم"، مُنهين إستطلاعاً مُفصلاً للعوارض المهمّة والطرق والنياسم التي قد نسلكها، حتى عدنا إلى "نابلس" عصراً ليفاجئني مساعدي "الرئيس أول (الرائد) شاكر السامرائي" -الذي ظلّ خافِراً بمقر الفوج- وقد هَيّأ السرايا للحركة، وهو يعرض عليّ برقية مكتوبة بخط اليد إستلمها قبل ساعتين من القيادة العامة من يدي "ساعي راكب دراجة"، تأمرنا بالحركة (فوراً) إلى "دير شرف" لنكون قريبين من "جنين".

           رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Shaker
                     
أنـا:- يا عم عمر إسمح لي بمقاطعة... هل يُعقَل خلال (24) ساعة أن تُبَلَّغ بتسلّم قاطع فوج من اللواء/1، ثم يُبَدَّل الأمر إلى هجوم على "ناثانيا"، وفي أثناء الإستطلاع ينذروك بالتحرك نحو "جنين".... أليس هذا تخبّطاً؟؟!!
عمر باشا:- لا تُثِر مواجعي -يا صبحي- ودعني مسترسِلاً.
أنـا:- تأمر يا عم... ولكن لماذا لا تبعث القيادة هكذا أوامر باللاسكي وتعتمد على راكبي الدراجات؟؟!! هل بسبب عدم كفاية مَدَيات الأجهزة؟؟!!
عمر باشا:- كلاّ ليس المديات فحسب، بل جراء إستراقات اليهود اللاسلكية وفكّهم شفرات معظم البرقيات والمكالمات، وقد نشطوا في هذا الشأن فور بدء الحرب، ولذلك إعتَمَدَت القيادة هذا الإجراء وأمَرَت الجميع بإتباعه، مع قبول واقع البطؤ في إيصال الأوامر للمَعنيّين.
وعلى أي حال، فقد إستبشرتُ خيراً بأن هذا الإجراء ربما كان ضمن ((خطة مُخادَعة)) للتستر على التعرّض المُزمَع نحو "ناثانيا"... ولم يأتِ ببالي ما تخبّئه قادم الساعات على فوجي.
أنـا:- فتطوّرت الأمور.
عمر باشا:- نعم وبسرعة... فحال تَعَسكُرنا قرب "دير شرف" مساء (2/حزيران) فقد زارني الأخ "شكري محمود نديم" ليخبرني أن اليهود باشروا بهجومهم العنيف على "جنين" التي ينتشر فيها (رتل أسد) -بقيادة "المقدم الركن نوح عبدالله الجَلَبي"- والمؤلّف من جحفل فوج المشاة الآلي التابع للقوة الآلية، وأن القيادة تتوقّع أن يستهدف الصهاينة إحاطة جميع البقاع التي تتمركز فيها تشكيلاتنا للوصول إلى "جسر الملك حسين" إبتغاء قطع مواصلاتنا مع شرقيّ "نهر الأردن"... فرجوتُه أن لا يُضخّم الموضوع بل يُخبر السيد القائد العام بضرورة صمود (رتل أسد) في "جنين" ريثما ننفذ -نحن- تعرضنا المُزمَع نحو "ناثانيا".
حلّت ساعات أول الليل لتطرق أسماعنا إنفلاقات قنابل القصف المدفعي عن بُعد (40) كلم، وفيما خَفَّ بعض الشيء مع منتصف تلك الليلة، فقد غفوتُ مُتعَباً حتى فوجئتُ بالأخ "شكري نديم" مُتَرَجّلاً من سيارته العسكرية... ومن دون تحية ولا سلام ولا مجاملات فقد خاطَبَني لاهثاً:-
((سيدي سيدي... "المقدم نوح" ترك مدينة "جنين" تحت ضغط الهجوم وسحب (رتل أسد) إلى "قلعة جنين" فأحاطهم اليهود بقوة تقدّر ببضعة آلاف... فما عليك سوى التحرك لإنقاذه وإنقاذنا يرحمك الله))!!!!؟؟؟؟؟

   رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Janin.3

التهيؤ للمعركة

أنـا:- فجاء دورك.
عمر باشا:- نعم... صرختُ بأعلى صوتي فإنتبه من سمعني وأيقظ النائمين، فهرع الضباط الأقدمون نحوي ليستوعبوا الموقف، فيما أوقفتُ المُؤذِّن "كريم قوريات" إلى جانبي صارخاً سبع مرات:-
((الله أكبر... الله أكبر... حيّ على الجهاد... حيِّ على الجهاد))
وفي غضون نصف ساعة قُبَيلَ فجر (3/حزيران) كانت سرايا البندقيات الثلاث مع الهاونات والرشاشات "فيكرس" المُلحَقة بها جاهزة للحركة.
رُفِعَ علم فوجنا فوق رأسي وأمسكتُ حَربَةَ إحدى البنادق بيدي اليمنى صارِخاً:-
(((يا رجال العراق... با أبطال فوجنا العالي... يا من قهرتم الجبال... هذا يومكم..، وأنا في مقدمتكم... فإذا رأيتموني متردِّداً فلا تتقدموا شبراً... وإن تلمّستموني خائفاً فإقتلوني... أطلبوا الموت توهَب لكم الحياة... ولَـمّا يُصرَِع أحدُنا ففي جنّة الخلود، وإن لم يُصِبهُ شيء فرأسه مرفوع... لا يجبن أحدكم فَيُخزى... فلنتوكّل على الله -سبحانه- وننقذ رجال الفوج الآلي المُحاصًر فلا نَدَعهم أذِلاّء مُهانين تحت أيدي اليهود.... الله أكبر... الله أكبر))).
وكررتُ الخطاب باللغتين الكردية والتركمانية... فردّد الجميع:- ((الله أكبر... الله أكبر))... وتراكضوا كالمجانين لتلافي أي نقص في أي شيء.
في الطريق إلى "جنين"
أنـا:- أدمَعتَ عيني يا عمّي.
عمر باشا:- كما دمعت عينايَ، فتلك الساعات لا تفارقني حتى لو طال عمري (1000) سنة.
وفي لحظة المباشرة بالمسير لم أنسَ تذكير الضباط بضرورة التحدث باللاسكي باللغتَين الكردية والتركمانية حصرأ قُبَيلَ وَداعِنا قرية "دير شرف" مع إشراقة شمس (3/حزيران) مُحَمَّلين بسيارات نقل نحو "عَرّابة- قَباطية" في طريقنا إلى "جنين"، سائرين ببطؤ على الطريق العام حذِرين ومترقّبين -كما تدرّبنا- لئلاّ نقع في كمين.
كان الذي يؤلمنا -طوال المسير البطيء- منظر الآلاف من أهالي "جنين" الهاربين والمُشرَّدين بمجاميع تسلك الطريق، حتى غضبتُ على البعض منهم:- ((لماذا تهربون من دياركم؟؟ ألا تمتلكون غيرة على وطنكم؟؟ لِـمَ تجبَنون وتتركون حياضَكم ليستلمها اليهود؟؟)).

وبدأت المعركة

ولساعة ونصف من المسير الحذِر لم نتَلَقَّ نيراناً حتى إقتربنا من بلدة "قَباطية" فعالَجَتها السرية الأمامية من دون خسائر وسيطرت على التلال المُطلة على الطريق، في حين إلتحق إلينا (15) مسلّحاً فلسطينياً ليخبرونا بإحتلال الصهاينة لكامل مدينة "جنين" وجنوبها، فأمرتُ الجميع بالترجل والإنفتاح قبل أن تنهمر علينا عشرات القنابر من (ستة) هاونات، وفيما أسرعت السرية الأمامية بتسلّق الهضاب بين "بَرقين" و"جنين"، فقد إتخذتُ من أعلاها مرصداً يُشرف على عموم المنطقة وبالأخص "قلعة جنين" العملاقة ومحيطها وحتى المدينة" لأستطلع آنياً وأضع خطة سريعة للهجوم، وأوعزتُ لمعاوني "المقدم أنور فَرَنكُول" بفتح مقر خلفي ومنطقة إدارية خلف التلال ليديم زخم المعركة بدفع الأعتدة إلى السرايا عند الحاجة ويستقبل الجرحى والمُصابين.
أنـا:- يا عمّي الباشا... ألم يدُر ببالك في تلك اللحظات الصعبة ما يعكّر الصفو؟؟
عمر باشا:- أبداً ومطلقاً... كان همّي الوحيد أن أُضَبِّط الأمور ولا أدَع ثغرة تؤخرنا بإستخلاص رفاقنا المُحاصَرين، ليس بالسرعة الممكنة فحسب بل بأقصى سرعة واجبة، كي لا يُذَلّوا... رغم أن بطرية المدفعية (25رطل) الموضوعة بإسنادنا المباشر لم تستطع اللحاق بنا ((لأسباب فنّية))!!! ولذلك سيُبصَق في وجه آمرِها ويُحال للقضاء العسكري ويُسجَن ويُطرَد من الجيش.

 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Janin.4   

كان الوقت أثمن من التريّث، فبلوغ "قلعة جنين" وبالغ السرعة في إستردادها أعظم بكثير... لذا قررتُ أن لا آبَه بالإسناد المدفعي -رغم دوره البالغ- بل أكتفي بما نمتلكه من الهاونات (3عقدة) ورشاشات "فيكرس" ونعتمد الحركة السريعة والستر بالنار والإسناد المتبادَل كسباً للوقت الذي ينقضي سِراعاً، وقد أفِدنا من مدافع ضد الجو الملحَقة بإمرتنا في تدمير البعض من مواقع العدو الحصينة.

      رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Hawan.23


 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Rashash
              
وإقتربنا من القلعة

ومن دون الخوض في التفاصيل، فقد إقترَبَت السرايا الثلاث نحو العدو المُحاصِر لـ"القلعة" طوال الظهيرة بإندفاعات شجاعة تُسنِدهم الهاونات والرشاشات... ورغم النيران الهائلة التي صبّها اليهود على رؤوسهم وقتما شنّوا هجوماً مقابلاً فورياً، فقد أرغموهم على التراجع مهزومين وتاركين عدداً من قتلاهم وأسلحتهم... ولربما للمرة الأولى منذ إندلاع الحرب.

    رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Janin.5

عصراً كان جحفل الفوج/2- اللواء الجبلي/4 بقيادة "المقدم يونس شليمون" -والذي وصل "الأردن" لتوّه وحُرِّكَ من دون إستراحة إلى قاطعنا- وقد تسلّق إلى مرصدي عارضاً إستعداده لتتخلّل سراياه عبر سرايا فوجي لإستكمال فك الحصار... ولكني -بعد أن شكرتُه- رجوتُه أن يدفع إحدى سراياه إلى "خانق جنين" لتستُرَ جناحيَ الأيمن وأخرى بإتجاه هضاب "بَرقين" لتحمي جناحي الأيسر، وبذلك يُريح بالي المُنشغِل لأتفرغ لإستكمال ما حقَّقَه فوجي.
وفي تلك الساعة هاتَفَني آمر جحفل اللواء/4 "العقيد الركن صالح زكي توفيق" -باللاسكي- طالباً حضوري بـ"المقر الخلفي" لأُطلِعَه على الموقف، فأجبتُه -باللغة الكردية- ما ملخّصه:-
((أنا الآن -يا سيدي- أقود معركة بكل فوجي، فلا أترك قيادته أمام أنظار جنودي كي ألتقيكَ، فإذا رغبتَ فتكرّم بالحضور إلى مرصدي لتشاهد تفاصيل مجريات الأمور، فـ"الآمرون بالأمام" في كل صفحات القتال عدا الإنسحاب... وإذا لم ترغب فإبعث أحد ضباط الركن لينقل لك الموقف)).

 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Salh.Zaki.Tf                 

إحتفَظَت سرايايَ الثلاث على ما إستحصلوه بإتجاه "قلعة جنين".. ولكن شدة المقاومة اليهودية، وكون الساحة مفتوحة بواقع مئات الأمتار، والتي على السرية الأمامية قطعها تحت رصد العدو ونيرانه المباشرة مع إحتمالات تحمّل تضحيات وخسائر كبيرة جعلتني أرى الأوجَب في تأجيل الصولة الأخيرة شريطة تنفيذها بهجمة ليلية سبق وأن تدرّبنا عليها وأتقَنّاه ولو بشكل نَظَري.
فبعد الضياء الأخير لمساء (3/حزيران) زرتُ "الرئيس أول (الرائد) عثمان عبدالله" -آمر السرية/3 الأكثر تقدّماً- وأبلغته لأكون إلى جانبه عند الصولة بالساعة الثالثة فجر (4/حزيران)... وبعد زيارتي للسرية/2 -بقيادة "الرئيس أول (الرائد) حسين أمين"- قبالة "بَرقين" لأطمئن على رصانة موقفه قبل إبلاغه بموعد الصولة، فقد إتفقنا على إستثمار المباغتة -التي يُفتَرَض تحقيقُها- بشن هجوم ليلي يترافَق مع الصولة المُزمَعة ليستعيد بلدة "بَرقين"... ثم توجهتُ نحو مواضع الهاونات والرشاشات "فيكرس" الـمُتَمَوضِعات خلف السرية/2 وأيقنتُ مدى إستحضاراتهم.

  رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Janin.6
 
قُبَيلَ الساعة الثالثة فجراً وقفتُ إلى جانب "الرائد عثمان" في مقدمة الجميع وقتما صبَّت هاوناتنا -مع ساعة الصفر- عشرات القنابر تصاحبها الـ"فيكرس" بالآف الإطلاقات على رؤوس الأعداء، فأسرعنا نحو المحاصِرين للقلعة الذين -ربما- لم يَدُر ببال أحدهم أن يتلقّوا هذا الكم الهائل من النيران التي إستثمرناها للتقرّب نحوهم بالإفادة من ستر الظلام قُبَيلَ إندفاعنا العنيف نحوهم بصيحات ((اللــــه أكبر.... اللـــــه أكبر)).

 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Janin.7   

إنقضت ساعتَان بين صراخ المَرعوبين وصياح المُستنجِدين وهروب المَصدومين ونُواح الجرحى والمُصابين وتراجع الخائفين وعويل النساء المجَنَّدات وتوجيهات القادة وأوامِر الآمِرين، حتى حلّت الساعة السادسة من صبيحة (4/حزيران) لأجد باب "قلعة جنين" مفتوحاً و"المقدم الركن نوح الجَلَبي" يحتضنني بين ذراعَيه قبل الآخرين وسط الإستبشار (((اللــــه أكبر.... اللـــه أكبر))) في ذلك الموقع الذي إضطر قبول الحصار فيه، حيث لم نَدَع أن يَطال أكثر من (30) ساعة، في حين بشَّرَني "الرائد حسين أمين" وقوفَه على رأس سريته بين منازل "بَرقين"، وقتما إنشغل جنودنا بلملمة ما تركه الأعداء من هاونات ثقيلة ومتوسطة وخفيفة ورشاشات وبنادق وغَدّارات مُهانة وألغاماً متنوعة وخُوَذاً فولاذية وألوفاً من مختلف الأعتدة... ولكن اليهود لم يكتفوا بهزيمتهم من القلعة بل أخلوا بلدة "جنين" بأكملها.
لم أكن على دراية بمدى إهتمام قادة العراق لِـما حصل في "جنين" حتى حلّ ظهر ذلك اليوم (4/حزيران) ليُفاجئنا "اللواء عبدالوهاب عبداللطيف" بحضوره وسط تلك القلعة -مبعوثاً شخصياً من الوصي على عرش العراق "الأمير عبدالإله بن علي"- للإطمئنان على ما حصل، وإبلاغنا تهنئة سموّه على هذا النصر الناجز ودفعنا نحو المزيد.
وبُعَيدَ عودته زارنا "العقيد الركن غازي محمد فاضل الداغستاني" -ضابط الركن الأقدم للقيادة العراقية- يصاحبه "العقيد الركن صالح زكي توفيق" -آمر جحفل اللواء الجبلي/4- وتقرر:-
• تسليم مسؤولية "قلعة جنين" لإحدى سرايا الفوج/2- اللواء الجبلي/4 بقيادة "الرئيس أول (الرائد) حسيب علي توفيق".
• إعادة "المقدم نوح" لفوجه الآلي مساءً إلى منطقة آمنة للإسراع في إعادة تنظيمه.
• تجميع فوجي خارج القلعة وجعله إحتياطاً بمثابة قوة ضاربة لأي طارئ.

الوصي "عبدالإله" بيننا

ويبدو أن سموّ "الأمير عبدالإله" لم يَرضَ لذاته أن يُتابع مُجرَيات الأمور من "بغداد" ولم يَكتَفِ بمبعوثه الشخصي، بل طار إلى "عمان" صباح اليوم التالي ليطّلع على الموقف العام لدى "الفريق نورالدين محمود".

 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Wasi.3       
 
ووقتما علمتُ بذلك -ظهيرة (5/حزيران)- أمرتٌ أحد ضباطي بالإسراع إليه ودعوته لزيارتنا... وفي حين لم أكن أتوقع تلبيةً فقد وجدتُ سمو "الأمير" بقيافته العسكرية يرافقه "العقيد صالح زكي"، لنتسلّق سويّةً إلى المرصد -الذي قدتُ المعركة منه- ليرى "قلعة جنين" ومدينتها الجميلة وقد حرّرناهما.

ما بعد "جنين"

أنا:- أسفاً على "الوصي" الذي تمتّع بكل هذه الروحيّة قبل أن يلقى ذلك المصير الهَمَجي صبيحة (14/تموز/1958).
عمر باشا:- أسفاً واحداً فقط!!! بل مليون أسف... فقد كان أشجع الزعماء العرب في قراراته وأعظمهم جرأة في خطواته وأكثرهم إندفاعاً في إجراءاته وأحرصهم على "فلسطين" وإحتمالات ضياعه.
وفي حين لا أزعم كونه متكاملاً ولم يخطأ، فهذا ديدن الإنسان منذ أول الخليقة، ولكن (قـند..........ـــه) ستظل أشرف من كل الرؤوس التي تَسَلَّطَ أصحابها على "العراق" ودَمَّروه منذ إنقلاب (14/تموز) المشؤوم ولغاية يومنا هذا، بل وأشرف وأشرف وأشرف من جميع الذين سيخلفون ناكثي الوعود في قادم الزمان.
أنـا:- صادق يا عمي الباشا... ولكن هل لكم أن تنوّروني عن تطورات الأمور ما بعد "معركة جنين".
عمر باشا:- هناك مثل يردّده العراقيون وقتما يتوقعون الأنكى من المعضلات والمآسي وتردّي الأوضاع، ويقولون:-((هاي وراها حَصبة وجِدري))، وهذا ما ينطبق تماماً على ما حصل بعد هذه المعركة، وقد يتطلّب سردُها لُمجَلَّدات لا قِبَلَ لي بها سوى بشكل مُجمَل في قادم الأيام، وأفضّل أن يكون بعد عيد الفطر المبارك -بعونه تعالى- كوني أتفرّغ في الأيام العشرة الأواخر من رمضان المبارك للإطالة في التراويح وأداء صلوات التَهَجُّد والنوافل حتى الإمساك.
أنـا:- رغباتك أوامر يا عم عمر، والله -سبحانه- يتقبّل طاعاتك ويسترك من كل مكروه... وآسفٌ على الإطالة معك لحد الإزعاج.
عمر باشا:- أبداً لا إطالة ولا إزعاج فهذا بيتك وأنا بمثابة عمّك... بل أهنّئك على تشبّثك بهذه الأمور وأستأنس بذلك وأشجّعك وأنت ما زلتَ بهذه الرتبة الصغيرة وفجر حياتك العسكرية، لذا أتوقّع -بعد قراءتي لما لَخَّصتَه عن حديثي السابق- أن يكون لك مستقبل مُشرِق -إن شاء الله- في الكتابة عن تأريخ العراق المعاصر وأحداثه.

                  رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Omer.Hd
                 
 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Janin.8
  
  رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Janin.9


 رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨) Janin.9A


.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 

رواية "عمر علي باشا" عن إندلاع حرب فلسطين (١٩٤٨)

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» خطاب عبد الناصر بعد صلاة الجمعة من الجامع الأزهر أثناء العدوان الثلاثى ٢/١١/١٩٥٦
»  مسابقة شهر رمضان الاسلامية ١٤٣٤ﻫـ
» نتيجة مسابقة شهر رمضان الاسلامية للعام ١٤٣٤ﻫـ
» خطاب الرئيس محمد انور السادات فى احتفالات عيد العمال بسفاجه اول مايو ١٩٧٩
» خطاب جمال عبد الناصر بعد صلاة الجمعة من الجامع الأزهر أثناء العدوان الثلاثى ٩/١١/56

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: الأقســـام العسكريـــة :: التاريخ العسكري - Military History :: الشرق الأوسط :: حرب فلسطين 1948-
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي ادارة الموقع ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك ويتحمل كاتبها مسؤولية النشر

Powered by Arab Army. Copyright © 2019