معركة جبل لبنى
لم تذكر هذه المعركة التي جرت في جبل لبنى في سيناء على الجبهة المصرية إلا لماما و لم ينتبه إليها إلا القلة القليلة من الباحثين العسكريين العرب فيما عدا اللواء حسن مصطفى النقيب في كتابه عن حرب 1967 و لقد تجاهلها الباحثون الغربيون و بالطبع الإسرائيليون لأسبابهم المعتادة المعروفة فهي كانت عمليا نموذجا رفيعا لكفاءة قيادية عسكرية اللواء ( العميد آنذاك ) عبد المنعم واصل و لكفاءة و حسن تدريب اللواء المصري المرابط في جبل لبنى وفشلا و هزيمة واضحة لقوة العدو المتمثلة بلواء ايسكا المدرع و فيها رد واضح و أكثر من كاف على الادعاء بان نكسة 67 كانت كلها ظلاما محيقا بالعسكرية العربية و بالمشروع القومي العربي عموما و بشقيقتنا الكبرى مصر التي كانت تمثل الدولة الرائدة و القائدة للمشروع القومي العربي.
جغرافية المكان و الموقع العسكري:
تؤلف منطقة جبل لبنى مركزا لتقاطع عدد من الطرق الحيوية و الرئيسية في قلب سيناء و هي هضبة متعرجة السطح تمتد عرضا لمسافة 12 كم و يقع جبل لبتى بقمته العالية في شمالها و عند البداية الشرقية لهذه الهضبة تلتقي الطرق الآتية من بئر لحفن و من أبو عجيلة و من بئر الحسنة و الجفجافة و لهذا السبب فلقد اعتبرت مفرق طرق استراتيجي .
لجميع هذه النواحي فلقد عد العدو الاستيلاء على موقع جبل لبنى ضرورة حيوية حاسمة في تقرير مصير عملية التقدم الى الى قلب سيناء و أناط هذه المهمة بلواء ايسكا المدرع الذي يعد من ألوية النخبة في الجيش الإسرائيلي و قائده ضابط متمرس متخرج من كلية عسكرية بلجيكية و أمريكية و بامتياز و هنا نلاحظ التملص في الحديث عن هذه المعركة التي دارت لمدة تفوق 14 ساعة فلقد ادعت مصادر العدو بكون لواء ايسكا قد تأخر في التقدم الى جبل لبنى بسبب نفاذ الوقود و الحاجة لإعادة التموين في حين أن الحقيقة بأنه هاجم منذ الصباح الباكر الموضع العسكري المصري فضلا عن استمرار قصفه بالطيران و المدفعية لكنه فشل في التقدم و التغلب على اللواء المصري فشلا ذريعا و عجز عن التغلب على المقاومة المصرية برغم تيسر المساندة الجوية له طيلة الوقت و لم يستطع من دخول الموضع المصري الا بعد صدور أمر الانسحاب العام الذي أخلى فيه اللواء المصري موضعه بموجب هذا الأمر.
المقارنة بين قوات الطرفين:
لواء ايسكا المدرع كان ملاكه حوالي 3000 جندي و صف ضابط و ضابط و هو عمليا مشكل من ثلاثة كتائب مدرعة و كتيبة مشاة ميكانيكية و كذلك ملحق به كتيبة مدفعية و كتيبة مضادة للدبابات مسلحة بصواريخ س س-10 و 11 و لديه أيضا سرية استطلاع مدرع مشكلة من دبابات اي أم أكس-13 و ملاكها 11 دبابة و كانت دباباته الأخرى من طراز باتون و بعض المصادر تقول بأنها من طراز سنتوريون و هو أمر يصعب البت فيه و بذلك فلقد كان ملاك الدبابات فيه هو فوق 120 دبابة و أكثر من 70 آلية مجنزرة و نصف مجنزرة و نظرا لأن العدو كان قد حقق التفوق الجوي بعد ضربة 5 حزيران على قواعد الطيران المصري فقد كان له المساندة الجوية بصورة مطلقة.
اللواء 14 ميكانيكي و ملاكه أقل من 2200 جندي و صف ضابط و ضابط و كان لديه فوج دبابات ت-54 و كذلك ألحقت به كتيبة قانصات دبابات س يو-100 و عديدها ربما يكون 300 جندي لم يظهر أية معلومات تشير الى كونه قد جرى إلحاق أية قطعات مساندة أخرى بملاك هذا اللواء أي أنه قد يكون تعداد مدرعاته المختلفة نحوا من 95 تقريبا ( الجيش المصري كان يستخدم التراتبية القتالية على العقيدة الشرقية في تركيب الألوية في الستينات)و مثيلتها من المركبات المجنزرة و ليس من المستبعد وجود هاونات خفيفة و إن لم يظهر أية معلومات تشير الى استخدامها سواء من المراجع العربية أو في أي مرجع غربي و بالطبع فقد كانت المساندة الجوية معدومة كليا.
الواقع الاستراتيجي و الظروف المكانية:
كان من الممكن ملاحظة أن العدو يتمتع بتفوق ظاهر للغاية و لديه إمكانيات أكبر كما ان لديه تفوق تقني مباشر فدباباته هي من طراز أكثر تقدما و تمتاز على نظيراتها المصرية بسمك الدرع و عيار مدفع أكبر و من المفترض بأن طواقمها أكبر خبرة بكثير من الأطقم المصرية خاصة إذا علمنا بأنها كانت تشارك في القتال بصورة دورية الى جانب جيش جنوب إفريقيا و بلجيكا في الكونجو و غيرها و كذلك فقد كان من المفترض بأن معنويات اللواء المصري ال14 تعاني من الهبوط و التراجع بسبب تدمير سلاح الطيران المصري و تراجع القوات المصرية من الجبهة و الاختراقات الاسرائيلية في مختلف القطاعات فضلا عن عدم استمرار قيادة الفرقة الثالثة في القيام بواجبها و غير ذلك من الظروف القاسية لكن ثبت كذب كل هذه التوقعات و بان قائد هذا الموقع و جنوده كانوا أشجع و اصلب بكثير من كل هذه الظروف القاسية التي قلما تعرض لها جيش في الميدان.
المعركة:
فجر يوم 6 حزيران بدأت الغارات الجوية و القصف المدفعي على موضع اللواء 14 منذ الصباح الباكر و لقد تصدت له المدفعية المضادة للطائرات التي حاول الطيران الإسرائيلي تدميرها لكن قائد اللواء قام بنقلها من مواضعها بصورة مستمرة و لم تتأثر معنويات الجنود المصريين بهذه الغارات الكثيفة و كذلك فشلت في تدمير الدبابات بصورة لافتة بسبب حسن إعداد الموضع و التمويه الجيد و لأن الحفر العميقة التي تموضعت فيها الدبابات المصرية كانت تشكل دفاعا فعالا و تدعي مصادر العدو بأنه في الساعة الثالثة بعد الظهر توقفت العمليات الجوية على اللواء مفسحة المجال لتقدم الدبابات الاسرائيلية وعندما وصلت الى مرمى النيران المصرية أعطى العميد عبد المنعم واصل أوامره بفتح النار فانطلقت قذائف الدبابات المصرية في صبة نارية كثيفة مما أدى الى تدمير عدد منها واندحر الهجوم و تراجعت الدبابات الاسرائيلية بعد تدمير 9 دبابات منها( الرقم هنا من الرصد للدبابات المتروكة في ارض المعركة فقط و لا يشمل الدبابات التي تمكن العدو من سحبها).
كان من الممكن أن تبادر الدبابات المصرية الخروج من حفرها لمطاردة الدبابات الاسرائيلية لكن العميد عبد المنعم واصل أدرك في تقييم سليم للوضع (كان قد بث قوة استطلاعية تبلغه بالتحركات الاسرائيلية أمام موقعه) إن الحركة الاسرائيلية ماهي إلا كمين محكم لإغراء الدبابات المصرية على الخروج من حفرها حيث تتصيدها الطائرات الاسرائيلية بسهولة في الصحراء المفتوحة بقنابل النابالم و الصواريخ و كذلك قعند علامة الكيلو 161 وعلى امتداد الجبهة كان العدو قد اعد كمائن مضادة للدبابات بصواريخ اس اس-10 واس اس-11 والمدافع الغير مرتدة 106 مم المحملة على سيارات جيب لضرب الدبابات المصرية واستمرت محاولات العدو لجذب الدبابات المصرية لمدة تفوق الساعتين.خسر خلالها عددا أخر من الدبابات أيضا ربما كانت 14 دبابة و بعض المجنزرات.
وبعد الفشل المتكرر في اقتحام الموضع المصري قرر قائد اللواء المدرع الإسرائيلي أن يستخدم تكتيك الإحاطة فتتم اللجوء الى أسلوب التطويق عن طريق إرسال مجموعتين من الدبابات لتطويق الجناحين الأيمن والأيسر للواء المصري غير أن القائد المصري الجسور عبد المنعم واصل حرك على الفور عددا من دباباته الى الجناحين لعمل كمين نجح في وقف حركة الإحاطة الاسرائيلية فتراجع العدو عن إكمال الطوق بعدما تيقن من يقظة الدفاع المصري و ترصده لهذه الحركة و بعد تدمير ثلاث دبابات إسرائيلية كانت قد نجحت في الوصول الى مؤخرة القوة المصرية مما اضطر باقي الدبابات الى الانسحاب و من ثم كرر العدو محاولة التطويق و فشل مرة أخرى فخسر عددا من الدبابات أيضا.
لجأ العدو الى محاولة أخرى مستخدما الدبابات الخفيفة من طراز اي ام اكس-13 و هي تمتاز بخفة الحركة و التي ما كادت تصل الى مدى الدبابات المصرية حتى تنسحب وتعود الى الخلف هاربة بسرعة كبيرة حال تعرضها لإطلاق النار عليها لإغراء الدبابات المصرية على الخروج من حفرها ومطاردتها مستخدمة بذلك أقصى سرعة لها في الانسحاب لجر اللواء المصري الى الكمين المعد عند الكيلو 161 و خسر أيضا سبع دبابات في هذه المحاولات الفاشلة.ثم تكررت عمليات القصف بالطيران و المدفعية بصورة متقطعة
حافظ اللواء المصري على ثباته الى غاية حلول الظلام ثم صدرت إليه الأوامر بالانسحاب الى بئر جفجافة فهاجمه الطيران الإسرائيلي باستخدام القنابل المضيئة طيلة الطريق وصولا الى الضفة الغربية و كان عمليا هو القوة الوحيدة في القطاع الشمالي التي عادت بأسلحتها متماسكة و بمعنويات عالية (العميد سعد الدين الشاذلي عاد أيضا في القطاع الجنوبي بقواته متماسكة و في حالة معنوية عالية) و كانت خسائره بمعظمها بسبب القصف الجوي و لم يترك هذان البطلان ورائهما جريحا أو أسيرا.
رحمة الله على هذين البطلين و أمثالهما فلقد رحل عام 2002 اللواء عبد المنعم واصل كما رحل بالأمس القريب الفريق البطل سعد الدين الشاذلي صانع نصر حرب 73 و ستبقى معركة جبل لبنى شعلة ساطعة في تاريخ مصر العسكري.
المصادر و المراجع:
جريدة الجمهورية المصرية 5 حزيران 1968
دبابات تموز الصفحة 256
أضواء على أسباب النكسة أمين هويدي
حرب 67 الجبهة المصرية اللواء الركن حسن مصطفى
برنامج صوت القوات المسلحة في ندوة خاصة بعد 30 عاما على النكسة إذاعة دمشق 1997
برنامج حماة الديار لقاء مع اللواء عبد المنعم واصل 1998التلفزيون السوري