الشرق و الغرب و القوة النارية.. بين وهم التفوق و واقع الاختلاف
يخطئ البعض عندما يقارن بين الدبابات الشرقية و الغربية باعتمادهم على المقارنة المجردة التي لا تأخذ العوامل التي أثرت في تصميم أو تصنيع كل منهما على حدى و دون شك فإن مقارنة القدرات النارية Firepower تقع كغيرها من جوانب المقارنة ضحية لهذا المنهج الخاطئ بالمقارنة على الرغم من أهمية هذا الجانب و حساسيته و ما يزيد الطين بلة هو الاعتماد في بعض الأحيان على مصادر لا توفر المعلومة الصحيحة و الدقيقة عن الموضوع محل البحث الأمر الذي يؤدي بدوره إلى القضاء تماماً على أي آمال بالخروج بنتيجة منطقية و علمية مفيدة من مثل هذه المقارنات .
للأسباب السالف ذكرها كان لا بد لنا من أن نضع بين يدي القارئ المهتم مادة مقارنة تتوخى الدقة فيما تعرضه قدر المستطاع و توفر له المعلومة الصحيحة حتى لا يقع هذا الأخير في فخ الاستنتاجات الخاطئة و الغير دقيقة مقصودة كانت أم غير مقصودة ... و هنا نعرض عليكم جزء من بحث شامل أعددناه لهذا الشأن و سيعتمد بحثنا هذا على ثلاثة عوامل رئيسية لوضع مقارنة شاملة و تقييم دقيق لصناعة الدبابات في كل من الاتحاد السوفييتي و الولايات المتحدة الأمريكية و ستكون هذه العوامل :
1- المستوى التقني
2- مسرح العمليات المفترض
3- السياسة الاقتصادية
دون شك فإن لكل من العوامل الثلاثة المذكورة أعلاه دور أساسي في تحديد معالم تصميم و صناعة الدبابات في كل من أمريكا و الاتحاد السوفييتي/روسيا و لهذا فإن أخذها بالحسبان سيتيح لنا إمكانية المقارنة بأسلوب علمي أكثر دقة و منطقية و سيظهر مدى حقيقة الادعاء بالتفوق الغربي المتمثل بأمريكا خصوصاً و حلف الناتو عموماً على الخصم الشرقي المتمثل بالاتحاد السوفييتي و من بعده روسيا و طبعاً كما عودناكم سنكون معتمدين على أكثر المصادر المتاحة دقة و حيادية و التي ستكون بمعظمها غربية .
من المؤكد أن المدفع الرئيس Main gun هو العامل الأهم في القدرة النارية لأي دبابة و لهذا تسعى مختلف الجهات المصنعة للدبابات لأن تطور مدافع أكثر كفاءة توفر مجموعة من الخصائص لابد منها في مدفع الدبابة كالدقة Accuracy و المدى Range و الاعتمادية العالية High Reliability ... نظرة فاحصة لتاريخ تطوير مدافع الدبابات في كل من الشرق و الغرب تظهر على عكس ما يروج البعض تفوقاً واضحاً للسوفييت على نظرائهم الأمريكيين في هذا المجال .
سنتطرق بداية لمسألة عيار المدفع الرئيس Main Gun Caliber محاولين المقارنة بين كلا الطرفين و قد اخترت أن أبدأ المقارنة بهذه المسألة كونها تتخذ دليلاً من قبل البعض على التخلف السوفييتي في صناعة مدافع الدبابات حيث يرون في التوجه للعيارات الكبيرة في الاتحاد السوفييتي أكثر منه في الغرب دليلاً على ضعف المدافع السوفييتي و بالتالي فهي توصف بأنها محاولة لتعويض هذا الضعف بزيادة عيار المدفع إلا أن هذا دون شك يتعارض مع حقيقة الأمر إذ لم يكن السوفييت هم الوحيدين الذين يسعون لاستخدام المدافع عالية العيار Large Caliber بل كذلك كان الغرب أيضاً حيث أن كلا الطرفين قاما بتطوير مدافع عالية العيار لدباباتهم في فترة الأربعينات و الخمسينات و استطاع الروس و بنجاح تصنيع المدفع D-25 من عيار 122مم و الذي استخدم بالفعل على الدبابة ستالين Stalin في العام 1944 , الأمريكان بدورهم كانوا يسعون لتطوير مدافع عالية العيار كذلك لاستخدامها على دباباتهم و انصب الجهد على تطوير عدة مدافع من عيار 155مم و 128مم و 122مم إلا أن الجهود الأمريكية اصطدمت بعوائق عديدة أهمها قوة الارتداد في المدافع التي طوروها و التي كانت كبيرة جداً Large Recoil Forces و التي لم تحتملها الدبابات التي كانت من المفترض أن تستخدم هذه المدافع و من أهم العوائق أيضاً هو حجم الذخيرة و وزنها الذي اقترب من 60 كيلوغراماً للمدفع عيار 155مم ما دفع الأمريكان لاعتماد ذخيرة مجزئة مؤلفة من قطعتين و ذلك لتسهيل عملية التلقيم إلا النتيجة كانت أكثر سوءاً حيث ارتفع وزن الذخيرة إلى 61 كيلوغراماً (الحشوة الدافعة كان وزنها 18كغ و القذيفة 43كغ) كذلك نفس المشكلة عانت منها المدافع من عيار 128مم و 122مم و استمرت الولايات المتحدة بأبحاث تطوير المدافع عالية العيار و التي بدأت في الأربعينات حتى عام 1956 فكانت النتيجة المدفع M58 من عيار 120مم و الذي استخدم على الدبابة الثقيلة Heavy Tank المسماة M103 التي دخلت الخدمة عام 1957 لتكون الند للدبابة السوفييتية ستالين التي دخلت الخدمة عام 1944 و المزودة بمدفع من عيار 122مم , المدفع الجديد بالرغم من اعتماده بالخدمة فقد كان يعاني من سلبيات عديدة أهمها هي المشكلة التي عانى منها أسلافه من المدافع الأمريكية عالية العيار و هي ضخم حجم القذيفة و وزنها الكبير و التي استوجبت أن يكون للدبابة الأمريكية M103 ملقمين أثنين بدلاً من ملقم واحد (كما هو في الدبابة السوفييتية ستالين) ما رفع عدد أفراد طاقم الدبابة لخمسة و بالتالي أدى ذلك لزيادة حجم البرج بشكل كبير و معه ارتفع الوزن إلى 58 طناً مقابل 46 طناً للدبابة السوفييتية ستالين و الجدير بالذكر هنا أن السوفييت أدخلوا بعد أقل من عقد من الزمن مدفعاً من عيار 125مم استغني به عن الملقم البشري بشكل نهائي و تم اللجوء لملقم آلي و التي كانت سابقة في تاريخ صناعة الدبابات و الذي استخدم في الدبابة T-64 ما أتاح خفض عدد طاقم هذه الدبابة إلى ثلاثة أفراد فقط .
و نبقى في موضوع مدافع الدبابات بين الاتحاد السوفييتي و أمريكا و سنتطرق هنا لمسألة المدافع المحلزنة و الملساء الجوف Rifled and smooth bore guns حيث كان يعتمد حتى بداية الستينات على المدافع المحلزنة بشكل أساسي في تسليح الدبابات إلا أنه مع ظهور الذخائر المتوازنة بزعانف APFSDS ازداد الاهتمام بتطوير مدافع دبابات ملساء الجوف و قامت الولايات المتحدة بمحاولات لتطوير مثل هذه المدافع في الفترة ما بين عام 1955 و العام 1960 و نذكر من هذه المدافع المدفع T208 من عيار 90مم إلا أن النتائج لم تكن مرضية The smooth-bore tank guns originally developed in the United States were not considered satisfactory ثم عاودوا العمل على مدفع جديد أملس الجوف من عيار 120مم بين العامين 1963 و 1965 و هذا أيضاً تم التخلي عن مشروعه , ألمانيا بدورها عملت على تطوير مدفعين أمسلي الجوف من عيار 105مم و 120مم و ذلك بدءاً من العام 1965 و تم اختبار النماذج بين عامي 1966 و 1969 و التي أظهرت أداءً جيداً للمدافع الألمانية الجديدة و بدءاً من العام 1972 تم استخدام هذه المدافع على النماذج الأولية للدبابة Leopard 2 .
السوفييت بدورهم كانوا مرة أخرى السباقين في تصنيع و استخدام مدافع الدبابات ملساء الجوف Smooth bore guns حيث عمل السوفييت على تطوير مدافع الدبابات ملساء الجوف في النصف الثاني من خمسينات القرن المنصرم و نجحوا بالفعل بتصنيع مدفع أملس الجوف من عيار 115مم و هو المدفع U-5TS و الذي استخدم في الدبابة T-62 التي دخلت الخدمة عام 1961 و كذلك الأمر بالنسبة للدبابة السوفييتية T-64 و التي دخلت الخدمة عام 1965 فقد زودت هي الأخرى بالمدفع أملس الجوف D-81 من عيار 125مم و الذي كان أول مدفع دبابة تقليدي يستخدم لإطلاق الصواريخ الموجهة من الدبابة حيث كان يستطيع إطلاق مختلف أنواع الذخائر المضادة للدبابات بالإضافة لإطلاقه الصواريخ .
من الأمور التي يجادل بها البعض أيضاً حول كفاءة مدافع الدبابات السوفييتية هو العمر الافتراضي لهذه المدافع أي عدد الإطلاقات التي ينفذها المدفع قبل وجوب استبداله فمن المعروف أنه مع ازدياد عدد الإطلاقات بالمدفع تتعرض السبطانة و كذلك حجرة الانفجار في المدفع للتآكل و الاهتراء بفعل عوامل الاحتكاك و الضغط العالي و كذلك تفاعل المادة المتفجرة و الغازات الناتجة عنها مع معدن السبطانة و حجرة الانفجار ما يؤدي لتخفيض كفاءة المدفع من حيث الدقة و سرعة خروج المقذوف من الفوهة .
و يستعرض البعض أرقاماً معينة للعمر الافتراضي لمدافع الدبابات دون الأخذ بالاعتبار أن هذه الأرقام غير ثابتة حتى لنفس المدفع و أن العمر الافتراضي لمدافع الدبابات يرتبط بمجموعة من العوامل التي تؤثر إيجاباً أو سلباً به و من أهم هذه العوامل وبغض النظر عن المدفع هو الذخيرة المستخدمة إذ تؤثر ذخائر الطاقة الحركية على عمر المدفع بشكل اكبر من غيرها و ذلك بسبب الجهود التي يتحملها المدفع أثناء إطلاقها بغية وصولها سرعات كبيرة داخل السبطانة كذلك فإن المواد الدافعة المستخدمة في إطلاق قذائف الطاقة الحركية لها دور أساسي و هي تختلف من قذيفة إلى أخرى و تبقى باقي أنواع الذخائر التي تطلقها الدبابات أقل تاثيراً على المدفع و بسبب هذا الاختلاف في تأثر العمر الافتراضي للمدفع حسب نوع الذخيرة فقد تم وضع معيار يساعد على حساب العمر الافتراضي لمدافع الدبابات و هو ما يرمز له بـ EFC أو Effective Full Charge و هذا المعيار يعطي لكل نوع من القذائف قيمة رقمية معينة يقوم على أساسها بجمع ناتج قيمة كل الإطلاقات حسب أنواع الذخائر المستخدمة ثم يقسمها على عدد الإطلاقات و يكون الناتج هو قيمة الـ EFC أو العمر الافتراضي لمدفع دبابة ما .
بالعودة للمقارنة بين عمر المدافع الغربية و السوفييتية فإنه من الصعوبة بمكان وضع تصور و مقارنة دقيقة لهذه الجزئية بسبب شح المعلومات عن التقنيات المستخدمة حالياً من قبل الروس في تصنيع مدافع دباباتهم حيث لا يعرف على وجه الدقة تركيبة المعدن المستخدم في صناعة السبطانة و باقي أجزاء المدفع أو تركيبة الطلاء المستخدم لطلي جوف السبطانة و حجرة الانفجار أما بالنسبة للنماذج الاصلية للمدفع السوفييتي D-81 و المستخدم على كل الدبابات الحديثة الروسية بنسخ محسنة من حيث خلائط الفولاذ التي تدخل بتصنيع المدفع أو من حيث طلاء جوف السبطانة بخلائط الكروم لإطالة عمر المدفع فإن الاختبارات التي تمت عليها أوائل السبعينات قدرت عمره الافتراضي بـ 210 إطلاقات لقذائف الطاقة الحركية أو 600 إطلاقة حسب معيار العمر الافتراضي الأقصى EFC , المدافع الغربية بدورها تتوافر المعلومات عن عمرها الافتراضي بشكل أكبر و أكثر دقة حيث ذكرت دراسة خاصة بالجيش الأمريكي صادرة عام 2006 أن المدفع عيار 120مم الألماني الأصل و المصنع بالولايات المتحدة تحت مسمى M256 و المستخدم حالياً على دبابات Abrams يملك عمر افتراضي هو 280 إطلاقة قذيفة طاقة حركية
Current chrome plated barrel life for the 120mm tank gun is at 280 rounds و هنا و بالرغم من التفوق لصالح المدافع الغربية إلا أننا يجب ألا ننسى أن الرقم المذكور أعلاه و الذي يخص العمر الافتراضي لمدفع الدبابات السوفييتي من عيار 125مم هو للنماذج الأولى من هذا المدفع و التي يزيد عمرها الآن عن 30 عام كذلك إلى جانب عامل الزمن و إذا افترضنا أن التفوق قائم بالفعل لمصلحة المدافع الغربية فيجب أن نتذكر أن السوفييت كانوا يتبنون سياسة اقتصادية هدفها التقليل من نفقات التصنيع خصوصاً في صناعة الدبابات و ذلك تماشياً مع عقيدتهم التي تعتمد على استخدام الدبابات بأعداد كبيرة لذا كان من الضروري أن تكون تكاليف صناعة الدبابات أقل ما يمكن حتى يصبح بالإمكان إنتاجها بأعداد كبيرة و هذا الأمر ينطبق على صناعة مدافع الدبابات و التي تكلف أقل بنحو النصف مقارنة بمدافع الدبابات الغربية لذا عملياً فالروس يصنعون مدافع منافسة (في حال استبعدنا احتمال التفوق أو حتى التماثل في الجودة) و لكن بنصف قيمة المدافع الغربية ما يعني إمكانية تجديد مدفع الدبابة الرئيس و تركيب آخر جديد لدبابة ما بنفس القيمة الاقتصادية لمدفع غربي واحد أي إذا افترضنا تبديل المدفع عند الإطلاقة 150 و ليس 210 فهذا يعني أن الدبابة تقوم بإطلاق 300 إطلاقة بمدفع شبه جديد و ليس شبه مستهلك كما هي الحالة مع الدبابات الغربية و بنفس القيمة الاقتصادية تقريباً و هذا دون شك يؤكد التفوق المطلق للروس و من قبلهم السوفييت على نظرائهم الغربيين في هذا المجال أكان من حيث المستوى الفني فيما يخص الأسبقية بعدد من التقنيات التي تتعلق بمدافع الدبابات أو فيما يخص سياسة التسلح و النظرة السوفييتية لمعنى الاستهلاك و العمر الافتراضي لمدافع الدبابات , ويبقى من الصعوبة بمكان وضع مقارنة دقيقة لعمر الافتراضي بين المدافع السوفييتية و الغربية إذ على الرغم من تحديد معدل العمر الافتراضي لمدفع الأبرامز بـ 280 إطلاقة إلا أنه عدد من الدراسات الأخرى تتحدث عن أرقام أقل من ذلك طبقاً لجيل الذخيرة المستخدم و أدناه نعرض عليكم صوراً لمدفع الأبرامز تظهر بعض الأضرار التي أصابت طبقة الكروم التي تستخدم لحماية جوف السبطانة و هذه الأضرار هي لمدفع أطلق 119 طلقة فقط .
لا تنتهي قائمة المآخذ على القوة النارية للدبابات السوفييتية التي يتخذها أصحاب هذا الرأي أدلة على كلامهم عند الحديث عن قدرات المدفع الرئيس للدبابات السوفييتية بل تتعدى ذلك إلى الحديث عن قدرات الرماية على المسافات البعيدة للدبابات السوفييتية و يرجعون ذلك إلى التخلف (على حد قولهم) السوفييتي في تطوير أنظمة السيطرة على النيران Fire Control Systems و كذلك بسبب تخلف الوسائل المعينة على الاشتباك مع الأهداف البعيدة أثناء الحركة , و لهذا سوف نتناول قدرات الاشتباك على المسافات البعيدة للدبابات السوفييتية و نبين الغث من السمين بالاستناد للوقائع و العوامل التي أثرت في وضع التصور السوفييتي لمبادئ الاشتباك على المسافات البعيدة .
سنبدأ أولاً بالحديث عن قدرات الاشتباك أثناء الحركة Fire on the move و التي تعتمد بشكل أساسي على أنظمة موازنة و استقرار المدفع الرئيس Main Gun Stabilization Systems و التي تقوم بمهمة تثبيت المدفع على الهدف المراد ضربه عندما تكون الدبابة في حالة حركة و يستفاد منه بشكل خاص عندما تتحرك الدبابة على مسطحات وعرة نسبياً و غير مستوية .
تعود المحاولات الأولى لتطوير أنظمة الموازنة و الاستقرار لمدافع الدبابات Tank Gun Stabilization Systems لأواخر الثلاثينات حيث تم العمل على هذه الأنظمة بشكل متزامن تقريباً في كلٍ من الاتحاد السوفييتي و الولايات المتحدة و حاولت الولايات المتحدة الاستعانة بنتائج أبحاثها هذه و استخدامها على دباباتها في الحرب العالمية الثانية و بالفعل تم استخدام هذه الأنظمة في الدبابة الأمريكية M4 التي دخلت الخدمة عام 1942 إلا أن مردود هذه الأنظمة كان محدوداً للغاية و لم تثبت أي كفاءة عملية في المعارك the stabilisation systems fitted in all these US vehicles did not prove of great practical value during the Second World War و استمرت محاولات تطوير أنظمة موازنة المدفع الرئيس في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلا أن الملاحظ أن الولايات المتحدة لم تدخل لى الخدمة أي دبابات تستخدم أنظمة موازنة لمدافعها الرئيسة في كامل حقبة الخمسينات بل حتى أن النماذج الأولى من الدبابة M60 لم تكن مزودة بأنظمة موازنة و استقرار لمدافعها و ذلك حتى النسخة M60A2 في بداية السبعينات .
أما السوفييت و الذي ذكرنا سابقاً أنهم بدأوا محاولات تطوير مثل هذه المنظومات في أواخر الثلاثينات فقد حاولوا تجربة بعض الأنظمة البدائية على دباباتهم في فترة الحرب العالمي الثانية و استمروا في سعيهم هذا بعد الحرب و بالفعل ظهرت أولى الدبابات السوفييتية المزودة بنظام موازنة و استقرار للمدفع الرئيس و كانت تلك الدبابة T-54 حيث زودت النسخة T-54A التي دخلت الخدمة عام 1954 بنظام استقرار للمدفع الرئيس يقتصر على المحور العامودي فقط و بعدها بعامين تقريباً دخلت النسخة T-54B الخدمة بنظام استقرار شامل للمدفع الرئيس على المحورين العامودي و الأفقي و كذلك كانت كل الدبابات السوفييتية من ذلك اليوم لذا مما سبق أيضاً نجد أن السوفييت كانوا السباقين في استخدام أنظمة موازنة و استقرار المدافع على دباباتهم و بفارق زمني غير قليل ما يعني أن الدبابات السوفييتية كانت الأكثر قدرة على الاشتباك مع أهداف الخصم أثناء الحركة خصوصاً على المسافات البعيدة .
من المآخذ المفترضة التي تثار أيضاً بشأن قدرات الاشتباك على المسافات البعيدة بالنسبة للدبابات السوفييتية هو انخفاض إمكانية الإصابة من الطلقة الأولى probability of a hit with the first round بالنسبة للاشتباكات التي تحدث على مسافات تزيد عن 3 كيلومترات و التي ترتبط بشكل أساسي بأنظمة السيطرة على النيران و التي تتهم بأنها متخلفة بالنسبة للدبابات السوفييتية مقارنةً بالغربية , و الملفت أننا إذا ما قارنا الأمر متجاهلين العوامل التي أدت لهذه النتيجة سيتبين لنا ظاهرياً أن هذا صحيح لكن في الواقع الأمر غير ذلك تماماً .
السوفييت عندما وضعوا محددات و قواعد تصميم دباباتهم أخذوا بالحسبان كل ما يتعلق بمواجهة محتملة مع الخصم الأمريكي على الأرض الأوروبية و بالتحديد بأوروبا الوسطى Central Europe التي نظر لها من قبل السوفييت على أنها ستكون مسرح معظم العمليات العسكرية في حال نشوب المواجهة مع الغرب و على هذا الأساس و بالتوفيق مع سياساته الاقتصادية و الصناعية و العقيدة القتالية للقوات السوفييتية وضع أسس و مبادئ تصميم و تصنيع دباباته , و المطلع على هذه المعطيات يدرك تماماً أن الاتحاد السوفييتي قد خلق استراتيجية قتالية مبهرة تتماشى بمنتهى الدقة مع احتياجاته و عقيدته القتالية .
قد كان لمسرح العمليات المفترض و هو كما ذكرنا أوروبا الوسطى الدور الأكبر بأن كانت الدبابات السوفييتية غير مهيئة للاشتباك مع الأهداف على مسافات بعيدة حيث أن الطبيعة الجغرافية لأوروبا الوسطى لم تكن تستلزم توفر هذه القدرات بالنسبة للدبابات السوفييتية إذ أن مدى الكشف في تلك المنطقة أو ما يسمى اصطلاحياً بـ Frequency Of Sighting و كما هو ظاهر في الرسم البياني أدناه تسمح بكشف 80 بالمئة من الأهداف على مديات لا تتعدى الكيلومترين فقط و لهذا لم يسعى الاتحاد السوفييتي لأن تكون دباباته قادرة على الاشتباك على مديات تزيد عن كيلومترين أو ثلاثة و اعتبر المصممون السوفييت أن هذه الإمكانات لن تمنحه أي أفضلية إضافية بساحة المعركة و فضل الاستغناء عن هذه القدرات في سبيل تحقيق هدف آخر هو كذلك من صميم الاستراتيجية السوفييتية و هو تقليل نفقات تصنيع الدبابات قدر الإمكان حتى يتاح تصنيعها بأكبر عدد ممكن .
لكن المصممين السوفييت لم ينسوا الأهداف التي قد تحتاج دباباتهم للاشتباك معها من على مسافات بعيدة تزيد عن ثلاثة كيلومترات فعملوا على تطوير وسيلة جديدة للاشتباك معها و تدميرها تتيح للدبابات السوفييتية احتمالية إصابة من الطلقة الأولى أعلى بكثير من استخدام ذخائر الدبابات التقليدية و كانت هذه الوسيلة هي الصواريخ الموجهة المضادة للدبابات التي تطلق من سبطانة الدبابة Barrel launched ATGM و بالرغم من أن البعض يجادل بأن الهدف الأساسي من هذه الصواريخ ليس استخدامها ضد الدبابات بل هي المروحيات الهجومية المستهدفة بهذه الصواريخ إلا أنه مخطئ بشكل كبير و ذلك لسبب بسيط و هو أنه عندما ظهرت الفكرة عند السوفييت ثم بدأوا بتطوير هذه الصواريخ كانت فكرة المروحية الهجومية في طور البلورة و الاختبار و لم تكن سلاحاً يهدد بشكل حقيقي الدبابات السوفييتية و قد كانت هذه الصواريخ مخصصة لتدمير الدبابات بامتياز حيث رأى السوفييت أن نسبة الأهداف التي سيتم الاشتباك معها على مديات تزيد عن ثلاثة كيلومترات لن تزيد عن عشرة بالمئة بأحسن الأحوال لذا تم تخصيص 15% تقريباً من ذخائر الدبابات السوفييتية للتعامل مع مثل هذه الأهداف (6 صواريخ من أصل 40 قذيفة) و بالتالي فإن ادعاء أن عدد الصواريخ أقل من أن يمكن استخدامها ضد الدبابات هو الآخر غير صحيح بل و المقارنة تظهر أنها أكثر من اللازم .
لقد كان لجوء السوفييت للصواريخ الموجهة التي تطلق من سبطانة الدبابة نقلة نوعية في إمكانات الاشتباك على المسافات البعيدة و رجحت كفة الدبابات السوفييتية بشكل واضح تماماً حيث أن فرصة إصابة الأهداف على المديات البعيدة باستخدام الصواريخ الموجهة من الجيل الثاني كانت أقل تأثراً بشكل ملحوظ مقارنة باستخدام ذخائر الدبابات التقليدية و التي كانت تنخفض إمكانية إصابة الأهداف بواسطتها بشكل كبير كلما ازدادت مسافة الاشتباك حيث أن نسبة إصابة الأهداف من الطلقة الأولى على المسافات التي تساوي ثلاثة كيلومترات و أكثر لم تتجاوز 35% بينما كانت فرص الصواريخ الموجهة من الجيل الثاني تقارب الـ 80% كما هو ظاهر في الرسم البياني أدناه و الذي يقارن فرص الإصابة لهدف ما باستخدام ذخائر الدبابات التقليدية و الصواريخ الموجهة تبعاً للمسافة .
ختاماً و بالنسبة للذخائر فسأدع الصورة تتكلم مؤقتاً و التي تظهر التفوق السوفييتي الواضح حتى في مجال الذخائر حتى تفكك الاتحاد السوفييتي و توقف عجلة التطوير و الإبداع ما منح الفرصة للغرب لأن يتفوق و سيكون لنا وقفة مع الذخائر في موضوع لاحق مخصص لهذا الشأن لنقارن مختلف الأجيال من ذخائر الدبابات السوفييتية و الغربية و لنرى هل حقاً كانت الذخائر السوفييتية متخلفة مقارنة بالذخائر الغربية أم أن في الأمر سوء فهم و سوء مصادر و سنعرج بالموضوع أيضاً على الملقمات الآلية في الدبابات السوفييتية/الروسية لنحدد مكامن الاختلاف بين النسخ الحديثة و القديمة منها و سنستفيض أكثر بإذن الله في شرح و توضيح العقيدة السوفييتية في استخدام الدبابات و مكامن الاختلاف في النظرة السوفييتية للدبابات مقارنة بالغرب .