من أهم المعارك التي دخلت التاريخ بقيادة سي لخضر معركة بوزڤزة، تابلاط، بوسكن، بني معلوم، جراح، البويرة، برج البحري، الزبربر، الكاف لخضر، تمزڤيدة، واد الآخرة، جبل اللوح، جواب، الساحل 616... وغيرها من المعارك الأخرى التي دوّخ فيها القوات الفرنسية.
لما قرّر الأخوان رابح، المعروف بسي لخضر، المولود سنة 1934، وعيسى مقراني المولود سنة 1936 تهيئة الأجواء للعمل المسلح ضد الاستعمار الفرنسي بمنطقة "بالسترو"، الأخضرية حاليا، شق على الوالد محمد في البداية أن يفارق فلذتيْ كبده في ريعان شبابهما، لكنه سلّم أمره لله في نهاية الأمر ودفع بهما إلى قوافل الشهداء على درب الحرية. ومن رحمة المولى سبحانه وتعالى، أنه عوّض الوالد محمد بولدين آخرين الأول أطلق عليه اسم لخضر وولد سنة 1963، ليكون خلفا لولده الشهيد سي لخضر، والثاني أطلق عليه اسم عيسى وولد سنة 1965، تيمّنا بابنه الثاني سي عيسى الطبيب الشهيد.
وفي هذا الحوار مع لخضر، الأخ الأكبر للشهيدين، تفاصيل كثيرة سمعها الشاهد من والده محمد الذي توفي سنة 1995، ومن أمه التي ما تزال على قيد الحياة، تروي كلها بطولات سي لخضر الذي لقّن فرنسا دروسا في العسكرية ما تزال تذكرها إلى اليوم، وكبّدها خسائر معتبرة شكّلت نواة لتكوين تلك القوة التي صارت عليها الثورة التحريرية فيما بعد، هذا كله من خلال حرب العصابات التي كان سي لخضر أحسن من نظّر لها..
بالسترو.. ولادة بطل
أهّلت جغرافية منطقة "بالسترو"، وهي التسمية الاستعمارية للأخضرية التابعة لولاية البويرة حاليا، لتكون قلعة محصّنة ضد الاستعمار الفرنسي من خلال جبالها وغاباتها وتضاريسها، وقربها من الجزائر العاصمة لأنّها الحدود الطبيعية لسهول متيجة، مثلها مثل جبال الأطلس البليدي وجبال القبائل، كما أنّها تعتبر البوابة الرئيسية والطبيعية للمناطق الداخلية للوطن، خاصة نحو الشرق الجزائري ومنطقة القبائل، أو ناحية الجنوب حيث توجد مرتفعات التيطري.
ولهذا فقد كانت "بالسترو" من القواعد الأولى الرائدة في احتضان الثورة حيث أسّسها المرحوم أعمر أوعمران، وأسند القيادة العسكرية فيها إلى القائد الشاب الشهيد سي لخضر الذي صنع العديد من الملاحم البطولية بهذه المنطقة إلى درجة حوّلته إلى أيقونة للكفاح المسلح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي وآلته الجهنمية.
في 6 نوفمبر 1934، رُزق محمد مقراني، المواطن الفقير، بصبي سماه "رابح"، وسط جو من الفرحة للوالد والوالدة.
الوالدة "مناش الزهرة"، توفيت بعد سنوات قليلة من ولادة رابح، ولكن بعد أن أنجبت عددا آخر من الأولاد عاش منهم ثلاثة بالإضافة إلى رابح، بينهم عيسى الذي أصبح فيما بعد ضابطا وطبيبا بجيش التحرير واستشهد وهو في سن الواحد والعشرين من العمر، هذا بالإضافة إلى ابنتين هما "حمامة" و"زوينة" وعاشوا كلهم مع جدتهم السيدة "خديجة ولداش" بعد وفاة والدتهم المبكر.
كان الوالد محمد فقيرا جدا، عمل مسيّرا لمقهى يملكه أحد أقاربه، ويقع في مواجهة الدشرة، وكان الوالد تحت وطأة الفقر كثيرا ما يقضي أسبوعا كاملا بالمقهى يعمل ليل نهار دون أن يرى عائلته.
ولتعويض أبنائه عن حنان والدتهم التي فقدوها مبكرا، حاول الوالد محمد إعادة الزواج، لكن زوجات الأب حاولن تشريد أبنائه وكدن ينجحن لولا صرامة الجدة والوالد في الحفاظ على العائلة.
واستمر هذا الأب في رعاية أبنائه رافضا كل زوجة لا تهتم بأسرته، بل أكثر من ذلك فقد قرّر بعد عودته من المشاركة في الحرب العالمية الثانية سنة 1945 أن يُدخل ابنيه رابح وعيسى إلى المدرسة بالرغم من فقره المدقع.
وهنا بدأت الملحمة الحقيقية في حياة هذه الأسرة الفقيرة، حيث لم يكن من السهل في ذلك الوقت أن يلتحق أبناء الفقراء بالمدارس الفرنسية، لكن قد يكون من حظ ابني محمد أن يتوسط لهما قريبُهما صاحب المقهى الذي يعمل به والدهما وهو السيد بوجناح، وما عقّد وضعيتهما إزاء الالتحاق بمقاعد الدراسة هو تجاوزهما السن القانونية للتمدرس حيث كان رابح قد بلغ أحد عشر عاما من العمر، بينما بلغ أخوه عيسى تسع سنوات.
ومع نجاح وساطة قريبهما، كان الأخوان رابح وعيسى يقطعان المسافة الجبلية بين الدشرة والمقهى حيث يعمل والدُهما مشيا على الأقدام وسط الصخور والأحراش بأقدام حافية ويرتديان جلابتين تلازمهما صيفا وشتاء.
وعند وصولهما إلى المقهى يستقبلهما الوالد فيتناولان عنده قهوة الصباح ثم ينطلقان من جديد عبر الطريق المعبد على مسافة حوالي ثلاثة كيلومترات قبل أن يصلا إلى المدرسة، وهناك يجدان زملاءهما من أبناء المستعمرين والباشغوات يرفلون في الملابس الدافئة الأنيقة، فينظر الأخوان رابح وعيسى إلى بعضهما بعيون تملأها الحيرة وتقتلها أسئلة من قبيل ما الفرق بيننا وبين هؤلاء المترفين؟
لم يمض وقت طويل حتى أدرك الشقيقان أسباب هذه الفروق، ما غرس في نفسيهما بذور الوطنية المبكرة فأقسما على العمل من أجل إعلاء كلمة الحق حتى لا تتكرر مأساتهما مع الأجيال اللاحقة من مواطنيهم أبناء البلد الحقيقيين.
بعد خروج الأخوين من المدرسة مساء، كانا يقطعان المسافة نفسها في طريق العودة، وعند وصولهما إلى المقهى مكان عمل الوالد، يحضر لهما القهوة وعيناه تذرفان الدموع حزنا على حالهما وحاله، وكثيرا ما يقوم بغسل ثوبيهما وقد غرقا في الوحل والطين. ويدخل الصبيان تحت غطاء بال فوق سرير مهترئ يضمُّه مقهى الوالد انتظارا للحظة جفاف ثيابهما.
وأمام هذه المأساة كان الوالد لا يتردّد في تذكير ابنه الأكبر رابح بقوله: "هل ستذكر يا بني في المستقبل ما أعاني من أجلكما؟"، فيجيبه رابح على الفور: "نعم سأذكر ذلك يا والدي ولن أنساه أبدا..".
ويذكر الوالد محمد أيضا أن ابنه محمد طالما ردد أمامه أكثر من مرة قوله : "سأحارب فرنسا يا أبي.."، فكان الوالد يقابل مثل هذه الأفكار بالابتسام، لأنه يعرف أن رجاحة عقل ابنه أكبر كثيرا من سنه، ويعرف أيضا أنه لا قِبل لابنه بمواجهة قوات فرنسا الاستعمارية المدعومة بالحلف الأطلسي.
استمرّ رابح في الدراسة مع شقيقه لأكثر من خمس سنوات، وخلال تلك الرحلة الدراسية الشاقة كان أستاذهما الجزائري الأستاذ عزي يؤكد لوالدهما محمد بأن ابنيه يدرسان جيدا، وأنهما متفوقان حتى على زملائهما من الفرنسيين وأبناء الذوات.
ولكن لم تمر سوى مدة قصيرة حتى عرف المدرّسون الفرنسيون وإدارة المدرسة أن التلميذ رابح بدأ يمارس السياسة ويقتني الجرائد ويخبّئها، وفي بعض الأحيان يعدو هاتفا بعلو صوته "الجزائر..الجزائر"، وهو يحمل جريدة على طول الشارع الرئيسي لمدينة بالسترو، هذا الشارع الذي يحمل اليوم اسمه "شارع سي لخضر"، وعمره يومئذ لم يكن يتجاوز 16 عاما.
فرنسا تكتشف الحقيقة الثورية للأخوين مقراني
لما تأكدت السلطات الاستعمارية في بالسترو أن رابح وشقيقه يمارسان السياسة ويتكلمان كلاما عن الوطنية والجزائر تم فصلهما من الدراسة رغم أنهما كانا متفوقين جدا ونجحا في اختبار الدخول إلى المرحلة الثانوية ومع الأوائل أيضا.
وهكذا وجد رابح نفسه عاطلا مع شقيقه بعد فصلهما من الدراسة وهما يواجهان الأب المسكين بهذا القرار الجائر، لكن رابح طمأن أباه بأنه لن يركن إلى الكسل بعد هذا الفصل التعسفي، بل سيتعلم مهنة يرتزق منها. ومن هنا كانت البداية حيث شرع رابح يتدرب لإتقان مهنة البناء، بعد أن تقلب في عدة مهن في كل من الأخضرية "بالسترو" والحراش، تعلّم مهنة البناء وأصبح يعمل ويرسل إلى والده كل ما يحصل عليه من مال مقابل عمله. ولم تكد تحل سنة 1953 حتى كان الأب محمد قد قرر الزواج من جديد من عائلة بن شعبان بشرط أن تعتني بأبنائه، على أن يعتني هو بأبنائها من زوجها المتوفى.
وبانضمام هذه المرأة المسماة "العلجة" رفقة ابنيها اليتيمين، إلى الأب محمد وأبنائه الأربعة، تقاسمت العلجة أعباء الحياة مع زوجها، ولم تكن قد أتمّت عامها الثامن والعشرين من العمر عندما توفي زوجها وتركها في رحلة مع المعاناة إلى درجة أن ابنتها الصغرى خدوجة توفيت بسبب الجوع والفقر والحرمان.
لقد كان سي لخضر يعتبر زوجة أبيه أما حقيقية ويحترمها ويوقرها بالرغم أنها لا تكبره إلا بتسع سنوات. وكان سي لخضر يجد لدى زوجة أبيه كل الدعم والمساندة خاصة لما يتعلق الأمر بالقضايا التي يتحرج من تناولها مع والده مباشرة، ومنها فكرة زواجه الذي اقترحه الوالد عليه ولم يكن قد بلغ عشرين سنة من العمر، فراح يطلب منها أن تلتمس له من والده أن يعفيه من فكرة الزواج بدعوى أن الزوجة التي يرغب بها مهرها غال جدا، ولما ألحت عليه في السؤال عنها، أجابها بأنه على اتصال بمجموعة من الوطنيين منذ مدة طويلة بهدف تحضير العمل المسلح ضد المستعمِر الغاصب، وأنه لن يرضى بعروس أدنى من الحرية، حرية الجزائر بلدا وشعبا.
وفي اليوم الموالي دعا الأب محمد ابنه للحديث معه في هذا الموضوع فخاطبه بالقول "يا بني رابح.. أنت تعلم أنني لم أخرج من هذه الدنيا سوى بكم أنتم أبنائي وأرجو من الله أن يحفظكم، وأنت تعلم أيضا كم عانيت من أجلكم، وأنت وأخوك اليوم تريدان تركي وحيدا في هذه الدنيا..".
هنا تدخلت زوجة الأب لترجح كفة الابن رابح وتقنع الوالد بضرورة ترك ابنه ليقرر ما يشاء قائلة "أدعُ له بالخير والنصر.."، وهنا سقطت دموع الوالد كمدا على فراق أبنائه، لكن سي رابح الابن حاول مواساة والده فحدّثه عن ضرورة مواجهة فرنسا الاستعمارية ووضع حد للعبودية والاحتقار الذي يعاني منه الجزائريون في وطنهم.
عند اقتراب الساعة الصفر لإطلاق أول رصاصة في مسيرة الثورة التحريرية، كان سي لخضر قد أتم استعداداته رفقة زملائه من الشباب، وكان مرشدهم آنذاك أعمر أوعمران المسؤول السياسي لقاعدة بالسترو والمنسق الثوري العام. قبل مغادرة سي لخضر البيت العائلي والالتحاق بصفوف الثورة ألحّ الوالد على ابنه أن يأخذ معه بندقية الصيد التي تملكها العائلة، لكن سي لخضر رفض نظرا لفقر العائلة وحاجتها إلى البندقية. وكان سي عيسى وهو الأخ الأصغر لسي لخضر قد توجه إلى وهران للمشاركة في تربص طبي، أهّله فيما بعد ليكون ضابطا طبيبا في صفوف الثورة.
قيادة كوموندوس علي خوجة
كان عمرُ سي لخضر عندما اندلعت الثورة التحريرية عشرين سنة، وبالرغم من هذه السن المبكرة إلا أنه كان من أوائل مفجّري الثورة، وبعد شهرين فقط من اندلاعها أصبح قائدا سياسيا وعسكريا لمنطقة بالسترو -عين بسام، حيث قام بتنظيم خلايا الثورة منذ البداية كما بدأ في إعداد فصائل جيش التحرير لمواجهة فرنسا في هذه المنطقة الإستراتيجية القريبة من العاصمة، والمكوّنة من سهول متيجة الواسعة والجبال المحاذية لها، فبدأت الثورة تعرف زخما كبيرا وتأييدا من طرف الشعب، ثم تدعمت صفوف سي لخضر أكثر عندما انضم إليه البطل علي خوجة بعد فراره من الجيش الفرنسي، وقد قام الشهيدان بأعمال جليلة في سبيل تنظيم كتائب جيش التحرير الوطني بالمنطقة المذكورة التي كانت تمثل المنطقة الأولى من الولاية الرابعة التاريخية، كما قادا جنباً إلى جنب معارك كبرى في كل من خميس الخشنة، تابلاط، البويرة، والقادرية، كبّدا خلالها العدو خسائر جسيمة سنة 1955، لكن البطل علي خوجة استشهد مبكرا في معركة بطولية في ضواحي برج الكيفان بالقرب من الجزائر العاصمة رفقة مجموعة من المجاهدين. وهنا قرر سي لخضر أن ينتقم لرفيق كفاحه، فكان أول ما قام به أنه أطلق اسم صديقه الشهيد علي خوجة على الكتيبة الرئيسية التي كان يقودها، وهي مجموعة الصاعقة التي كانت تسمى "كوموندوس سي لخضر" لتصبح "كوموندوس علي خوجة"، وكانت هذه المجموعة مكوّنة من بضع مئات من الجنود ذوي التدريب العالي ومسلحة أحسن تسليح، وقادها سي لخضر بعبقرية نادرة أصبح العدو يحسب لها ألف حساب.
وفي عام 1956 تقلد سي لخضر رتبة نقيب أبلى فيها بلاء حسنا، ولم يستمر نقيبا سوى عام واحد حتى تمت ترقيته إلى رائد في بداية سنة 1957 وهنا وجد أمامه المجال واسعا حيث أصبح قائدا عسكريا للولاية الرابعة التاريخية، ووظف خبرته الحربية والتكتيكية وأصدر عندئذ الدليل الثوري الشهير الذي يحمل عنوان "من الحرب إلى حرب العصابات"، فكان جنود وفصائل جيش التحرير يجدون في هذا الدليل الذي أعده سي لخضر إستراتيجية الكفاح ووسائله وطرقه، وتم توزيع الدليل على كافة مناطق ونواحي الولاية الرابعة، ليوزع بعدها على كافة الولايات الأخرى. ومن هنا صار سي لخضر القائد العسكري الفعلي لحرب العصابات انطلاقا من المركز الرئيسي "زبربر" بقاعدة بالسترو بالولاية الرابعة، وقام بالعمل من جديد على تنظيم وحدات وكتائب جيش التحرير بحسب المناطق ووضع على رأس كل منطقة ضابطا برتبة نقيب.
كان سي لخضر شخصية محببة إلى النفوس، رفيقا وودودا، ويمتاز بشجاعة أسطورية، واستطاع أن ينقل هذه الشمائل والصفات إلى جنوده، خاصة مجموعته التي كان يقودها بنفسه وهي "كوموندوس علي خوجة" الشهيرة، أو الوحدات الأخرى وأهمها كتائب الزبيرية، الحاكمية، العثمانية وعشرات الكتائب غيرها.
ومن أهم المعارك التي دخلت التاريخ بقيادة سي لخضر: بوزڤزة، تابلاط، بوسكن، بني معلوم، جراح، البويرة، برج البحري، الزبربر، الكاف لخضر، تمزڤيدة، واد الآخرة، جبل اللوح، جواب، الساحل 616... وغيرها من المعارك الأخرى، إلى درجة أن بعضها سجلت مآثرها إحدى الأغاني الشعبية وهي معركة وادي المالح:
في واد المالح
سي لخضر بجنوده فارح
يقتل ويذبح عسكر هاربة بلا نظام
الله ينصر حزب الثوار
واحنا محينا الاستعمار.
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/203416.html