***
ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأه فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى . أما بعد :
فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله
أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين
( و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد
إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون
الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) .
فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده ،
وكثر اللغط ،وأمر بنا فأخرجنا).
[رواه الإمام البخاري ح/4278 ]،
فهذا دليل بين بأنهم كانوا يعرفون وقت خروجه ومكانه وأوصافه
،لكن حب الدنيا وحب الملك وخوف القتل صدت هرقل عن قبول
الحق ، والإيمان به ، فأعلن رفضه له ، ولم يقف موقف الثبات
الذي وقفه الأسقف الأكبر في مملكته – معنى الأسقف :
رئيس دين النصارى - والذي أقر هرقل بأنه صاحب أمرهم .
فقد أرسل هرقل بالكتاب إلى الأسقف واسمه ( ضغاطر ) ،
فقال الأسقف: هذا الذي كنا ننتظر ، وبشرنا به عيسى ،
أما أنا فمصدقه ومتبعه . فقال له قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك
ذهب ملكي . ثم قال الأسقف لرسول النبي صلى الله عليه وسلم
دحية رضي الله عنه : خذ هذا الكتاب واذهب إلى صاحبك فأقرئ
عليه السلام ،وأخبره أني أشهد أن لا إله الا الله وأن محمدا رسول
الله ، وأني قد آمنت به وصدقته ،وأنهم قد أنكروا على ذلك .
ثم خرج إليهم فقتلوه . فلما رجع دحية إلى هرقل قال له :قد قلت
لك إنا نخافهم على أنفسنا ، فضغاطر كان أعظم عندهم مني ).
[ الإمام ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري
1/42-43 ]،
فدعا هرقل عظماء الروم ، فجمعهم في دار له فقال :
يا معشر الروم ، هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد ،وأن يثبت
لكم ملككم ،فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش
إلى الأبواب ، فوجدوها قد غلقت ، فقال :علي بهم .فدعا بهم
فقال :إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم ،فقد رأيت منكم الذي
أحببت .فسجدوا له ورضوا عنه
[رواه الإمام البخاري ح/4278 ].
ومن هذا الحديث نقف على أمرين مهمين :
أولا : أن بعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -بكتاب
إلى قيصر دليل على عموم رسالته لجميع الناس ،
عربهم وعجمهم ، أبيضهم وأسودهم ،
قال تعالى :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ
وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [سورةالأعراف الآية: 158] ،
وقال تعالى:
{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }[ سورةالفرقان الآية: 1 ]،
وحياته – صلى الله عليه وسلم – منذ بعثته ، وحتى وفاته شاهدة
على عموم رسالته لجميع الناس ، فقد دعا اليهود في المدينة
للإسلام ، وجاهدهم فأخرج بعضهم منها ، وقتل بعضهم ،
وفي ذلك دليل على عموم رسالته ، ثم إنه دعا النصارى ،
فناظر نصارى نجران ، ودعاهم للمباهلة ، وخرج لقتال النصارى
في تبوك ، وبعث الكتب لكسرى ، وقيصر ، والمقوقس ، وغيرهم0
إنه لم يفعل ذلك كله إلا لأنه رسول لكل الشعوب على اختلاف
ألسنتهم وألوانهم ، بل وللجن أيضا ،
قال ابن تيمية – رحمه الله -
مدللا على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم ، وأنه مبعوث إلى
جميع الناس أهل الكتاب ، وغير أهل الكتاب ، بل إلى الثقلين
الإنس والجن : إنه كان يكفر اليهود والنصارى الذين لم يتبعوا
ما أنزل الله عليه ، كما كان يكفر غيرهم ممن لم يؤمن بذلك ،
وأنه جاهدهم وأمر بجهادهم .
[ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/10 ] .
أما الأمر الثاني : أن هرقل فقه مسألة مهمة ، وهي مسألة يتخذها
المعاندون من أهل الكتاب ذريعة لصد الناس عن اتباع الحق ،
وهي أن وصول كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه هو
بلاغ لرسالته وإن كان بلغة العرب ، فلم يرده ، ولم يرفضه ،
بل بادر بترجمته ، وفهم معانيه ، وتحري الحق بحواره مع أبي
سفيان ، وعرضه على علماء النصارى في مملكته ، وكذلك كان
موقف ضغاطر أكبر علماء بلاده ، فلم يرفض الدعوة بحجة
أن النبي عربي اللسان ، وهو للعرب خاصة دون غيرهم .
وإن المتأمل اليوم لكثرة المسلمين في شتى بقاع الأرض ،
ومن كل اللغات ، ومن كل الأجناس ليعلم أن هذه الرسالة عامة
لكل العالمين ، وأن من يقول بخصوصيتها لأهل اللسان العربي
ليعارض النصوص من الكتب السماوية الصريحة ، ويغمض
عينيه عن ما يشهد به الواقع البشري اليوم ومن قبل ،
منذ بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا .
يقول ابن تيمية رحمه الله :""أنزل عليه القرآن باللسان العربي ،
كما أنزلت التوراة باللسان العبري وحده ، وموسى -عليه السلام -
لم يكن يتكلم إلا بالعبرية ، وكذلك المسيح - عليه السلام -
لم يكن يتكلم بالتوراة والإنجيل وغيرهما إلا بالعبرية ،
وكذلك سائر الكتب لا ينزلها الله إلا بلسان واحد ، بلسان الذي
أنزلت عليه ولسان قومه الذين يخاطبهم أولا ، ثم بعد ذلك
تبلغ الكتب وكلام الأنبياء لسائر الأمم : إما بأن يترجم لمن
لا يعرف لسان ذلك الكتاب ، كما حدث في قصة الكتاب لهرقل
وغيره من الملوك ، وإما بأن يتعلم الناس لسان ذلك الكتاب
فيعرفون معانيه ، وإما بأن يبين للمرسل إليه معاني
ما أرسل به الرسول إليه بلسانه ،
وإن لم يعرف سائر ما أرسل به .
فالحجة تقوم على الخلق ويحصل لهم الهدى بمن ينقل عن
الرسول تارة المعنى ، وتارة اللفظ ، ولهذا يجوز نقل حديثه
بالمعنى ، والقرآن يجوز ترجمة معانيه لمن لا يعرف العربية
باتفاق العلماء ، وأبناء فارس المسلمون لما اعتنوا بأمر الإسلام ،
ترجموا مصاحف كثيرة ، فيكتبونها بالعربي ، ويكتبون الترجمة
بالفارسية ، وكانوا قبل الإسلام أبعد عن المسلمين من الروم
والنصارى ، فإذا كان الفرس المجوس قد وصل إليهم معاني القرآن
بالعربي وترجمته ، فكيف لا يصل إلى أهل الكتاب وهم أقرب
إلى المسلمين منهم ؟! وعامة الأصول التي يذكرها القرآن عندهم
شواهدها ، ونظائرها في التوراة والإنجيل والزبور ،
وغير ذلك من النبوات، بل كل من تدبر نبوات الأنبياء ، وتدبر
القرآن ، جزم يقينا بأن محمدا – صلى الله عليه وسلم -
رسول الله حقا ، وأن موسى – عليه السلام - رسول الله صدقا ،
لما يرى من تصادق الكتابين التوراة والقرآن ، مع العلم بأن
موسى - عليه السلام - لم يأخذ عن محمد - صلى الله عليه وسلم -
، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم -لم يأخذ عن موسى – عليه
السلام - ، فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل المعرفة
بحاله ،كان أُمّيِّاً ،
قال تعالى :
{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }[ سورة العنكبوت الآية : 48 ]،
ومن قوم أميين ،
قال تعالى :
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي
ضَلَالٍ مُّبِينٍ }
[ سورة الجمعة الآية : 2 ]،
ولم يكن عندهم من يحفظ التوراة والإنجيل ولا الزبور ،
وكان محمد -صلى الله عليه وسلم – مقيما بمكة لم يخرج
من بين ظهرانيهم ، ولم يسافر قط إلا سفرتين إلى الشام ،
خرج مرة مع عمه أبي طالب قبل الاحتلام ، ولم يكن يفارقه ،
ومرة أخرى مع ميسرة في تجارته ، وكان ابن بضع وعشرين
سنة ، مع رفقة كانوا يعرفون جميع أحواله ، ولم يجتمع قط
بعالم أخذ عنه شيئا لا من علماء اليهود ولا النصارى ولا من
غيرهم ، لا بحيرى ولا غيره ، ولكن كان بحيرى الراهب لما
رآه عرفه ، لما كان عنده من ذكره ونعته ، فأخبر أهله بذلك ،
وأمرهم بحفظه من اليهود ، ولم يتعلم لا من بحيرى ،
ولا من غيره كلمة واحدة ، وقد دافع الله تعالى عن نبيه محمد –
صلى الله عليه وسلم – في كتابه رداً على من يزعم تعليم البشر
له بقوله :
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }
[ سورة النحل الآية :103].
ففي الآية تكذيب لهم ، لأن لسان الذي نسبوا إليه تعليم النبي –
صلى الله عليه وسلم- أعجمي لا يفصح ، والقرآن عربي غاية
في الوضوح والبيان .
هذا مع أن في القرآن من الرد على أهل الكتاب في بعض ما حرفوه
مثل : دعواهم أن المسيح - عليه السلام - صلب ، وقول بعضهم
أنه إله ، وقول بعضهم أنه ساحر ، وطعنهم على سليمان - عليه
السلام -وقولهم أنه كان ساحراً ، وأمثال ذلك ما يبين أنه لم
يأخذ عنهم ، وفي القرآن من قصص الأنبياء - عليهم وعلى
نبينا الصلاة والسلام - ما لا يوجد في التوراة والإنجيل ،
مثل :قصة هود ، وصالح ، وشعيب وغير ذلك ، وفي القرآن
من ذكر المعاد وتفصيله ، وصفة الجنة والنار ، والنعيم والعذاب
، ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل .
[ انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
2/52، 54 ، 74 ، 78 ].
كما أن اللسان العربي من أفصح لغات الآدميين ، وأوضحها ،
والناس متفقون على أن القرآن في أعلى درجات البيان والبلاغة
، والفصاحة ، وفي القرآن من الدلالات الكثيرة على مقصود الرسول
- صلى الله عليه وسلم - التي يذكر فيها أن الله - تعالى - أرسله
إلى أهل الكتاب وغيرهم مالا يحصى إلا بكلفة .
.[ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/371 ].
***