تعد هذه القضية من أبرز دلائل التواطؤ الأمريكي الإسرائيلي المخزي في المنطقة، وعلامة فارقة في الإنحياز الأمريكي الكامل لصالح إسرائيل. فالولايات المتحدة الأمريكية تتجاهل أن إسرائيل هي الدولة الأولى التي أدخلت السلاح النووي إلى الشرق الأوسط من أجل ضمان هيمنتها على المنطقة وفرض نوع من التوازن الإستراتيجي مع جيرانها،
في الوقت الذي تضغط فيه الولايات المتحدة الأمريكية على الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتوجيه اتهامات قاسية إلى إيران بتطوير مشاريعها النووية، وتحاول الضغط على موسكو لوقف تعاونها مع إيران في تطوير مفاعلاتها النووية التي تقول موسكو وطهران إنها موجهة لأغراض مدنية غير عسكرية، وفي الوقت الذي تحاول فيه واشنطن ترهيب سوريا، عبر عدة رسائل، آخرها زيارة جورج تينيت مدير وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية إلى دمشق محملا برسالة واضحة من جورج بوش تتضمن تحذيرات للقيادة السورية بشأن طموحاتها النووية ودعمها لحركات المقاومة الفلسطينية، في هذا الوقت يظل هناك ملف بعيد عن التناول لا يجوز الإقتراب منه ولا وضعه على الطاولة للنقاش، وهو الملف النووي الإسرائيلي.
و تعد هذه القضية من أبرز دلائل التواطؤ الأمريكي ـ الإسرائيلي المخزي في المنطقة، وعلامة فارقة في الإنحياز الأمريكي الكامل لصالح إسرائيل. فالولايات المتحدة الأمريكية تتجاهل أن إسرائيل هي الدولة الأولى التي أدخلت السلاح النووي إلى الشرق الأوسط من أجل ضمان هيمنتها على المنطقة وفرض نوع من التوازن الإستراتيجي مع جيرانها، على قاعدة معادلة أغلبية في وجه قوة رادعة، فإذا كان اليهود في الدولة العبرية أقلية وسط بحر من العرب، فإن قوتها النووية تمنحها نوعا من التوازن.
وقد بدأ السعي الإسرائيلي إلى إمتلاك السلاح النووي في نهاية الأربعينات مباشرة بعد إنشائها على أرض فلسطين. ففي العام 1949 أرسلت إسرائيل وفودا إلى أمريكا ودول أوروبية للحصول على أسرار البحوث النووية، وتكون قسم خاص في معهد وايزمن للبحوث النووية عام1952 لهذا الغرض، كما عقدت إتفاقات مع فرنسا من أجل تطوير مفاعلها النووي "ديمونة" في الخمسينات. وفي بداية الستينات حصلت إسرائيل على ثلاث مفاعلات نووية من الرئيس الأمريكي إيزنهاور تحت شعار"الذرة من أجل السلام"، وإتفقت مع فرنسا على تصميم طائرة ميراج تستطيع حمل قنابل نووية. وفي العام 1960 شاركت بعثة إسرائيلية في التفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية. وبعد حرب أكتوبر1973 كشفت مصادر إعلامية أمريكية أن إسرائيل كانت تنوي إستخدام القنبلة النووية في الحرب، كما أفاد تقرير أمريكي عام 1984 أن إسرائيل تحتفظ بعدد من القنابل النووية بين 50 و100قنبلة.
وقد ظلت إسرائيل تسعى بإستمرار إلى تطوير ترسانتها العسكرية وتنفي في الوقت ذاته إمتلاكها للسلاح النووي أو إنتاجها للقنبلة النووية، وذلك بتواطؤ الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ولعل المرة الوحيدة التي وقع فيها الخلاف بين واشنطن وتل أبيب حول هذا الموضوع كانت عام 1963 عندما ضغط الرئيس الأمريكي جون كنيدي على إسرائيل من أجل قبول بعثة للتفتيش عن أسلحتها النووية، لكنها رفضت، وكانت النتيجة إغتيال كينيدي في نفس تلك السنة. وفي العام 1969 اتفق الرئيس الأمريكي جونسون ورئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مايير على أن واشنطن لن تمارس ضغوطا على إسرائيل بسبب نشاطها النووي لكي توقع على معاهدة الحد من إنتشار الأسلحة النووية على شرط أن تفرض إسرائيل السرية التامة على هذا النشاط. غير أن هذا النشاط النووي الإسرائيلي سرعان ما عاد إلى الظهور بعد تدمير الكيان الإسرائيلي للمفاعل النووي العراقي عام 1981، وفي العام 1986 كشف الإسرائيلي موردخاي فعنونو الذي عمل لفترة طويلة في مفاعل"ديمونة" النووي الإسرائيلي في النقب في تصريحات لصحف بريطانية وإسترالية عن أسرار النشاطات النووية الإسرائيلية، وكشف فعنونو الذي سميت الفضيحة بإسمه لاحقا عن أن إسرائيل تنتج 40 كيلوغراما من البلوتونيوم سنويا، أي ما يكفي حسب الخبراء لإنتاج عشر قنابل نووية كل عام. وبين 1949 والوقت الحالي، أنتجت إسرائيل عددا كبيرا من الرؤوس النووية والصواريخ بعيدة المدى، كل ذلك تحت سمع وبصر الولايات المتحدة التي تحاول التستر على هذا الأمر. وقد أصرت إسرائيل دائما على عدم توقيع أي من المعاهدات الدولية التي تنص على الحد من إنتشار السلاح النووي بحماية الولايات المتحدة رغم تهديد الدول العربية الست عشرة الموقعة عليها بالإنسحاب إذا لم توقع إسرائيل، وإتضح ذلك في قمة نيويورك لتجديد التوقيع على معاهدة الحد من الإنتشار النووي. ورغم أن مفاعل ديمونة الذي مضى عليه ما يقرب من أربعين عاما بدأ يتآكل مما يهدد بإنهياره في أي وقت محدثا بذلك كارثة إنسانية وبيئية خطيرة في عموم منطقة الشرق الأوسط، إلا أن إسرائيل ظلت ترفض بإستمرار قبول أي لجنة للتفتيش بدعم من واشنطن.
وهكذا تستمر واشنطن في الدفاع عن مبدإ "إسرائيل والآخرون" في قضية السلاح النووي، وتظهر حقيقة التلويح الأمريكي بمخاطر إنتشار أسلحة الدمار الشامل والاسلحة النووية في منطقة الشرق الأوسط، باعتباره يستهدف القدرات العسكرية العربية ويحجب المعطيات الإسرائيلية الحقيقية على الأرض. فهناك إتفاق سري بين الولايات المتحدة وإسرائيل فيما يخص إنتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط مفاده أن السلاح النووي ضروري لأمن الدولة العبرية وإستمرار بقائها، ويجب أن لا يسمح لأية دولة عربية أو إسلامية بإمتلاكه وأن تكون إسرائيل هي المحتكر الوحيد له في المنطقة، وأن لا يطرح موضوع تملك إسرائيل للسلاح النووي للنقاش العام داخل وخارج إسرائيل. وفي الوقت الذي كانت تضغط فيه على العراق لتدمير أسلحته عام2002 كانت إسرائيل تقوم بتطوير غواصات كروز جديدة التصميم قادرة على حمل رؤوس نووية في البر والبحر حسب ما كشف مسؤولون سابقون في البنتاغون لصحيفة"واشنطن بوست" الأمريكية، دون أن تحرك الولايات المتحدة ساكنا، هذا في الوقت الذي كانت إسرائيل نفسها ترافق واشنطن في حملتها على العراق وتطلق تصريحات عن تهديد أمنها من قبله.
قد يكون مفهوما - وهو كذلك - أن تحرص الدولة العبرية على تطوير ترسانتها النووية والتسلح، فهذه الدولة قامت وهي قائمة اليوم في مجال جغرافي معاد، ووسط غالبية من العرب والمسلمين، كما هو مفهوم أيضا الحرص الأمريكي على إبعاد الملف النووي الإسرائيلي عن دائرة التفتيش والبحث، بإعتبار أن واشنطن حريصة على استمرار الوجود الصهيوني في المنطقة العربية وعلى قوتها على جيرانها، ولكن غير المفهوم هو الهرولة العربية إلى السلام مع إسرائيل من دون طرح هذه النقطة على جدول المباحثات، والكشف عن حقيقة التحيز الأمريكي الواضح لإسرائيل في هذه النقطة. وقد ضيع العرب حتى اليوم فرصا عدة لطرح هذه القضية أمام الرأي العام الدولي والأوروبي بالخصوص فيما يبدو أنه معركة مشروعة، ومنحت التحضيرات للحرب على العراق ثم العدوان عليه فرصة كبرى لطرحها بالجدية المعقولة على أساس من العدالة الدولية وواحدية المقاييس، وضيعوا فرصة أخرى في قمتي شرم الشيخ والعقبة، والحملة الأمريكية الإسرائيلية اليوم على سوريا وإيران يمكن أن تكون مدخلا لطرحها، وهي إختبار قوي للقدرة العربية على الحضور الفاعل حتى في هذا الذي يسمى السلام القائم على الإملاءات الأمريكية والتلقي العربي الخاضع.