كان لدى الاتحاد السوفيتي في ذروة الحرب الباردة، المئات من الغواصات المدمِّرة في البحر، لدرجة دفعت مخططي الحرب الغربيين لمحاولة تطبيق أي تدبير مضاد محتمل، مهما كان جنونيًا.
منذ أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، عززت التكنولوجيا الألمانية المستولى عليها، تصميم الغواصات السوفيتية بعد الحرب، وكانت أحواض السفن السوفيتية تبني غواصات جيدة بأعداد كبيرة لتشكل خطرًا كبيرًا على الشحن الغربي.
وفي أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، كان اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، يسيطر على أكبر قوة غواصات في العالم مكونة من نحو 300 غواصة تعمل بالديزل والكهرباء وحفنة من النماذج النووية، ولم تستطع قوافل “الناتو” مواكبة ذلك، إذ قال نائب الأدميرال Smeeton : “نحن ببساطة لا نمتلك قوات كافية”.
وأثبتت بعض الأفكار المجنونة أنها جديرة بالاهتمام بالفعل، مثل نظام مراقبة الصوت تحت الماء، وهو سلسلة كبيرة من الميكروفونات الموضوعة في قاع البحر، تستمع بصبر للغواصات السوفيتية وما زالت تستخدم حتى اليوم.
وتوصل عالم كندي إلى مصدر ضوضاء تحت البحر من شأنه أن يجعل الغواصات السوفيتية أكثر قابلية للاكتشاف، فقد قام بتصميم تجمع من “المغانط” بمفصل بسيط باستطاعته أن يعلق على الهيكل المعدني للغواصة.
وكان من شأن تحرك الغواصة أن يتسبب في ضرب المغانط المرنة لهيكل الغواصة؛ ما يكشف عن موقع الغواصة لكل من ينصت للأصوات، وكانت إزالة الأجهزة البسيطة ستستغرق الوقت والجهد؛ ما يؤدي -أيضًا- إلى إضعاف تأهب الأسطول السوفيتي تحت سطح البحر.
فقد عملت المغانط المرنة تماماً كما كان مخططًا لها أن تعمل، لكنها كانت ببساطة أكثر فوضوية في التدريب من أن تكون عملية للاستخدام على نطاق واسع، ويبدو أن حلف “الناتو” لم يستخدمها سوى بضع مرات فقط.
وذكر كتاب “Hunter Killer ”، لمؤلفه الكاتب المتخصص في الشؤون البحرية Iain Ballantyne ، إحدى الأفكار الأكثر إضحاكاً، فقد كان يتم إسقاط مغانط مرنة جواً بهدف تعطيل القوارب السوفيتية الموجودة تحت سطح البحر، وجعلها تصدر أصواتاً أكثر؛ ما يسهّل من عملية الكشف عنها.
وكان مخططو الحرب في “الناتو” يخشون من أن التصعيد النووي سيكبح فقط الغواصات السوفيتية، على طول الساحل الروسي، إلا أن الحل النووي كان أسوأ من المشكلة، في حين سعوا إلى إيجاد طرق لجعل الغواصات السوفيتية أسهل صيداً. إذ كان يتم النظر في أي تقنية يمكن أن تسرّع البحث تحت البحر عن الغواصات السوفيتية.
وعودة إلى Iain Ballantyne فقد ذكر في كتابه أن “أفضل دفاع تملكه الغواصة هو بالطبع التخفي والبقاء هادئة وغير مكتشفة في أعماق المحيط، أي شيء يمكنه أن يسرق من السوفيت عباءة الصمت هذه كان خياراً لا يقاوم، وعلى الأقل في البداية الفكرة عبقرية”.
في أواخر عام 1962، أرسلت البحرية البريطانية غواصة HMS Auriga، التي تعمل بالديزل إلى مقاطعة Nova Scotia الكندية للقيام بتدريبات مضادة للغواصات مشتركة مع البحرية الكندية، كان البريطانيون يساعدون كندا على تأسيس قوة غواصات لذلك كانت غواصات البحرية الملكية البريطانية تقوم بتدريبات بشكل معتاد مع السفن الكندية.
وكانت غواصة HMS Auriga عادت إلى قاعدة غواصات في Faslane في اسكتلندا، بعد دورية قتال كجزء من أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، وكانت غواصات أخرى من أسطول الغواصات 6 البريطانية الكندية المشتركة في مدينة Halifax الكندية، خاضت معارك أثناء الأزمة.
قضت HMS Auriga العتيقة ( مصنوعه عام 1945 ) الكثير من الوقت في Nova Scotia بمحاكاة الغواصات السوفيتية التي تعمل بالديزل أثناء تدريبات الأسلحة المضادة للغواصات الخطرة تحت الجليد مع القوات الأمريكية والكندية.
وخلال تدريب نموذجي يستمر لمدة ثلاثة أسابيع، كانت HMS Auriga موضع اهتمام السفن السطحية والطائرات والغواصات الأخرى، بما في ذلك السفن الجديدة الحاملة لأسلحة نووية التابعة للبحرية الأمريكية.
وخلال أحد التدريبات في المحيط المكشوف، أسقطت طائرة دورية كندية فوق موقع HMS Auriga المختبئة تحت سطح البحر، حملاً كاملاً من المغانط المرنة إلى البحر.
ورغم مدى غرابة الأمر، فقد ثبت أن فكرة المغانط حققت نجاحاً باهراً. حيث سقطت أعداد كافية من المغانط على الغواصة أو بالقرب منها. وأدت الأصوات والضوضاء المريعة التي تضرب بدن الغواصة إلى تسهيل مهمة مشغلي السونار الذين يتتبعون الغواصة.
عندما صعدت HMS Auriga إلى سطح الماء في نهاية التدريب، تحركت المغانط إلى الثقوب والفتحات في الهيكل الخارجي الفرعي للغواصة والمصممة للسماح بتدفق الماء.
قال Iain Ballantyne مشيراً للمغانط ” لقد انزلقت مبدئياً عن الهيكل وبقيت مثبتة بقوة داخل التغليف، على قمة خزانات الثقل في العديد من الزوايا والنتوءات”.
ولم يتمكن الفريق من إزالة المغانط عن الغواصة أثناء وجودها في البحر. وفي الواقع، لم يتمكنوا من إزالتها على الإطلاق إلا بعد أن رست الغواصة على الحوض الجاف في هاليفاكس بعد أسابيع.
حتى ذلك الوقت بقيت الغواصة في أقصى حالة تخفٍ تستطيعه حيث لم تشارك في أي قتال أو أي تدريب أو أي شيء إطلاقاً حتى تمت إزالة كل تلك المغانط الصغيرة من هيكلها بعد تكبدها الوقت والمال والإحباط.
ونجحت المغانط على غواصات السوفيت بالنتائج نفسها المثيرة للجنون، حيث دفعت الأصوات المزعجة عددًا من غواصات Foxtrots، إلى العودة إلى الميناء بدلًا من إكمال رحلاتها البحرية.
وكانت البحرية السوفيتية قادرة على الاستغناء عن غواصة أو اثنتين، لكن “الناتو” لم يستطع ذلك. ولم يكن باستطاعة طواقم مكافحة الغواصات مواصلة تدريباتهم مع وجود مغانط مرنة عالقة على أهداف تمارينهم، بالتالي تتخلى القاعدة عن إحدى غواصاتها إلى حين إزالتها.
يبدو أن المغانط المرنة عملت تماماً كما كان مخططًا لها أن تعمل لكنها كانت ببساطة أكثر فوضوية في التدريب من أن تكون عملية للاستخدام على نطاق واسع. ويبدو أن حلف “الناتو” لم يستخدمها سوى بضع مرات فقط وبذلك يمكن اعتبار المغانط اختراعًا فاشلًا.
اضغط هنا