الاستعلام المستمر، والضربات الدقيقة والمختارة لإحداث صدمة سياسية مطلوبة، والقوات الخفيفة والمدربة على استخدام كل التقنيات الجديدة، وعدم مركزة اتخاذ القرار، وإدارة إيقاع الحركة الفائق السرعة، والمناورة بين مختلف الأسلحة.. تلك هي بعض خاصيات حرب القرن الحادي والعشرين: الحرب ضمن شبكة، التي تتيح كسب حروب سريعة، لكنها لا تتيح كسب السلام.
إذا كانت التطورات التقنية الكبرى قد أثرت عبر الأزمان على المذاهب القتالية دائماً، فإنها قد شكلت منذ بضع سنوات أساساً لثورة حقيقية في الفن العسكري. لقد أدى وجود التقانات الجديدة في كل مكان من المنظومات الدفاعية إلى تنامي القدرات العسكرية على نحو غير مسبوق. وتجسد هذا التحول تماماً إبان عمليات ربيع 2003 في العراق، التي جرت في إطار غير معهود من قبل، إطار "الحرب ضمن شبكة" guerre en reseau. يبلور هذا الوسط الجديد الآن مذهباً عسكرياً حديثاً تماماً، ورواده هم الأمريكيون والبريطانيون طبعاً. بات هذا التغير ملحوظاً منذ نهاية حرب كوسوفو، وأصبح يشمل مجمل الأفكار التي تتوجه بها جيوش الناتو والاتحاد الأوربي فيما يتعلق بالحاجات على مستوى القدرات وعمليات التنظيم الدفاعي. ولكن في الوقت الذي تكتسب فيه الجيوش الأمريكية وجيوش حلفائها تفوقاً عسكرياً دون قيد أو شرط، يلاحظ أنه لم يعد يكفي كسب الحرب من أجل إنهاء أزمة ما. وكما أمكن أن نتبينه في البوسنة، وكوسوفو، وأفغانستان والعراق، فإنه بات يلزم امتلاك القدرات والمذاهب التي تتيح أيضاً كسب السلام.
أتاحت طائرات القتال غير المأهولة الكبيرة، طراز Global Hawk و predator، التي استخدمت بالتكامل مع الأقمار الصناعية ووسائل رصد أخرى إبان الصراع في العراق، اجتياز خطوة حاسمة على صعيد الاستعلام. بذلك، أصبح لدى جميع الوحدات المنخرطة في العمل، لأول مرة، تصور مشترك ودائم وبالوقت الحقيقي حول مسرح العمليات، والفهم نفسه حول ساحة المعركة، وبالتالي غدت قادرة، من خلال استخدام نظام المواضع المرجعي نفسه- منظومة تحديد المواقع على الأرض ال GPS اليوم، و Galileo مستقبلاً- على مكاملة عملياتها في مناورة مجموعية تامة التنسبق.
حالما يتم التعرف على الخصم، ومواقعه، ومناوراته، ونقاط ضعفه وقوته، تمهد قدرات الضرب الدقيقة جداً في كل مكان لإمكان اختيار الأهداف عند الطلب وحين تسنح الفرصة المناسبة، ومعايرة الضربات للحصول على التأثيرات السياسية والعسكرية المرغوبة (Effect Based Operations)، دون أن يتمخض ذلك عن تدمير كل شيء مثلما كان يحدث سابقاً. ومن شأن ذلك أن يحفظ فرص العودة إلى السلام بشكل أفضل في نهاية العمليات.
لم يعد العدد نقطة الثقل
حلت منظومة مختلفة محل الوحدات المجمَّعة على الجبهة، التي كانت تتقدم فيما مضى لسحق العدو بعد تمهيد طويل من الرمي المدفعي والقذف الجوي الشامل. تستخدم اليوم قوات أخف، لكنها قادرة على قيادة عدة عمليات على نحو متواز بهدف مفاجأة الخصم وإخراجه من المعركة أو شل تحركاته. حلت السرعة، والمرونة، والحركية، ودقة الضربات محل المناورة الإجمالية والقدرة النارية. وأصبحت أعمال القوات البحرية والجوية مدمجة أو متآلفة مع أعمال القوات البرية والقوات الخاصة الموزعة على الميدان.
جرى أيضاً، إلى حد كبير، تخفيف اللوجستيات العملياتية، التي باتت متكيفة مع حاجات المقاتلين الدقيقة، مع إبقائها في الوقت نفسه خاضعة لذات قواعد الحركية والتفاعلية لدى القوات المنخرطة في العمل. ينطوي ذلك على تغير هام جداً يقتضي إيجاد طرق جديدة على مستوى التشكيل والتدريب، ويتطلب قدرات جديدة على صعيد النقل البري والجوي. لقد استخدمت الوسائط الجوية على نطاق واسع في العراق، وأمنت بشكل خاص كامل الدعم للعمليات في شمال البلد، بنتيجة رفض الجانب التركي السماح بعبور القوات الأمريكية.
في نهاية المطاف، لم تعد قدرة الجيش تأتي فقط من قدراته البرية، والبحرية والجوية، بل أيضاً من حالة الاندماج ضمن مجموع متماسك.
تَظهر الحرب، المتصورة بهذا الشكل، على أنها تتسم بخاصيات الشبكة عملياً. ينطبق ذلك على بنية أنظمة الاتصال، وجمع ومعالجة وتوزيع المعلومات كما على قيادة وتنظيم وتوزيع القوات على مسرح العمليات. وتكون إمكانات التوافق بين الفعاليات ضمن هذه الشبكة كثيرة، وكذلك السبل الموصلة إلى الهدف نفسه. أصبح ممكناً الآن إعادة تكوين مجمل الوسائل عند الطلب، وتغيير المهمات الجارية. بالنتيجة، يتيح هذا النظام الإفادة على أحسن وجه من الوسائل المتاحة في أية لحظة.
إن السيطرة على العامل الزمني هو دون شك في قلب التحولات التي تميز الحرب ضمن شبكة. تتيح هذه السيطرة بالتأكيد تجاوز الخصم بسرعة القرار والعمل، ولكن ما يزال يلزم، بالنسبة للصراعات التي يكون فيها البعد السياسي حاضراً باستمرار، أن تكون مُهَل اتخاذ القرار متساوقة مع القدرات الجديدة لعمل القوات. إذن، فمسألة تنظيم القيادة تُطرح على ضوء هذا التسارع في زمن العمليات. وينطبق الأمر ذاته على تفويض المسؤولية بمستوى المراتب الأدنى. يبقى أن القدرة على اتخاذ القرار، بشكل دائم وبالزمن الحقيقي، تتطلب تنظيماً خاصاً يقتضي وجوداً مستمراً لقادة مؤهلين وقادرين على رئاسة مراكز القرار. يجب أن تشمل هذه المنظومة مجمل النشاط الدفاعي وبالأخص قيادة الأعمال الخارجية. وهذا ما يتطلب تغييراً يطال أعلى مستويات المسؤولية والمسؤولين في الميدان أيضاً. ونظراً لتوزعها الميداني المتفرق، يمكن التأكيد بأنه يجب تحويل جزء من قرارات الاشتباك بالضرورة إلى أنساق التنفيذ، الأقرب إلى مواقع العمل. وضمن العقلية نفسها، يجب على مجموعة المعلومات منذئذ تغذية المجموعة العملياتية بشكل متواصل ومعرفة حاجاتها باستمرار كي تكون هذه الأخيرة قادرة دائماً على اتخاذ القرار وقيادة العمليات بالزمن الحقيقي.
هناك أمر آخر مهم يتعلق بمتانة واعتمادية منظومات الاتصال التي ترتكز عليها كل فعالية الحرب ضمن شبكة. إلا أن هذا الجانب لم يسترع الانتباه الذي يستحقه بعد، لأن الطبيعة اللامتناظرة (اللامتماثلة) للصراعات قد استبعدته إلى حد ما في الوقت الراهن.
أخيراً، تَطرح مسألة وجود تحالفٍ مشكلة صعبة تتطلب الحل، خصوصاً بالنسبة لكل ما يتعلق بتوزيع المعلومات وتحديد المسؤوليات. ومنذ تجربتهم في كوسوفو، لم يعد الأمريكيون يدركون التحالفات إلا على أنها مجموعة من البلدان التي تطوعت لوضع نفسها تحت سيطرتهم المباشرة (coalition of the willing).
من الحرب إلى السلام
بعد سنوات طويلة من القتال، انتهت صراعات القرن العشرين الكبرى بإنهاك المتحاربين أو بتدمير جيوش المهزومين. كانت الظروف السياسية الملائمة لإرساء السلام قد وجدت ذلك الحين؛ وبعد أن تخرب ودمر كل شيء، عادوا إلى البناء، ونهضوا بصناعة السلاح من جديد، وأعادوا بناء القوات. لكن الحال لم تعد تسير هكذا اليوم؛ فبعد المواجهات المسلحة، التي أصبحت وجيزة جداً، يستمر الوضع المتأزم بأشكال أخرى، عنيفة غالباً، لأنهم لم يعودوا يعرفون السبيل إلى إيجاد ظروف السلام السياسية.
كانت الأمور فيما مضى أكثر بساطة: مثّل السلام والحرب بالنسبة للمجتمعات حالتين خاضعتين لقواعد متباينة وراسخة جداً. كانت الحرب شأن العسكريين، ثم تولى الدبلوماسيون أمرها من أجل إرساء السلام. واليوم، أصبح الخط الفاصل بين السلام والحرب أكثر ضبابية بكثير، مما أفضى إلى توسيع ساحة العمليات العسكرية عبر سلسلة متصلة تبدأ بالوقاية من الأزمات لتصل إلى إرساء السلام، مروراً بالمساعدات الإنسانية، والتوسط، والتدخلات المسلحة، والمعارك البالغة الشدة.
بعد تحييد الخصم، عندما يكون ذلك ضرورياً، تحتل قوات التدخل الميدان لجعل الوضع مستقراً، وإحلال الأمن، وخلق الظروف الملائمة لعودة السلام بذلك. إلا أن هذه المهمة صعبة، وتنطوي على الكثير من المخاطر، لأن المحتلين نادراً ما يكونون موضع ترحيب؛ إنهم يستفزون عداوة السكان المحليين بشكل طبيعي مع أدنى تصرف غير مناسب ويصبحون هدفاً لأبناء الأرض. عدا ذلك، يمثل استمرار العمل، في الليل والنهار، ضغطاً جدياً؛ ولا يعود لدى القوات في الميدان أية راحة، وعليها أن تتدبر أمر تعبها وكروبها لتحتفظ بتيقظها والقدرة على رد الفعل والفعالية. كما أن انعدام خط الجبهة يمحو منذئذ مفهوم المؤخرة التي تؤمن الأمن والراحة. وتدفع هذه المسألة إلى التساؤل أيضاً حول مدة تعيين الجنود في مسارح العمليات الخارجية؛ وتطرح هذه المشكلة نفسها منذ أكثر من سنتين في العراق.
أما العمل العسكري بدقيق العبارة، فإن قواعد الاشتباك قد تكيفت- أو ستتكيف- مع المذهب الجديد ومع قدرات منظومات السلاح الجديدة. ومن حيث تسارع الزمن، فإنه يجب أن تكون شروط فتح النيران واضحة تماماً للجميع، من الجندي العادي وحتى قائد القوات.
قواعد سلوكية
ضمن الذهنية نفسها، فإن قواعد الاشتباكِ يجب أن تجنِّب الوحداتِ العاملةَ في الميدان التواجد في أوضاع محفوفة بالمخاطر لأنها تنتظر أوامر لا تصل، أو أن تتعرض لهجوم من وحدات صديقة، مثلما حدث كثيراً في العراق.
والحالة هذه، لم تعد قواعد الاشتباك كافية، ولا بد من أن تكتمل ب "قواعد سلوكية"، ذلك لأن قوات التدخل تختلط بالسكان المدنيين الذين يقع عليها عاتق مساعدتهم وحمايتهم، في حالات إعادة السلام أو الحفاظ عليه. إلا أن العسكريين يحتاجون في حسن أداء هذه المهمات إلى إرساء علاقات ثقة مع جميع أولئك المحيطين بهم، وعليهم بشكل خاص احترام ثقافة الوسط المحلي وبعض القواعد السائدة فيه. إذن، من الضروري أن يعرفوا طريق السلوك الأسلم في جميع الظروف وأن يحافظوا على سيطرتهم على الوضع، مهما بلغ توترها، كي تتوافر لهم أفضل فرص النجاح في مهماتهم التي تبقى دائماً دقيقة وخطرة. وينطبق ذلك بشكل خاص على من هم في مواقع التماس، الذين يعتبر دورهم حاسماً إزاء جنودهم وإزاء السكان المحيطين بهم. وقد بينت الصعوبات التي صادفتها الجيوش الفرنسية، والأخرى الغربية (لاسيما في العراق)، إبان التدخلات المختلفة والعديدة، منذ أكثر من عشر سنوات، أن مزية وسلوك قوات الاحتلال هما مفتاحا النجاح. إلا أن النجاحات نادرة في الأوقات الراهنة. هناك إذن دافع لدراسة هذه المسألة دراسة جدية، بدءاً بالتشكيل.
من الواضح في الواقع أن تعلم القواعد السلوكية يرتكز إلى تأهيل متين وإلى تدريب وإعداد نوعيين ومتكيفين مع كل ميدان تدخل، هذا الميدان الذي تنبغي دراسة خاصياته وثقافته. هذه الأعمال التأهيلية والتدريبية طويلة المدة وتتطلب استثماراً هاماً على صعيدي التعيين والوسائل. وقد تبين أنه قد وقعت حوادث خطيرة كثيرة في العراق كانت ناجمة عن مواقف عدائية وأحياناً عن انعدام السيطرة لدى جنود واجهوا أوضاعاً غير متوقعة: داهمهم الخوف واستخدموا أسلحتهم بلا مراعاة، وهو ما يعبر عن ضعف واضح في التأهيل وعجز في التعيين على مستوى المرؤوسين.
ومع الإفادة من الخبرات التي عشناها خلال هذه السنوات الأخيرة، يمكن اليوم توجيه الجهود إلى الأزمات مع محاولة فهمها بشكلها الإجمالي. وضمن هذا الإطار، يجب أن يكون العمل العسكري متداخلاً في سلسلة متصلة، حيث يرتبط بتبعاته السياسية والاقتصادية فيما يتعلق بإحلال الأمن والسلام وإعادة بناء الدولة واستقرارها.
أخيراً، يجب أن ينظر بجدية بالغة إلى الحرب اللامتماثلة guerre asymetrique، إذ تبقى هذه هي الرد الوحيد أمام أولئك الذين لا يمتلكون قدرات الدفاع العسكرية التي تؤهلهم للدفاع عن أنفسهم، وهم الأكثر عددا اليوم. ولنا مصلحة كاملة في أن نسعى لوضع أنفسنا مكانهم ونرى كيف يمكنهم الالتفاف على التفوق التقني للأمريكيين وحلفائهم؟ وقد يتيح لنا هذا النمط من التفكير، الذي لم نعتد عليه، تجنب المخاطر والتهديدات المستقبلية من أجل التوصل إلى الوسائل الكفيلة بمواجهتها