بحكم عمل اخي امام باحد المساجد ارتايت ان اقدم لكم بعض دروسه
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها الناس، في هذه الأيام ينتبه العقل ويحسُنُ الوعي، ويحيا الجد ويقل اللعب، ويرقى مستوى الفكر، وتسلك النفس الطريق الأقوم والنهج الأسلم؛ لأن الناس يواجهون ما يسمى بـ(كابوس الامتحانات)، إذ يرتفع مستوى الضغط والقلق والعناء لدى كثير منهم، فتعلو الهمم وتلتهب العزائم وتعظم الجهود، وتُستفرغ الطاقات إلى حال يسرّ الناظر ويبهج الطالع ويغري العاطل والجاهل. لقد استنفر الجميع للامتحانات الكبار والصغار والرجال والنساء.
وايم الله، إنها لصورة مذهلة، همم أولئك الطلاب الذين يكرّسون جهودهم للمقررات فيفلُّونها فلاًّ، ويسهرون لها ليلاً، ويتركون لأجلها لهوًا ولعبًا. كم سمعنا ورأينا طالبًا قرأ في ليلة مائة صفحة، وآخر لم ينم إلى الفجر، وآخر مكث بضع عشرة ساعة يذاكر، وآخر قد تغير وجهه من طول المذاكرة والقراءة. همم كبيرة ونفوس عظيمة، هي ذريعة التفوق والبروز والنجاح، بها نفخر ونتشرف ونعتز ونشيد.
ذي المعالي فلَيعلوَنَّ من تعالَى هكذا هكذا وإلاّ فـلا لا
شرَفٌ ينطِحُ النجوم برُقيِّـه وعِـزٌ يقَلقِـل الأجبـالا
من أطاق التماسَ شيء غِلابًا واغتصابًا لم يلتمسه سؤالا
كـلُّ غـادٍ لحـاجة يتمنى أنْ يكونَ الغضنفرَ الرئبالا
أيها الآباء الكرام، حَسنٌ فيكم اهتمامكم بأبنائكم، وبصيرتكم بمستقبلهم، وحرصكم على حياتهم، إذ الامتحانات فيها ثمرة العلم ويقظة الوعي وتربية الجد والمثابرة والصبر، وعند ذكرها يلوح للبصراء قضايا مهمة هي أجلّ وأعظم، ومسائل مهمة هي أهمّ وأحكم، ربما خفيت على كثير منا، فلقد وددنا ـ كما سعى هؤلاء الآباء والأولياء في تعظيم وطأة الامتحانات وتذكير الأبناء بها ـ أن يسعوا في تعظيم طاعة الله في قلوبهم، ويحضوهم على صالحات الأعمال والمبادرة إليها، فإنها هي التجارة الرابحة والكنوز المضاعفة والنجاح التام، كالصلاة وأعمال الخير والبر، فهؤلاء الآباء يوقظون أبناءهم للامتحان، ويحذرونهم مغبة التأخر والإهمال والإخفاق، ويلهبون في نفوسهم مسألة التفوق والظهور والنجاح، وبعض هؤلاء الآباء لا يوصي ابنه بالصلاة والمواظبة عليها إلا في الامتحانات، ويعلّق عليها التوفيق والفتح من الله تعالى، وإذا انقضى الامتحان نسي النصح والتذكير، وسار الابن ضائعا بلا واعظ أو نذير.
أيها الأب الواعي، إنا لنعجب بعظم إيمانك بالامتحانات وإعدادك الأبناء لها، وبضعف إيمانك بالجنة والنار، فأنت تبني أبناء للدنيا؛ لمنصب أو وظيفة، وتنسى بناءهم للآخرة؛ يضيعون الصلاة فلا تحاسبهم، ويتيهون في براثن اللهو والضياع ولا تسألهم، يقصرون في سلوك طرق الخير ولا تبالي، ويسارعون في طرق الشر ولا تعظهم أو تحذرهم.
إنا لنعجب كيف قلَّ فقهك عندما أصلحت وضع ابنك الاجتماعي ولم تصلح أوضاعه الدينية؛ يهمل الفرائض، ويقارف المحرمات، ويصاحب الأراذل، وتفسد الأخلاق، وأنت تغذيه وتسمنه، ظانًا أنك اتقيت الله فيه ورعيته أحسن الرعاية وصنته أجمل الصيانة، قال : ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
أيها الأب المؤمن، إن وثيقة الدراسة ليست وثيقة هداية ورشد وصلاح، وهي لا تعني النجاح في الآخرة، ولا تعني السلامة من النار. هل غاب عنك أن زهرات الدنيا متع زائفة قليلة، ليست هي الغاية المطلوبة ولا النجاة المرغوبة؟!
واترك الدنيا فمن عاداتها تَخفض العالي وتعلي من سفََلْ
واتق الله فتقوى الله مـا جاورت قلب امرئ إلا وصلْ
ليس من يقطع طرقًا بطلاً إنما مـن يتقـي الله البطـلْ
هل تأملتم ـ أيها الآباء ـ في أناس حصلوا الشهادات ثم رحلوا إلى الله؟! هل فكرتم في أقوام كدحوا في نيل المناصب وحيازة الأموال حتى إذا وصلوا أفناهم هادم اللذات، فلا شهادة نفعت، ولا منصب شفع، ولا مال آزر وأغنى؟!
فالمهم هنا أن نصلح أبناءنا لما هو أهم وأعظم، وأن تكون نظرتنا للامتحانات نظرة متّزنة معتدلة، فوالله لصلاح ابنك وهدايته خير من لذائذ الدنيا وزهراتها لو تأملت وفكرت قوله تعالى: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ [آل عمران:185].
إخواني الطلاب، إنَّ الوعي والجدّ اللَّذَين تَمَّا لكم في الامتحانات تاج فوق رؤوسكم، ومفخرة عظمى لآبائكم ومجتمعكم، لكننا نطمع في ديمومة تلك الهمم العالية وذلك الاجتهاد المنقطع بعد الامتحان، وليس بعسير عليكم أن تبذلوا تلك الهمم في تلاوة القرآن وحفظه وقراءة كتب السنة والتفسير أو مطالعة السيرة النبوية؛ لكي تصح عقولكم وتنشرح صدوركم وتسمو هممكم.
إخوتي الطلاب، قبيح ـ والله ـ أن تبقي تلك الهمم مختزنة، وإذا أُخرجت أُخرجت في أمور مهينة وأمور عاقبتها وخيمة. يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله: "لو أن همم أبنائنا في القراءة كهمهم في الامتحانات لأخرجنا علماء كثيرين، ولا نريد في كل أسبوع عالما، بل في كل شهر فحسب".
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين.
أما بعد: فإنه لحري لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعد للامتحان الأكبر، ويجمع للامتحان الخطير، فإنه بحق هو الامتحان والاختبار، وفيه الربح والخسارة، وفيه النجاح والفشل.
واعلموا أن الفوز هناك فوز دائم، والإخفاق إخفاق دائم، فأعدوا لذلك الامتحان عُدته، وخذوا له أُهبته، وإنه لمن الغفلة بمكان أن يُرى الإنسان عاملا للدنيا غافلا عن الآخرة، ومصيبة عظمى أن يسعى الآباء والأولياء في تعظيم امتحانات الدنيا في قلوب أبنائهم ويغفلون عن امتحان الآخرة، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
إن وقاية الأبناء ليست بشهادات الدنيا، وليس بالتفوق فيها، إن الوقاية الحقة أن تفتح لهم دروب الحق والهدى والنور، أن تُقرب لهم الهداية وأن يجنبوا الغواية. فما الفائدة أن يحوز الأبناء الشهادة والتقادير العالية وهم عاقون لآبائهم وأمهاتهم ومضيعون حقوق ربهم، بل ـ والعياذ بالله ـ هم نواب إبليس في الشر والضلالة؟!
فاتقوا الله أيها الآباء، وتفكروا في الامتحان الخطير، وزوّدوا أنفسكم وأبناءكم بزاد كريم، لكي يحصل الفوز ويحق النجاح، فاعتبروا يا أولي الأبصار.