كان المغرب وغيره من دول شمال إفريقيا، خلال القرن العشرين وقبله، بمثابة الكعكة التي سال من أجلها لعاب فرنسا وغيرها من الدول الإمبريالية.. فكانت تبحث لها عن موطن قدم في هذه الدول بأي وسيلة.. بل اجتهدت في اختلاق الأسباب والذرائع لدخول بعضها واغتصاب أراضيها.
عندما زار الجنرال شارل دوفال الداي حسين، في قصره بالجزائر، طالبه هذا الأخير بدفع الديون التي كانت في ذمة فرنسا وتقدر بـ 20 مليون فرنك فرسي، فرد القنصل بطريقة غير لائقة جعلت الداي يطرده ويلوح بمروحته.. ما جعل فرنسا تعلن الحرب على الجزائر وتحاصرها لمدة ستة أشهر ومن ثمة احتلالها بدعوى استرداد هيبتها.. وبعد حادثة المروحة هاته بحوالي تسعين سنة قامت فرنسا بأمر مشابه في المغرب عندما اتخذت من حادثة مقتل أحد مواطنيها بمدينة مراكش ذريعة لاحتلال مدينة وجدة، ويتعلق الأمر بالطبيب موشان.
الطبيب الجاسوس
مهدت فرنسا لاحتلال المغرب بإرسال الجواسيس منذ بداية القرن التاسع عشر. فكان الجاسوس يتستر وراء مهمة البحث الجيولوجي أو الرحلة والاستكشاف أو الطب أو غيرها من المهمات التي كان يمارسها الجواسيس حتى لا ينكشف أمرهم. في هذا الإطار أرسلت سنة 1905 طبيبا يدعى موشان رفقة عالم جيولوجي يدعى لويس جنتيل. فعمل هذا الطبيب على استقطاب الناس والتقرب منهم وحاول فهم سلوكهم وعاداتهم، فأنشأ مستوصفا بمدينة مراكش بعرصة موسى. وبمساعدة فرنسا استطاع أن يحول هذا المستوصف إلى مستشفى.
بعد سنتين من التجسس في مدينة مراكش وتقديم الخدمات الطبية المجانية، وقبل دخول المستعمر إلى المغرب بحوالي خمس سنوات أحس الجاسوس الفرنسي بالأمان في المغرب فثبت جهازا لا سلكيا فوق سطح بناية المستشفى وثبت إلى جانبه علم بلاده، وهو الأمر الذي هز مشاعر المراكشيين خصوصا أن منهم من تأكد من هوية موشان الحقيقية فهجموا عليه في 26 مارس 1907 وضربوه بالحجارة والعصي إلى أن أردوه قتيلا.
يقول ابن زيدان في "إتحاف أعلام الناس": "فاتفق أنه عندما ركب الطبيب المذكور علم دولته بمحله بعرصة موسى يوم 4 صفر1325 في الحين تسارع إليه همج من الرعاع وقتلوه بالضرب والعصي والحجارة وتركوه جثة هامدة ملقاة على الأرض بباب داره".
خلال هذه الفترة التي قتل فيها الفرنسي موشان كان المولى عبد العزيز هو الجالس على العرش، وكانت الدولة قد ضعفت وتراجعت هيبة المخزن بسبب موت الحاجب الملكي باحماد الذي كان يمسك بزمام الأمور. هكذا كانت شكايات الناس الموجهة إلى السلطان، بسبب انعدام الأمن وانتشار السرقة والنهب، ترمى في زوايا الإهمال رغم كثرتها.
فرنسا تنتقم
لما وصل هذا الخبر إلى عامل المدينة، وهو آنذاك الحاج عبد السلام الورزازي، لم يأمن رد فعل فرنسا لذلك وجه قوة كافية من أعوانه لتهدئة الأوضاع بالمدينة. ثم ذهب بنفسه، ومعه بعض الأوروبيين الذين يعيشون في مراكش، لدار القتيل، ووقف على دفنه.
بعد حادثة مقتل موشان بثلاثة أيام فقط احتلت القوات الفرنسية مدينة وجدة ورفضت الخروج منها إلا بعد تعويضها عن مقتل مواطنها ورد الاعتبار لها. أورد ابن زيدان ظهيرا سلطانيا موجها إلى القائد عبد الرحمان بركاش وأعيان الصويرة جاء فيه: " خديمنا الأرضي عبد الرحمان بركاش وأعيان مدينة الصويرة المحروسة بالله وفقكم الله وسلام عليكم ورحمة الله، وبعد فإن طبيبا فرنسويا كان مقيما بمراكش فركب علما بالمحل الذي هو به فتسارع الرعاع إليه وقتلوه، ومن قبله كان جرح فرنساويا آخر ببلاد تكنة، وكذلك في طنجة كان قتل آخر من كبراء فرنسا وكذلك بفاس جرح آخر".
بعد مدة، قدمت لجنة فرنسية إلى مراكش بغرض البحث في الأسباب والدوافع التي أدت إلى مقتل الجاسوس الفرنسي بمراكش، ومن كان وراء قتله. يقول ابن زيدان: "فهيأ لهم العامل مأدبة فاخرة، ولما أحضر لهم الطعام امتنعوا عن الأكل وقالوا إنما أتينا للمباحثة ... ثم بعد ذلك بحثوا العامل عما ذكر بحثا مدققا، فحقق لهم أنه لا علم له بشيء ما صالا حتى وقعت الواقعة".
بداية الأمر، حمات شكوك فرنسا حول العامل وابنه قبل أن تتبث براءته، بعد ذلك صدر الأمر بإلقاء القبض على خمسة عشر شخصا من المتورطين في مقتل موشان، وأودعوا سجن الصويرة ثم نقلوا لسجن طنجة ومنه إلى سجن الصويرة بطلب من النائب الفرنسي. جاء في أحد الظهائر السلطانية: " فبعدما كان ورد لطنجة على يديك مساجين من أهل مراكش المقبوضون في قضية الطبيب موشان القتيل بمراكش، جاء نائب الفرنسيس في ردهم للصويرة ليكون بحثهم بها على يد القنصل المكلف بالقضية، وقد اقتضت المصلحة المساعدة على ما ذكر، وأمرنا خديمنا النائب الحاج محمد الطريس بتوجيه المساجين المذكورين بحرا إليك صحبة من يعنيهم لمصاحبتهم، ونأمرك أن تقبلهم وتختلي بهم بنفسك حتى تستوعب كلامهم وتستخرج ما في بطوانهم لتكون على بصيرة ثم تدعهم الجن".
موشان مقابل وجدة
اختلفت المصادر التاريخية حول الأسباب الحقيقية التي جعلت سكان مراكش يهجمون على موشان ويقتلونه. بعض التفسيرات ربطت مقتله بانكشاف مهمته أمام الناس ومسه بمشاعرهم الوطنية برفعه علم بلاده في قلب مراكش. في حين ربط ابن زيدان في "الاتحاف" قتله بالأطماع الألمانية في احتلال المغرب، يرى ابن زيدان أت الألمان هم من حرضوا الناس على قتله لأنهم يرون في فرنسا منافسا شرسا لهم على المغرب. أما التفسير الثالث فيرى بأن فرنسا هي من دبر قتله لخلق ذريعة تمكنها من احتلال البلاد. مهما كان السبب الحقيقي وراء مقتل موشان فإن فرنسا اتخذته ذريعة لاحتلال المغرب.
لقد وجدت فرنسا مدينة وجدة في حالة من التهميش والإهمال والتسيب، وانتشار النهب والسرقة والجريمة. يقول الحسن الحجوي في "الرحلة الوجدية" واصفا أحوال المدينة: "إن حالة العسكر تعسة... وفي بعض الأيام لما كلفت بالتفتيش في المحلة وجدت عددا من المرضى في حالة وسخة وبيلة ، والجوع يأكل أمعاءهم ولا دواء، ولا خيل لهم وإنما هم ملقون على قارعة الطريق ... جائعة بطونهم عارية أجسامهم، وحالتهم تبكي من لا يعرف البكاء، ويراهم الأجانب الذين ينتابون وجدة على أسوأ حال..". لذلك فقد استقبل الوجديون الجيش الفرنسي واعتبروه خلاصا لهم مما تعيشه المدينة من إهمال وتهميش، يقول المختار السوسي في المعسول: " وقد خرج أهل وجدة مرحبين بالحملة الفرنسية كأنهم لا يعرفون أنها فاتحة احتلال عام لكل البلاد".
بعد احتلال مدينة وجدة هجمت بعض القبائل المجاورة لمدينة الدار البيضاء على ميناء البيضاء الذي كانت تراقبه فرنسا باتفاق مع المخزن، فقتلت هذه القبائل بعض الفرنسيين الأمر الذي أثار حفيضة فرنسا وجعلها تنزل بعض فيالقها العسكرية بميناء الدار البيضاء ومن ثمة دخول المدينة واحتلالها.
http://www.hespress.com/histoire/238468.html