كنا نعرف أن الملازم الأول سماعين يتبع لمصالح الاستعلامات، ولكننا لم نأخذ ذلك في الحسبان، لأننا كنا متواجدين من أجل خدمة إخواننا العرب ولم يكن هناك شيء لنُخفيه. بعد ذلك تم تدعيمنا بالملازم الأول الدكتور فاروق، وهو طبيب جراح، وكنا نلتقي أثناء وجبات الغداء في مطعم للضباط تم تهيئته في أحد الأكواخ وكنا نستعمله في الأيام الحارة. لم نكن نرى بعضنا كثيرا أثناء الصباح لأننا كنا نتسلم وجباتنا بسرعة، أما في المساء بعد العشاء، فقد كنا نجلس لفترة أطول معا، نشاهد التلفاز أو نلعب الورق. وفي إحدى الأمسيات التي كنا نُقضي أوقات فراغنا بلعب الورق فيها، كان الملازم الأول فاروق يُحدّق فينا دون توقف وهو مُنزوٍ، ثم قال: "يا أخ خالد.. أنا أتابعك منذ أيام ولم أر شيئا مما حكاه عنك زملائي في السويس". وتساءلتُ مستغربا في قرارة نفسي عما يمكن أن يخبره زملائي عني وهو لا يوافقهم عليه.
أسندنا في يوم من الأيام إلى الملازم الأول فاروق مهمة مرافقة تابوت إلى القاهرة لنقله صوب الجزائر، وظننا أنه قد يتدخل لصالحنا مع زملائه لتجنّب معاملة توابيت موتانا كما تُعامل أي أمتعة مُبتذلة وأمام مرأى من الجميع، وهو ما كان يحدث غالبا. ولكن للأسف لم يفعل ذلك. وبقيت السلطات المصرية تفرض علينا إلى النهاية هذه الطريقة غير المحترمة ولا اللائقة في نقل موتانا الذين لهم علينا واجب التوقير والإجلال.
استيقظتُ في أحد الأيام على وقع دوي انفجار هائل وقع على بُعد مئات الأمتار من مركز قيادتي، وكان الهدف هو معسكر تمت إقامته من طرف كتيبة الاتصالات بالفرقة في الوحدة وكتيبة الهندسة. لقد فوجئ الجنود أثناء اجتماعهم بطائرتين من طراز "سكاي هاوك" قدمتا من الشرق حيث كانت أشعة الشمس تحجب الرؤية عن الجنود الذين يشغّلون المدافع المضادة للطائرات، وقد اختار الإسرائيليون هذه اللحظة الدقيقة للهجوم وإلقاء القنابل، مما أحدث مجزرة.
وبما أن هذا كله حدث على مقربة مني، ركبتُ سيارتي وتوجهت نحو مجموعتي المكلفة بالمدافع المضادة للطائرات، وهكذا أمكنني معاينة الوضع.
لقد كان المشهد مُحزنا، حيث تم حجز جميع السيارات لنقل الموتى والجرحى، وكان هناك ضباط لا يزالون بثياب النوم كانوا يمشون فيما كان قبل دقائق فقط ساحة للتجمع. وعندما وصلت إلى مركز مضادات الطائرات تساءلتُ وأنا على وقع الذهول: "هل يُدركون خطورة التجمع أمام العدو؟". لم يظهر الملازم الأول فاروق إلا 3 أيام بعد الحادثة بسبب انشغاله بالوضع، وقص علينا بعد ذلك أنه أحصى أكثر من 70 قتيلا دون احتساب الجنود الذين نُقلوا إلى أماكن أخرى، أما الجرحى فقد بلغوا المئات.
دعاني قائد الكتيبة 36 علي أبو غزالة إلى زيارة السرية التي كانت تحت قيادة الملازم رزقي، وكان مقر قيادته يقع في إحدى الملاجئ المشيّدة بقطع معدنية كما كنا نحلم أن تكون مقارّنا مثلها. كنا قد وصلنا لتونا إلى الجبهة وكان همنا هو الحصول على معدات مناسبة لحماية رجالنا، وكان ما نطلبه نادرا.
لقد خرج المصريون من حرب خسروا فيها كل شيء، حيث كان ينقصهم كثير من الوسائل، بما فيها الأساسية، وهذا ما حدثني به العميد مصطفى شاهين. وكان كيس الرمل يُستورد حينها ويُقدّر ثمنه بحوالي 50 سنتيما بالعملة الأجنبية.
نزلنا حوالي 3 أمتار تحت الأرض وجلسنا في الملجأ المصنوع من معدن "النيكل"، وهو ملجأ لا ينقصه أي شيء، فقد كان مشكلا من أقواس معدنية صغيرة وكان سقفه مطليا بالزفت، كما لاحظت ابتسامة قائد الكتيبة في الزاوية وهو يحدّث الملازم الأول رزقي بصوت منخفض: "هيّا، قل له من أين حصلت عليها". لكن رزقي لم ينبس ببنت شفة. وحاولت تشجيعه لكي يُجيبني، فرفع رأسه ورمقني بنظرات بدت مُحرَجة، ثم قال لي:
- لقد اشتريتها من قائد بطاريات 40 مم "بوفور" بمبلغ قدره 3 جنيهات.
- وسألته بإلحاح: من هو هذا القائد؟
- ذاك الذي يُشرف على البطاريات القريبة منا، والمتواجدة بين قرية "فايد" وفريق مدفعية 100مم التابعة للجيش 2.
ذهلت لما كنت أسمعه، وقارنت في أعماق نفسي بين ضابط يدفع من جيبه لكي يوفر الحماية لرجاله، وآخر...
كان هناك خط سكة حديدية يصل قريبا من مواقعنا فأمرت الضباط باستغلاله، ولم يكن ينبغي فعل أكثر من ذلك. وعلى امتداد قرابة شهرين، كانت الأصوات تملأ الأرجاء، حيث تم فك الخطوط الحديدية ونُقلت على ظهور الرجال إلى غاية مواقعهم لإنشاء ملاجئ تصمد أمام قذائف المدفعية والقنابل الإسرائيلية.
ومنذ ذلك الحين كانت المستلزمات تُؤخذ أينما وجدت، سواء في المعسكرات المُفرغة في "الأبيض" أو "زكريا" أو في أمكنة أخرى. وكنا نقتني ما ندفع ثمنه في السوق المحلي.
لقد كانت وتيرة العمل تسري بصفة جيدة إلى درجة جعلت قائد خلية المدفعية المضادة للطيران في الجيش 2 المصري يسألني في زيارة له عندما أدخلته إلى قاعة تحت الأرض مشيدة بالحجارة كلية: "هل لديكم مهندسون لكي يفعلوا هذا؟"، فأجبته: "يمكن لأي أحد منا في الجزائر أن يبني شيئا كهذا".
كنا نعتمد أسلوب الملاجئ المهيأة تحت الأرض، وهي ملاجئ لم تكن محمية بصفة كبيرة، وكان من خواصها أنها واسعة من أجل تسهيل راحة الجنود في ملاجئ مضادة للقنابل وبخنادق مغطاة تحوي كذلك أنابيب. وكانت هناك حفر صغيرة منتثرة هنا وهناك من أجل إعطاء الفرصة لأي جندي بالاحتماء بداخل أقربها عند أول إنذار. وتطلبت هذه التحضيرات ستة أشهر طويلة من العمل، ولم أغادر المكان طيلة هذه الفترة، وكان هاجسي الوحيد هو توفير الحماية اللازمة لرجالي، وهو ما جعل بعض الأشخاص المحيطين بي يتعجبون.
وإضافة إلى أعمال الهندسة، كان من الضروري السهر على المقاييس الصحية من أجل تجنيب رجالي ملاقاة المصير الذي لقيه بعض من سبقونا في هذه المهمة وإن كان المصابون قلة، مثل مرض البلهارسيا، وهو مرض مُقعد وينتشر كثيرا في مصر، وخاصة في مناطق دلتا النيل التي كنا متواجدين بها. لقد كان هناك قنوات صرف تمر على منطقتنا وتصب في الدلتا، وهذا مكان سريان المرض بنفسه. ولمقاومة هذا المرض الخطير، بدأنا بمنع الاقتراب من قنوات الصرف "الترعة" وزودنا كل قطاع بنصف برميل يحوي 200 لتر يُجبر الجنود على غلي ملابسهم بداخله ثم تنظيفه بالماء الساخن، وقد أثمرت هذه الإجراءات لأننا أثناء عودتنا إلى الجزائر لم نسجل حالة إصابة واحدة. وكان الجنود قبل كل إجازة تُمنح لهم للتوجه إلى القاهرة يصطفون أمام عيادات الوحدات، وكانوا يُحقنون بحقنة "بنسيلين مُعطّلة" Pénicilline retard حتى لا يكونوا عرضة لأي مرض، وكان الجنود يحترمون هذه الاحتياطات الصحية رغم كونها تعسفية، كما أن ما يرونه يصب يوميا عبر قناة "بانوراما" المصرية يدفعهم إلى الصرامة أكثر فأكثر. وكانت الصور الدعائية للحضارة الفرعونية التي كان قطاع السياحة يتبجح بها سرعان ما تترك مكانها لصور فلاحين يغتسلون أو يغسّلون أبقارهم داخل المياه المتعكرة في القناة، كما كان النساء يغسلون الملابس أو الأواني، في حين كان الأطفال يقتحمون، لا مبالين، الماء وهم عرايا.
موت الفريق الأول عبد المنعم رياض
لقد سلبت الحرب والبؤس، الذي هو نتيجة الحرب الطبيعية، الحياة من معناها، فالموت أضحى شيئا عاديا. وقد أخبرني قائد وحدة الدرك الخاصة بحاكم الصلح يوما أنه لما رأى جثة طافية في مياه قناة صرف ذهب ليُعلم الشرطة، فتلقى جوابا مخيبا أغاظه، حيث قيل له: "سيبك (لا تهتم)". ولأنني صُدمت بدوري من هذه الحادثة، أخبرتُ الرائد غازي، وهو ضابط فلسطيني كان لواؤه متواجدا قرب مواقعنا الخلفية فأجابني وهو مشدوه بتفاجئي: "ألا تعلم ذلك؟ إن هذا أمر مألوف هنا. وعندما نرى جثة فإننا نُمسكها من الشعر ونقلبها لنرى إن لم تكن لواحد من رجالنا"، وإذا كان الأمر بالعكس، فإنه شرح لي ببرودة أنهم يشقون طريقا في قناة الصرف للموتى ليلقيهم الماء بعيدا. وأصابني هذا الجواب المرعب بالقشعريرة، فالشرطة كان لديها من الوقاحة ما يجعلها تجرّم كل من يزعجها بتقديم هذه المعلومات المحزنة.
ورغم ضغط العمل، كان على الرجال أن يرتاحوا. ولهذا كنت أمنح، مثل المصريين، بعض التراخيص بمعدل 3 أيام في كل شهر ونصف لكل جندي، ضابطا كان أو ضابط صف. أما أنا، فقد أرجأت موضوع الاستراحة بسبب انشغالي بما يجب عليّ فعله. لقد كنت واعيا بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقي، وقد كنت متضايقا من الوضع لأننا لم نكن لا في حالة حرب ولا في حالة سلم، وكذا هاجس حماية اللواء الذي يقع تحت يدي.
لم تصل الجرافات التي وُعدنا بها في الجزائر، فاقتصرتُ على المعدات المصرية القديمة التي تعود إلى الحرب العالمية الثانية.
كنت أنام قليلا، قلقا من فكرة اندلاع الحرب في حين أن رجالي ومعداتي متواجدة تحت الملاجئ، وشعرتُ بآلام معوية حادة ولم يتم تشخيص سبب ذلك في الجبهة، وكنت أعاني في صمت. لقد مرت ستة أشهر والآلام متواصلة، فقررت استشارة طبيب فور ضبط موعد مع دكتور من طرف سفارتنا في القاهرة، فتوجهت إلى العاصمة للراحة لمدة 3 إلى 4 أيام، وقضيتُ الليلة في الشقة التي وُضعت تحت تصرفنا. وفي الصباح، رافقني ممثل عن سفارتنا إلى الطبيب، وكانت جدران قاعة الانتظار مغطاة برسومات لمشاهد طبيعية أوروبية، وقد كان الطبيب أوروبيا، ولمحت ذلك بسبب لكنته رغم أنه كان يتكلم العربية جيدا، ثم زودني بأقراص مضادة للألم وطلب مني إجراء تحاليل. وعند خروجي من عيادة الطبيب قلت لمرافقي إنني أرجّح أن يكون الطبيب من أصل ألماني.
قضيتُ الأمسية برفقة الدليل الذي كان معي، وتوجهت بعد العشاء إلى شقتي. وفي حدود الساعة الحادية عشر ليلا سمعت دق الجرس، ففتحت الباب ووجدتني وجها لوجه مع الملازم الأول أحمد بنّاي، قائد سريّة الإدارة لللواء، وكان يبدو مضطربا لأن شيئا خطيرا قد حدث. لقد وقع تبادل قصف مدفعي بين الإسرائيليين والمصريين طيلة اليوم، وشاركت في القصف مدافعنا ولم نُصب بأي خسائر، ولكنّ قائد أركان الجيش المصري لقي حتفه. وفور سماعي لهذا الخبر حزمتُ أمتعتي وتوجهت صوب الجبهة.
ولم أعرف كيف سقط قائد الأركان سوى في اليوم الموالي، فلقد كان في مهمة تفتيش كعادته بعدما عُيّن حديثا في هذا المنصب، ولم يكن يدّخر جهدا في تأدية مهامه على أكمل وجه، وكان يحظى باحترام الرجال الذين يصرخون كلما رأوا طائرة مروحية تحوم فوقهم: "هذا هو قائد الأركان". وكان المصريون الذين اكتووا بهزائم كثيرة قد عقدوا آمالهم على هذا الضابط الذي كانوا يُقدّرونه، كما أن ملك الأردن عبد الله الذي عيّنه مستشارا له أثناء حرب 1967 لم يُخف ثناءه عليه في كتابه "حربي مع إسرائيل". وفي يوم وفاته ذهب للاستطلاع أمام الإسماعيلية، وكان مرفقا بأغلبية قواد خلايا قيادة الأركان الذين قُتل وُجرح أكثرهم. لقد ذهب قائد الأركان للتعرف عن بعد على جزيرة صغيرة في بحيرة التمساح قرب الإسماعيلية، حيث كان تتواجد مجموعة من الدبابات الإسرائيلية، ورغم أن رجاله كانوا متمرسين في الحرب إلا أنهم أخطأوا بالتنقل عبر سياراتهم التي كانت مخصصة للعمداء فقط، وهو ما كان غنيمة سهلة لم يتوقعها الإسرائيليون الذين أطلقوا نيران الدبابات والمدافع وأجهزوا على قيادة أركان الجيش 2 في طرفة عين. وأخبرني المستشار السوفييتي أن العميد عبد المنعم رياض توفي على إثر نزيف لأن وحدات الإنقاذ لم تصل بسرعة.
وفي نفس اليوم، أخبرني العميد مصطفى شاهين أن ضباطا بقوا في مراكز قيادتهم في الجيش اختلط عليهم صفير قذائف المدفعية مع أصوات الطائرات المقاتلة أثناء انقضاضها إلى درجة أنهم بعد ربع ساعة من الحادثة أرسلوا إلى مكتب عبد الناصر برقية تتحدث عن هجوم جوي. وقال شاهين مستغربا: "هل تعرفون ما الذي يمكن أن تؤدي إليه غلطة فادحة مثل هذه إذا صعّد الجيش المصري الموقف"؟ وهو ما يعني بعبارة أخرى أن سلاح الجو المصري لم يكن بمقدوره الرد لأنه كان في مرحلة التهيئة.