أرسلت الأمم المتحدة مؤخرا تحذيرا للبلدان المغاربية من اشتداد سباق التسلح بينها، مما برهن على أن هذا السباق بلغ درجة تبعث المجتمع الدولي على الانشغال، لانعكاساته في مستقبل العلاقات المغاربية- المغاربية واستتباعاته على الأمن والاستقرار في شمال أفريقيا والحوض الغربي للمتوسط عموما. وربما ما كانت الأمم المتحدة لتُوجه ذلك التحذير لولا أن البلدان المغاربية باتت تحتل المرتبة العشرين بين الدول الأكثر تسليحا في العالم. وطبقا للتقرير السنوي لـ"معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" استأثرت أربعة بلدان مغاربية (ليبيا والجزائر والمغرب وتونس) بثلث تجارة السلاح في القارة الأفريقية في السنة الماضية، ما شكل علامة قوية على شدة السباق نحو التسلح في المنطقة.
وعلى رغم انتهاء الحرب الباردة على الصعيد الدولي ما زالت أجواء مشحونة تسيطر على المغرب العربي الذي تعيش بلدانه حالة مُزمنة من القطيعة والصراع، لا تتجسد في المناورات السياسية في أروقة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وحسب، وإنما تلقي أيضا بظلال كثيفة على علاقاتها مع كبار تجار الأسلحة في العالم. ويمكن القول إن التحالفات القديمة الموروثة من الحرب الباردة مازالت تقود سباق التسلح لدى بلدان المنطقة، فالجيش الجزائري الذي تعودت قياداته وكوادره على الأسلحة الروسية، جدد العهد مع الحليف السابق وأبرم صفقات ضخمة ومتنوعة مع موسكو. وكذلك فعلت ليبيا عندما عقدت بدورها صفقة لافتة مع روسيا في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بمناسبة زيارة العقيد معمر القذافي لموسكو، فيما اشترى المغرب طائرات متطورة من طراز أف 16 من الولايات المتحدة الأمريكية.
أبرز الصفقات العسكرية
ومن المفيد التوقف عند أبرز الصفقات التي تم إبرامها في السنتين الأخيرتين لكي ندرك السرعة المتصاعدة لسباق التسلح المغاربي، فقد تُوجت زيارة العقيد معمر القذافي لموسكو يوم 2 نوفمبر (تشرين الثاني ) الجاري بصفقة عسكرية لشراء 12 مقاتلة متطورة من طراز ميغ 29 MiG-29SMT و12 أخرى من طراز سوخوي 30 أم كيو Su-30MK2 ودبابات من طراز تي 90، بالإضافة لغواصة أو اثنتين من طراز 636 تعمل بالنظام المزدوج الكهربائي وديزل. وشملت الصفقة أيضا اقتناء أنظمة دفاع جوي طويلة المدى وأخرى قصيرة المدى. وتُعتبر هذه الصفقة، التي بلغت قيمتها 2.2 ملياري دولار، من أكبر الصفقات العسكرية التي أبرمتها موسكو مع بلد عربي في السنوات الأخيرة، ما شكل علامة إضافية على العودة الروسية القوية إلى أسواق السلاح العربية.
وكان القذافي أبرم صفقة مماثلة مع فرنسا خلال زيارة الرئيس الفرنسي ساركوزي لطرابلس في تموز (يوليو) العام الماضي تعلقت بتحديث طائرات عسكرية ومدنية وشراء خافرات سواحل وأجهزة رادار. وشملت الصفقة تحديث 30 طائرة حربية من طراز ميراج إف1 كانت اشترتها ليبيا من فرنسا قبل فرض حظر على تصدير الأسلحة إليها. وتُراوح قيمة الصفقة التي تُؤمنها كل من "أستراك" و"داسو للطيران"، بين 10 و20 مليون يورو لكل طائرة، بحسب مستوى التجديد الذي يطلبه الجانب الليبي.
وتتميز هذه الفئة من الطائرات بكونها مجهزة بصواريخ جَـو جَـو من طراز "ماجيك". وتعمل مجموعة "إيدس" ( EADS) للتصنيع الحربي أيضا على تجهيز ليبيا بنظام رادار لمراقبة الحدود والمواقع النفطية. وتُعتبر الصفقتان مؤشرا قويا على أن ليبيا عادت بقوة إلى أسواق السلاح بعد رفع العقوبات الدولية عنها في سنة 2004. واستفادت القيادة الليبية من ثمار الطفرة النفطية وتحسين علاقاتها مع الدول الكبرى بعد رفع العقوبات الدولية عنها، لكي تُجدد ترسانتها المؤلفة أساسا من أسلحة روسية الصنع، وتُحافظ على مسافة مهمة من التفوق العسكري على الجيران. ويندرج تأمين هذا التفوق في إطار السعي لفرض هيبة في القارة الأفريقية وخاصة في شمالها، وحول منطقة الساحل والصحراء التي يعتبرها العقيد القذافي المجال الحيوي لنفوذه الإقليمي.
وقبل صفقة الأسلحة الليبية مع روسيا توصل الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في ختام زيارة إلى موسكو عام 2007، إلى صفقة قيمتها 7.5 مليارات دولار لشراء 28 طائرة حربية من طراز سوخوي 30 أم كيو Su-30MK و36 مُقاتلة من طراز ميغ 29 MiG-29SMT و16 طائرة تدريب من طراز ياك 130، بالإضافة لـ300 دبابة من طراز تي 90 أس T-90S ورادارات وكميات أخرى من العتاد. وشملت الصفقة أيضا ثمانية أنظمة صواريخ أرض جو من طراز تونغوسكي S-300 PMU Almaz-Antei وتجديد 250 دبابة جزائرية من طراز تي 72 وعدد غير معلوم من الصواريخ المضادة للدبابات من طراز ميتيس وكورنت، بالإضافة للقيام بأعمال صيانة للسفن الحربية الجزائرية روسية الصنع.
ويمكن القول إن ما شجع الجزائريين على استمرار التزود بالسلاح من روسيا هو الخطوة التي أقدمت عليها موسكو بإلغاء الديون المتخلدة بذمتهم، والتي تُقدر بسبعة مليارات دولار.
وتزامنت تلك الصفقة، وهي الأكبر التي حصدها الروس منذ انهيار الإتحاد السوفياتي السابق، مع توقيع المغرب على صفقة لشراء 28 طائرة حربية أمريكية متطورة من طراز أف 16. والثابت أن صفقة السلاح الروسي للجزائر شحذت السباق بين الجارين المتصارعين على الصحراء من أجل تكديس أحدث الأسلحة وأفضل العتاد.
أما التونسيون فيُنفقون على التسلح أقل مما يُنفق جيرانهم لسببين رئيسيين أولهما أن البلد ليس غنيا بالموارد الطبيعية مثل جاريه ليبيا والجزائر، وثانيهما أنه اختار منذ الاستقلال حصر القوات المسلحة في دور دفاعي بحت، مع الاعتماد على تحالفات مع القوى الغربية الكبرى لدرء أي خطر قد يأتي من الجيران. مع ذلك طورت تونس تعاونها العسكري مع إيطاليا أحد مُزوديها الرئيسيين بالسلاح إذ زار وزير الدفاع الإيطالي أرتورو باريزي تونس مؤخرا وركز محادثاته مع المسئولين المحليين على سبل تعزيز الأمن في المتوسط ومكافحة الإرهاب. كما تُزود كل من فرنسا والولايات المتحدة تونس بأسلحة دفاعية.
وفي موريتانيا ما زالت المؤسسة العسكرية تلعب دورا مركزيا في حياة البلاد ويستأثر الإنفاق على السلاح والعتاد بقسم ذي بال من الموازنة، على رغم شح مواردها النفطية والزراعية. غير أن إنفاقها الحربي تراجع منذ انسحابها من الصحراء وخروجها من الصراعات الإقليمية في سنة 1979. وتجدد الاهتمام بالإنفاق العسكري مع توسع ما يُعرف بـ"الحرب الدولية على الإرهاب"، إذ باتت قواتها تشارك في مناورات عسكرية دورية مع بلدان الجوار وقوات أمريكية، كانت آخرها تلك التي استمرت شهرا بإشراف الولايات المتحدة في منطقة قريبة من العاصمة المالية باماكو بمشاركة قوات من 13 بلدا أفريقيا. ورمت المناورات التي حملت اسم "فلينتلوك 2008" إلى تعزيز الجاهزية القتالية في مكافحة الجماعات المسلحة التي تنتشر في منطقة جنوب الصحراء، والتي كثفت عملياتها في مناطق موريتانية مُستهدفة الرعايا الأجانب، وخاصة الفرنسيين. ويُعتقد أن تكاثر عمليات الخطف والقتل التي تُنفذها تلك الجماعات في شمال موريتانيا وشرقها سيؤدي إلى تنامي الإنفاق على الجيش لتسليحه وتطوير أدائه في مواجهة الجماعات.
الإستراتيجيات العسكرية المتقابلة
لكن صفقات التسلح لا يمكن أن تُقرر وتُبرم في وقت سريع وبناء على خطر طارئ كهذا. كما أنها لا يمكن أن تأتي ردا على صفقة يعقدها الجار أو الغريم، وإنما تندرج في إطار الإستراتيجية العامة للدولة. فكل دولة تضبط المنظومة الشاملة للأمن القومي في ضوء تحديد من يهددها، ومن أين يمكن أن يأتي الخطر (بحرا أم برا أم جوا؟) ومدى دائرة النفوذ التي ترسمها تلك الدولة لنفسها (وهي مرتبطة عادة بالمصالح الاقتصادية). كما تتحدد الإستراتيجيا في ضوء الموارد الوطنية للبلاد ومصادر الدعم الخارجي الثابتة (أي غير المشكوك في تحصيلها عند الاقتضاء).
ومن ثم توضع الإستراتيجية العامة للدفاع الوطني التي تشمل كل الأسلاك المسلحة من جيش وشرطة ودرك وغيرها وعلى أساسها تُصاغ الإستراتيجية العسكرية التي تخص الجيش (أو الجيوش بحسب البلدان) ومنها تتفرع الخطة الإستراتيجية، وهي العقيدة العسكرية التي تُمكن من وضع الخطط العملياتية الملائمة. وفي مقدمة تلك الخطط المنهج القتالي (الذي يعتمد على المدرعات بالنسبة لبعض البلدان أو القاذفات أو الخافرات البحرية بالنسبة لبلدان أخرى بحسب مصدر الخطر) والفروع الرئيسية للدفاع. فمصر، على سبيل المثال، لا تعتمد، التقسيم الثلاثي التقليدي (البر والبحر والجو) وإنما على أربعة فروع هي: الدفاع الجوي والبحري والطيران والجيوش الميدانية.
وتُعتبر هندسة بناء القوات العنصر المُحدد في صفقات السلاح فإذا ما كان الجيش مؤلفا من أربع فرق مدرعة وست فرق مشاة سيكون تسليحه مختلفا عن جيش آخر مؤلف من فرقة ميكانيكية وفرقتين مدرعتين وثلاث فرق مشاة. وعليه فإن التجهيزات مرتبطة بنوع التشكيلات إذ تفرض هذه الأخيرة الحاجة إلى أصناف محددة من الأسلحة. وتلك الحاجات يمكن سدها إما بواسطة التصنيع المحلي (الذي يعتمد على توافر الخبرات والمواد الأولية وكذلك على حد أدنى من التعاون الخارجي) أو بواسطة الهبات. والهبة عادة لا تتضمن الأجيال المتطورة من الأسلحة، فضلا عن أن الواهب ينتظر في مقابل ذلك ثمنا سياسيا وحتى عسكريا (تسهيلات أو قواعد). كما يمكن سد الحاجات العسكرية أيضا بواسطة الصفقات المُيسرة، وهذا النوع من الصفقات التي تعقدها بلدان غير نفطية مثل المغرب وموريتانيا وتونس، لأنها غير قادرة على دفع الثمن فورا، يجعلها مضطرة للبقاء ضمن منظوماتها القديمة، مما يشكل قيدا على حركتها. كما أن البلدان المُصنعة للسلاح لا تبيع آخر جيل من أسلحتها في حالة الصفقات الميسرة، فهي تفضل الإبقاء عليه لقواتها وقوات حلفائها.
لكن حتى في حالة الصفقات المدفوعة بالكامل تتحايل البلدان المنتجة للتخلص من النوعيات السيئة ولا تتقيد بالمواصفات المسجلة في العقود، وهو ما حاوله الروس مع الجزائريين لدى تسليمهم طائرات ميغ 29 إذ اكتشفوا فيها خللا فنيا، ما فجر أزمة كادت تؤدي إلى توقف صفقة "سوخوي" أيضا. ونفى مصدر مقرب من وزارة الدفاع الجزائرية ما نشرته صحف روسية من أن الاتفاقية المبرمة بين الجزائر وروسيا في شأن اقتناء طائرات "سوخوي" توقفت. وأتت لاحقا "تدقيقات" مفادها أن الأمر يتعلق بخلل قد يكون خبراء جزائريون اكتشفوه في الطائرات التي كانت الجزائر تسلمتها من موسكو من طراز "ميغ"، وأنها ساومت بوقف الالتزام بصفقة "سوخوي" لإجبار الروس على إصلاح الخلل. واتضح لاحقا أن الجزائر ستتسلم طائرات "سوخوي" في الآجال المحددة وأنها استبدلت طائرات "ميغ 29" التي كانت طلبتها بطائرات أخرى من طراز "سوخوي"، ما رفع حجم الصفقة من هذا الطراز إلى 56 طائرة، طبقا لاتفاق جديد توصلت له الجزائر وموسكو. ويُرجح أن الأمر يتعلق بـ40 مطاردة من نوع "سوخوي 30 أم ك" من تصميم شركة "إيركوت"، و16 مطادرة خاصة بالتدريب من نوع ياك 130.
الأبعاد الدولية
يرى المُحللون العسكريون أن من شأن تلك الصفقات أن تُعزز الحضور الإستراتيجي لكل من روسيا والولايات المتحدة في المنطقة، ومن بين هؤلاء المحللان في مجموعة "جينس للإعلام" (Jane's Information Group ) أليكس فاتنكا وريشارد فايتس، اللذين قالا إن القادة الروس يُدركون أن الصفقات تفتح المجال لتعزيز العلاقات مع البلدان العربية التي أصبحت في مقدمة زبائن السلاح الروسي. فالصناعات الحربية الروسية أصبحت ترى في العالم العربي، أكثر من أي وقت مضى، سوقا مُهيأة لاستيعاب مزيد من منتوجاتها. وقد كانت تحتل دائما المرتبة الثانية أو الثالثة بين كبار المزودين بالأسلحة في الشرق الأوسط بعد فرنسا وبريطانيا.
واستطاع الروس تسجيل نقطة مهمة على الفرنسيين عندما أقنعوا ليبيا باختيار مقاتلات ميغ 29 بدل مقاتلات "رافال" الفرنسية متعددة التخصصات ومروحيات "تايغر" الحربية التي تُصنعها مجموعة "يوروكوبتر" Eurocopter والتي كانت باريس تحاول إقناع الليبيين بشرائها. ويعتبر الفرنسيون أنهم تأخروا في قطف ثمار المتغيرات التي أعقبت رفع الحظر على تصدير السلاح إلى ليبيا، وحاولوا "كسب الوقت الضائع" من خلال الدور الخاص الذي لعبته فرنسا في تسوية أزمة الممرضات البلغاريات اللائي كن سجينات في ليبيا، وخاصة أثناء زيارة القذافي لباريس، لكن الحصاد كان هزيلا.
قُصارى القول أن سباق التسلح شكل مدخلا رئيسيا للعبة النفوذ التي تمارسها القوى الكبرى الثلاث في المنطقة الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا، وهي تستثمر الصراع المغربي – الجزائري على الصحراء إلى أبعد الحدود، وكذلك تطلعات القذافي إلى لعب دور إقليمي في القارة الأفريقية، لجعل المنطقة أحد الأسواق الرئيسية لأسلحتها. وعلى رغم النجاح الذي حققه الأمريكيون في كسب صداقة بلدان كانت في المعسكر المنافس أيام الحرب الباردة مثل ليبيا والجزائر، وقطف صفقات نفطية وتجارية هامة فيهما، فإن الروس كانوا أكثر حذاقة منهم في ترويج سلاحهم.