الحمد لله الذي بكل كمال تفرد، نحمده أن وسع حلمه من تعدى وألحد، فإن تاب
وإلا أصلاه العذاب المدد، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه
ذوي الكرامة والسؤدد، وعلى تابعيه على الصراط القويم والنهج الأحمد.
وبعد، فهذه محاجة للملحدين، الذين يقولون لا إله ولا دين، المعظمون الفرية
على رب العالمين، أكتبها لتسعف مناظراً من المسلمين، يشق بها بإذن الله
أشداق المفترين، وخير الجهاد قراع الحجة والبراهين، فالله أسأل أن يجعلها
لي حسنة يوم الدين، إنه جواد لا يضيع أجر العاملين.
إلى كل ملحد نقول: من أوجد الكون؟ إما أنه وجد من عدم أو أوجده موجد؟
إن قال: وجد من عدم.
قلنا: الإيجاد فعل، والفعل لا يقوم إلا بموجود ضرورة. فبطل هذا الاحتمال.
فيلزمه أن يقر أن قد أوجده موجد.
نقول: هذا الموجد إما هو من هذا الكون أو من خارج هذا الكون؟
إن قال: هو من هذا الكون.
قلنا: إذاً هو لم يكن قبل الكون أصلاً، وإنما وجد بإيجاده. وعليه يرجع
الكلام إلى امتناع أن يوجد المعدوم شيئاً، ومر بيانه. فبطل الاحتمال
الثاني.
فيلزمه أن يقر أن الخالق من خارج الكون.
نقول: هذا الخالق إما أنه واحد أو متعدد؟
فإن قال: هو متعدد.
نقول: ما الدليل على التعدد؟
يقول: لا دليل. فما الدليل على التفرد؟
نقول: ثبت وجود خالق قطعاً، وهذا محل اتفاق. ثم لا دليل على أكثر من ذلك، فلا يصح ادعاؤه. وهذه حقيقة التفرد.
يقول: عدم الدليل على الزيادة على الواحد هو دليل ظني على عدم الزيادة لا
قطعي، لاحتمال دليل لا نعلمه. ومثل هذه المسألة لا بد فيها من قطع. فهل ثم
دليل مباشر على التفرد.
نقول: أولاً هو قطعي لا ظني، لأنه لو كان ثم خالق لادعى، وما ادعى غير
الله لنفسه الخلق إلا بهت، أما الله سبحانه فقد دعا لنفسه بالخلق ولم
ينازع، فتعين قطعاً.
فإن قال: لا أقنع إلا بدليل مباشر.
نقول: مكابرة، لكن نتنزل معك. الأدلة كثيرة، نكتفي بواحد منها. وهو ضرورة كمال الخالق وتنزهه عن كل نقص.
قال: وكيف يدل هذا على تفرد الخالق؟
نقول: إن كان الخالق متعدداً فإما أن أحدهم اختلف - ولو مرة - في شيء ما، أو هم متفقون في كل شيء.
إن كان قد اختلفوا، فأيهم لم يمض قوله فليس برب، إذ القهر نقص، والنقص ممتنع في حق الخالق. فبطل هذا الحتمال.
ومن مضى قوله، إن كان واحداً فقد تعين أنه وحده الخالق. وهو المطلوب والحمد لله.
فإن كان متعدداً، فهم متفقون لا اختلاف بينهم أبداً. وهي عين الصورة الثانية. وهي إن كانوا متفقين دائماً لم يقهر أحدهم الآخر.
وهنا نقول: أحدهم لا حاجة إليه، إذ قد أغنى وجود الآخر عنه. وعليه فليس
أحد منهم رب، لأن الاستغناء عنه نقص في القيومية، والنقص ممتنع في حق
الخالق. وعليه نرجع إلى الاحتمال الأول، وهو عدم الخالق، وسبق بطلانه.
نقول: فإذا لزم على هذا الاحتمال – وهو تعدد الخالق - باطل على كل حال، كان باطلاً، ضرورة أن ما لزم منه باطل فهو باطل.
ثم نقول: بقي أن يكون الخالق متفرداً ولا مانع منه، فيتعين.
يقول الملحد: !!!
وبعد هذا لا بد من ملاحظة أمرين:
الأول: أن هذا الدليل العقلي مما أرشد إليه القرآن الكريم.
قال تعالى: ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ) فهذا وجه حصر الاحتمالات.
وقال تعالى: ( قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فائت بها من
المغرب فبهت الذي كفر ). وهذا دليل أن لم يدع الخلق أحد غير الله تعالى
إلا بهت.
ومثله قوله تعالى: ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من
دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له ) فيه أن الله دعا لنفسه
بالربوبية، وأن لا يقدر أحد أن يدعي نفسه رباً إلا بهت بأن نتحداه بمخلوق
حقير، فكيف بالسماوات والأرضين؟!
وقال تعالى: ( قل لو معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً ) وهذا دليل امتناع التعدد للزوم العدم أو المغالبة.
وقال تعالى: ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل
الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) وهذا فيه اشتراط كمال
الصفات وكمال العزة في الرب الخالق.
الثاني: عذوبة القرآن أقنع العقول وشد القلوب بأسلوب سهل مختصر، يفهمه
العالم والجاهل. بينما كان أسلوب العقل أجاجاً يرغم العقل إرغاماً، جافاً
يقسي القلب، صعباً لا يفهمه كل أحد.
فتبارك الله الذي قال: ( فبأي حديث بعده يؤمنون )؟!
ومن هنا نعلم أن أقوم طريق للدعوة والاستدلال – ولو على الملاحدة – إنما
هو كتاب الله تعالى، كما قال سبحانه: ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق
وأحسن تفسيراً ).
هذا، وأنتظر من الإخوة تقييم هذه المناظرة والتنبيه إلى ما يحتاج التعديل
منها، إذ هي محاولة أولية تحتاج النقد والتحرير قبل أن تستعمل حقيقة.
والله أعلى وأعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
منقول