من هو عامر عبد الله :
فقد كان من بين أبرز المعارضين ضد الحكم الملكي العراقي والسياسة البريطانية، مبتدئا حياته السياسية في الاربعينيات، عضوا في حزب الشعب ثم انتقل الى الحزب الشيوعي ليحتل فيه موقعا قياديا مبكرا في الخمسينيات، كعضو في المكتب السياسي. كان له دور مميز في التحضير لثورة تموز في العام 1958 عبر صلته بقائدها الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، وبذل الجهد لتأمين دعم المعسكر الاشتراكي لها. واصل مسيرته في الحزب على الرغم مما شابها من الخلافات التي افضت الى إقصائه عن القيادة ثم عودته، ليتكرر ذلك حتى انتهى الامر في منتصف الثمانينيات الى خروجه نهائيا من اللجنة المركزية تحت طائلة الخلافات التي عصفت بالحزب، بسبب تداعيات الحرب مع ايران وأجواء المحالفات المحلية واستمرار نهج الحزب في الكفاح المسلح ضد نظام صدام، انطلاقا من كردستان العراق. عمل وزيرا للدولة في عهد الرئيس الاسبق احمد حسن البكر وفي العام 1978 غادر العراق وقدم استقالته في العام التالي
توفي في العام 2000
نأتي الان عن مذكراته حول حرب اكتوبر / تشرين الاول 1973 :
نعود الى العلاقات العراقية – السوفيتية، ونتجاوز ما يتعلق بالطلبيات العسكرية، التي قدمتها بتقريرين اضافين الى رئيس الجمهورية، اثر زيارتين للاتحاد السوفيتي، ونتوقف لدى القضايا السياسية التي بحثتها مع الرفاق السوفييت اثناء الزيارة التي كلفني بها أحمد حسن البكر في اثناء حرب تشرين 1973.
كان هذا اللقاء مع بونوماريوف، رئيس القسم الدولي في اللجنة المركزية، وآخرين من المسؤولين عن العلاقات مع البلدان العربية، اقتطف من وثائقه ما يلي على لسان السوفيت:
” – ان تأخر شحنات الأسلحة الى العراق يعود بالدرجة الأولى الى انشغالنا بالوضع على الجبهتين المصرية والسورية، والأهمية الملحة بدعم مصر وسوريا على وجه السرعة. وقد تم، على سبيل المثال، تجهيز كل من سوريا ومصر بأكثر من ألف دبابة عن طريق الجو خلال اسبوعين، عدا الطائرات والتجهيزات والذخائر…
– بشأن زيارة الرفيق صدام الى موسكو… وجّهنا برقية الى سفارتنا ببغداد بتاريخ 17 تشرين الأول، اعربنا فيها عن ترحيبنا بهذه الزيارة، ومشاركة الرفيق صدام حسين في مؤتمر موسكو لقوى السلم، كما اوضحنا فيها انه ستجري خلال ذلك مباحثات على مستوى رفيع. وقد قمنا بالترتيبات اللازمة لاجراء هذه المحادثات مع الرفيق بريجنيف، وهيأنا داراً لاقامة الرفيق حسين، ويؤسفنا انه لم يحضر.
– لم يستطع كوسيجن المرور ببغداد او دمشق اثناء زيارته للقاهرة، لأننا كنا بحاجة اليه هنا.
– ارسلنا رسالة الى الرفيق البكر، بتاريخ 26 تشرين الأول، اوجزنا له فيها مباحثات كوسيجن في القاهرة، ومباحثاتنا مع كيسنجر.
– قوبلت خطوات العراق بالتأييد في الاتحاد السوفيتي، خصوصاً ما يتعلق بالارسال العاجل للقوات العراقية الى سوريا، وتأمين الوقود لسوريا.
– قمنا من جانبنا بما يلزم من المساعي لدى الحكومة الايرانية.
– ارسلنا رسالة الى البارزاني حملها اليه بعض رجالنا في السفارة ببغداد. وقد استلمنا جواب هذه الرسالة، وسنجري مباحثات مع وفدهم الذي وصل الى موسكو.
– سنأخذ بعين الاعتبار انطباعات القادة العراقيين حول سفيرنا في بغداد، علماً باننا وافقنا على السفير العراقي الجديد في موسكو. فنحن لا نتدخل في شأن يهم العراق. وأردف بمزح: إذا كنتم سترسلون الى الاتحاد السوفيتي سفيركم في الكويت، فهل معنى ذلك اننا ينبغي ان نرسل لكم سفيرنا في لوكسمبورغ؟
– نحن مسرورون لاعلامنا بالموقف العسكري ايام القتال، لأن ذلك ساعد المارشال غريشكو على اعلامنا اول بأول عن مواقع وتحركات القوات العراقية التي وصلت بسرعة، وفي الوقت المناسب – أي عندما كان الوضع في الجبهة السورية خطيراً. وقد لعبت القوات العراقية دوراً كبيراً، وحاربت بكفاءة”.
حدثتهم عن مقدمات الحرب، وتنامي ميول المساومة في بعض البلدان العربية، ووجود شكوك حول السادات، وما يمكن ان يعتبر صفقة خفية مع امريكا والرجعية العربية على القتال، ومداه، ونتائجه… ومحاولة ابعاد الاتحاد السوفيتي عن الصورة. كما اشرت الى تقديرات رئيس الجمهورية في اجتماع مجلس الوزراء، الذي لمّح الى ان المستلزمات الضرورية لخوض حرب ظافرة لا تبدو متوفرة بالنسبة الى الشقيقتين مصر وسوريا؟ وأن الأمور غير محسوبة جيداً للتغلب على اسرائيل، وبعد أن اعلن عن تدابير العراق للاشتراك في المعركة… تمنى ان تكون العاقبة خيراً.
– حدثتهم ايضاً عن تقديرات حزبنا في الاجتماع الأخير للجنة المركزية وعن القرارات والتدابير التي اتخذت في اطار الجبهة الوطنية، واللقاءات المتكررة مع صدام حسين حول طبيعة هذه المعركة وآفاقها، وعن ضرورة دخول العراق المعركة، والمساهمة بتوجيهها وجهة صحيحة، واكسابها مضموناً تحررياً معادياً للامبريالية بحق، ودرء المخططات المرسومة لها. كما بينت لهم انها كانت متفقة على ان هذه الحرب لم تكن محسوبة بدقة، ولا مصممة لكي تكون مديدة، وجدية، وتستهدف تحرير الأراضي المحتلة حقاً، وتستخدم فيها كل الامكانيات العربية… الخ.
– لم يعلقوا على التقديرات التي ذكرتها بشأن الحرب، وطريقة ادارتها ونتائجها. ولكنهم في معرض التعقيب على مجمل الحديث، ذكروا ما يلي:
– انهم حذروا مصر وسوريا قبل بدء القتال بأسبوع، ودعوهم الى تدقيق حساباتهم جيداً قبل الدخول في المعركة. مؤكدين لهم “ن مسألة الحرب هي من الأمور التي تقرّرونها انتم بأنفسكم، على مسؤوليتكم تجاه شعبكم.. وأن موقف الاتحاد السوفيتي في دعم القضية العادلة للعرب معروف.
– يذكرون كذلك انهم – لدى نشوب القتال – ناشدوا مصر وسوريا ان اصمدوا… وسنواصل تجهيزكم بالسلاح، ونضغط على الامريكان.
– وبشأن مجرى العمليات، لاحظوا:
– ان الهجوم بدأ بشكل جيد في الأيام الأولى.
– ثم بدأ التراجع والارتباك لأسباب لا نعرفها.
– لم يكن هناك تنسيق بين الجبهتين.
– وأن المصريين توقفوا عن الهجوم، ولم يتقدموا إلا ضمن مدى المدفعية الموجودة في غرب القناة.
– لم يكن لنا بعد ترحيل الخبراء السوفيت اي عسكري على الجبهة المصرية. كان هناك ملحق عسكري فقط يتصل بالقيادة المصرية، ويستقبل ببرود، ويقوم المصريون بتزويده بما يريدون من المعلومات، ويكتمون الباقي.
– أما الوضع في سوريا فكان افضل – حيث كان خبراؤنا موجودين يقودهم عسكري برتبة جنرال. وقد استدعي من قبل حافظ الأسد بحضور مجلس الدفاع، حيث قدم آراءه ومقترحاته. وقد قام رجالنا بتشكيل أجهزة الصواريخ المضادة للطائرات. وعندما اصبح الوضع صعباً على الجبهة انتقل فريق من خبرائنا الى هناك… لقد قتل عدد من ضباطنا، ولكننا نكتم ذلك. ومن المؤسف ان حوالي 300 دبابة سورية قد غنمت من الجانب الاسرائيلي، وقد كوّن منها الاسرائيليون ثلاثة ألوية مدرعة وأدخلوها في المعركة ضد سوريا.
طلب منا مرتين التدخل لوقف القتال، بينما كانت القوات المصرية قد عبرت القناة، وعزّزت مواقعها. سألناهم: ما هو موقف مصر؟ اجابوا: ان مصر لا تتصل بنا في هذه الايام.
على الجبهة المصرية، جرى الاختراق الاسرائيلي عبر البحيرات المرّة بدبابات سوفيتية الصنع. هذا الوضع غير مفهوم بالنسبة لنا، إذ كيف استطاعوا ان يفعلوا ذلك؟
فأثناء حرب الاستنزاف التي نصحنا بها عبدالناصر قبل ثلاث سنوات، أقام رجالنا “جبالاً من المدفعية” – أي 3200 مدفع بعيد المدى على 30 كيلومتراً غرب القناة، وحيث وقع الاختراق الاسرائيلي تماماً. فماذا كان دور هذه القوة الهائلة من المدفعية؟
بعد نجاح الاسرائيليين في اختراق الجبهة المصرية، تلقينا من السادات طلباً مستعجلاً بالتدخل لوقف اطلاق النار. كان المكتب السياسي مجتمعاً حتى العاشرة ليلاً، وانصرفنا، ولكن في الرابعة فجراً ايقظ سفيرنا في القاهرة الرفيق بريجنيف بالتلفون.. بعد ان اعتذر.. قال انه لم ير بداً من ايقاظه لأن السادات يتصل به كل ساعتين، ويطالب بإلحاح ان يتصل بموسكو ويطلب من بريجنيف ان يبذل مساعيه العاجلة لوقف اطلاق النار. وقد سأل بريجنيف سفيرنا في القاهرة: وما هو موقف سوريا؟ وجاء الجواب من السادات بأنه لم يتشاور مع سوريا، ولكنه سيتفاهم مع حافظ الأسد ويقنعه.
أصبح الوضع على الجبهة المصرية خطيراً، حيث استطاع الاسرائيليون تطويق الجيش الثالث (وكان لديه 1200 دبابة). كما استطاعوا قطع الامدادات عنه، وكذلك الماء والطعام والمواد الطبية والذخيرة، ولم يبق له اتصال بالقيادة المصرية إلا عن طريق الراديو… كما كان يعاني من مشكلة 3 آلاف جريح… فماذا نفعل؟
كانت الأمور تتطور بالساعات…
يجدر بنا هنا ان نشير الى مؤاخذة العراق لنا لعدم التشاور معه حول وقف اطلاق النار.
ان قيادتنا وبريجنيف شخصياً يقدرون تقديراً عالياً دور العراق.. وليس هناك اي تفكير بتجاهله.. ولكن الأمور كات تتطور بالساعات كما قلنا، وقد ارسلنا برقية الى سفارتنا ببغداد ليلة اجتماع مجلس الأمن، وطلبنا الاتصال بالمسؤولين العراقيين فوراً (رفض وزير الخارجية العراقية، كما ذكرت آنفاً، استقبال السفير السوفيتي، الذي شكا اليّ هذا الموقف، وقال انه يحمل برقية عاجلة الى الحكومة العراقية، وقد منعوه من دخول القصر الجمهوري لتسليمها الى رئيس الجمهورية.. فاتصلت بوزير الخارجية على تلفون داره حوالي الساعة الرابعة صباحاً، فأخبرني انه يعرف بالحادث ويتهرب قصداً عن استقبال السفير… وبعد أخذ ورد وإلحاح وجدال، اقترح ان يودع البرقية في مكتبه بوزارة الخارجية… وهذا ما اقترحته على السفير، ففعل .
وأضافوا:
“كنا مجهدين، ونعمل ليلاً ونهاراً لانقاذ الوضع في مصر وسوريا، خصوصاً عندما اصبح هذا الوضع في غاية الصعوبة على كلا الجبهتين.. وكنا قد ارسلنا الى الرفيق البكر في 25 تشرين الأول رسالة تضمنت شرحاً لتطورات الوضع.
-“هناك للأسف، في بعض الأوساط العربية، من يتصرف او يتحدث كما لو ان الاتحاد السوفيتي قد احبط اكثر من مرة المقترحات والمشاريع الامريكية في مجلس الأمن، والتي كانت تستهدف اتخاذ قرار بوقف اطلاق النار، في وقت مبكر. وقد اتخذ الاتحاد السوفيتي موقف الرفض عندما كانت الجيوش العربية تتقدم. ولكن ماذا نفعل عندما اصحبت اسرائيل في وضع تستطيع فيه الاستمرار في الهجوم واحتلال أراضى جديدة؟
– يؤسفنا اننا لا نستطيع ان نقول شيئاً بشأن الالحاح علينا بالتدخل لوقف اطلاق النار. وهذا ما لم نذكره في رسالتنا الموجهة الى ياسر عرفات. ومع ذلك كله، فنحن مسرورون لأن اصدقاءنا العرب قد حاربوا هذه المرة بشكل أفضل.
وحول استدعاء كيسنجر الى موسكو:
– ابلغنا كيسنجر بأننا مصممون على دعم العرب. ونحن نعلم ان الولايات المتحدة تمد اسرائيل بالسلاح وغيره. وإذن فان الأمور تتطور نحو المجابهة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. فهل تجدون في ذلك مصلحة لكم؟
– تملك الامريكان خوف من نتائج الصدام والمواجهة، كما دخل النفط العربي كعنصر اضافي في مخاوفهم.
وهكذا كان الاتفاق على صيغ مشتركة لوقف القتال.
– ولكن الاسرائيليين استمروا بالهجوم، واحتلوا مواقع جديدة، خصوصاً في مصر. وهنا أخذ السادات يطالب بارسال قوات امريكية وسوفيتية لوقف الهجوم الاسرائيلي.
وعن تدابيرهم لمعالجة الموقف، ذكروا ما يلي:
– في ليلة 23/24 اكتوبر وجّهنا الى الرئيس الامريكي نيكسون رسالة شديدة وحازمة حول استمرار اسرائيل بالهجوم. وأكدنا له، بلهجة صارمة، بأنكم إن لم تفعلوا شيئاً لوقف اسرائيل عند حدها، فإن الاتحاد السوفيتي سيجد نفسه مضطراً لأن يتخذ من جانبه كل الاجراءات الضرورية لوضع حد للعدوان.
– وجاء رد نيكسون على شكلين:
– فمن جهة قال اننا سنفعل ما يلزم.
– ومن جهة أخرى، قام في اليوم التالي بوضع القوات الامريكية في حالة تأهب قصوى… مصوراً الوضع بأنه شبيه بأزمة الكاريبي (أي الأزمة التي قامت بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في عام 1962 لدى كشف مواقع الصواريخ السوفيتية على الأراضي الكوبية).
ويستطردون في وصف موقفهم على الصورة التالية:
– في الساعة الخامسة من مساء اليوم الذي قرّرت فيه الولايات المتحدة وضع قواتها في حالة الانذار اجتمعنا وقرّرنا عدم الخضوع للتهديد. كما اتخذنا التدابير والاجراءات الضرورية.
وعلى الضد من بيان نيكسون صدر بيان الحكومة السوفيتية، باسم وكالة (تاس) وصفنا فيه قرار نيكسون، بوضع قواته في حالة التأهب القصوى، بأنه تدبير أخرق. وفي كلمات قليلة ولكنها مفهومة تماماً، قلنا في هذا البيان:
“بأن الاتحاد السوفيتي ليس هو الجهة التي يمكن ان تخاطب بلغة التهديد”!
كنا نتصرف بهدوء وحزم ويقظة، وقد حظيت تصريحات نيكسون وتدابيره بانتقاد واسع في العالم بما في ذلك انكلترا وفرنسا والمانيا الغربية (شركاء امريكا في حلف الأطلسي).
– المشكلة الملحة التي كانت تواجهنا هي وضع الجيش الثالث المصري المحاصر.
– ارسلنا رسالة الى نيكسون نطالبه فيها ان يضغط على اسرائيل لحملها على السماح لـ 100 سيارة نقل بالعبور الى الجيش الثالث، واسعافه بالماء والطعام والأدوية. وعلى هذا الاساس، امكن تنظيم لقاء بين ممثلين مصريين واسرائيليين على بعد 101 كيلومتر شرقي القاهرة. ورغم انهم لم يتفقوا على شيء، لكن سمح للسيارات أخيراً بالعبور.
– وفي هذه الأثناء وصل فريقنا العسكري الى القاهرة، للمساهمة في وقف اطلاق النار، وتأمين انسحاب القوات الاسرائيلية. وسنسعى من أجل اشراك قوات من بولندة وبلغاريا في مجموعة قوات الطوارئ الدولية.
– اهدافنا حالياً هي:
– انقاذ الجيش الثالث.
– ارجاع القوات الاسرائيلية الى شرقي القناة.
وذلك تمهيداً لتنفيذ قرار الانسحاب الكامل.
– نحن نرى ان موافقة الولايات المتحدة على قرارات مجلس الأمن الأخيرة مهمة. فالقرار 242 واضح بالنسبة لنا ولكم، وجوهره الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة. وبالملموس، يريدون استثناء شرم الشيخ وغزة والقدس والجولان.
– ثمة من يقول ان مصر لا تمانع من وضع شرم الشيخ وغزة تحت اشراف الأمم المتحدة، ولكنهم لا يتحدثون بشيء عن الجولان.
– هناك فكرة لعقد مؤتمر دولي لتنفيذ قرارات مجلس الأمن، لأن الوضع معقد، ومن الخطأ التصور بأن مجرد صدور القرار يعني تنفيذه.
– في تقديرنا ان اسرائيل لا تملك في الوقت الحاضر امكانية جدية لمواصلة الحرب. وإذن فالصراع مستمر، حيث يسعى الامريكان لافهام المصريين بأن لهم الكلمة النافذة. ولكننا نعمل ايضاً، ونأمل انكم ستعملون ايضاً، في الاتجاه ذاته، وقد ارسلنا مؤخراً رسالة الى الرفيق البكر حول ضرورة وجود قوات عراقية في سوريا وتدعيم التضامن الذي تحقق بين البلدين في مجرى العمليات الحربية” .
(خارج الاجتماع ذكروا: ان صمود سوريا هو أمر هام بالنسبة للعراق، وبعكسه يتعزّز الطوق المضروب حول العراق من الدول الرجعية المجاورة. ومن هنا، بالاضافة الى نقاط اخرى، نجد من الضروري ان يجري تناول قضية وقف اطلاق النار من جانب العراق بأفق اوسع وبالارتباط مع القضايا الأخرى. فالتضامن بين العراق وسوريا سيكون تأثيره بالغاً على مجموع الوضع في المنطقة وعلى القضية المرتبطة بالعدوان الاسرائيلي ونتائجه.
تواصل المذكرة حديث الاجتماع في اللجنة المركزية:
– من المعلومات التي نود اطلاعكم عليها، بحكم الثقة القائمة بين الطرفين، هي ان الاسلحة المضادة للطائرات، التي زودنا بها اصدقاءنا العرب، وأثبتت فعاليتها اثناء المعارك، هي من الاسلحة السرية للغاية، بحيث انها غير موجودة، مثلاً، حتى لدى حلفائنا في الدول الاشتراكية. وقد وصلتنا معلومات بأن الاسرائيليين قد اخذوا نموذجاً منها على الجبهة المصرية، ونحن قلقون جداً. لذا قام بريجنيف بابلاغ سفيرنا في القاهرة بأن يتوجه فوراً الى السادات ويناشده باختيار بضعة ضباط ممن يثق بهم يتسللون الى مواقع الصواريخ القريبة من الخطوط الاسرائيلية، غربي القناة، ويقومون بتدميرها. والمهم، كما طلبنا، هو تدمير اجهزة الاطلاق، رغم ان الصاروخ هو الآخر جهاز سريّ ومعقد.
وتمضي المذكرة في مخاطبة رئيس الجمهورية قائلة:
– لقد ابلغت بمضمون الرسالة الموجهة اليكم بتاريخ 1 تشرين الثاني من قبل القادة السوفيت والمؤمل ان يلحقوها بنص تحريري فيما بعد… وقبل ذلك أرجو ان تسمحوا لي بالتأكيد على بعض ما ورد فيها من نقاط:
أولاً: يشير القادة السوفيت في رسالتهم الى انكم تقومون باعلامهم عن تقديراتكم للوضع في الشرق الأوسط، وأن القادة السوفيت (كما جاء في الرسالة) يعيرون اهمية كبيرة لتبادل مثل هذه الآراء والمعلومات… طبقاً لأحكام معاهدة الصداقة والتعاون بينهم.
ثانيا: استعداد الاتحاد السوفيتي للقيام بكل ما من شأنه ان يساعد على استمرار هذه الاتصالات، وأن تكون منظمة ومستمرة.
ثالثا: وفقاً لرغبة الرئيس (كما جاء في الرسالة) سيزور العراق وفد سوفيتي كبير، للقاء مع السيد الرئيس والقادة العراقيين الآخرين، وذلك في الاسبوع الأخير من تشرين الثاني الجاري.
(كان ذلك اثر الدعوة التي بادرت بتوجيهها الى بونوماريوف في هذا اللقاء – بعد ان اعتذر عن القيام بهذه الزيارة بريجنيف او كوسيجن او بودغورني – بسبب مشاغلهم الكثيرة – وربما ذلك تعبيراً عن موقف مقصود).
رابعاً: وردت في الرسالة تأكيدات متكرّرة حول أهمية التضامن الفعال بين العراق وسوريا، وضرورة تنسيق مواقفهما.
خامساً: يواصل الاتحاد السوفيتي (كما جاء في الرسالة) الامداد العاجل بالامكانات العسكرية، لكل من مصر وسوريا بهدف تعزيز صمودهما.
سادساً: ان الولايات المتحدة، رغم موقفها الرسمي في تأييد قرارات مجلس الأمن، قامت وتقوم بنشاطات ومناورات تستهدف عرقلة اتخاذ تدابير فاعلة ضد أعمال اسرائيل العدوانية. وقد لجأت حتى الى أساليب الابتزاز، واعلان حالة التأهب القصوى لقواتها المسلحة، وخاصة تلك المرابطة في اوربا.
سابعاً: يقوم الاتحاد السوفياتي باتصالات دائمة مع قادة مصر وسوريا والمقاومة الفلسطينية، ويتصرف بالاتفاق معهم على التدابير الملموسة الخاصة بالتسوية السياسية. وأن الاتحاد السوفيتي، على حد الرسالة التي ستوجه اليكم – يعرفون بأن الرفاق العراقيين يعتبرون ضمان الحقوق القومية المشروعة لشعب فلسطين العربي مسألة هامة جداً. كما يأمل السوفيت بأن القادة العراقيين والرئيس شخصياً، الذين قدموا مساعدة كبيرة وفعالة لسوريا ومصر في مجرى العمليات العسكرية الأخيرة، سيؤيدون المساعي الرامية للتوصل الى تسوية سياسية ملائمة وعادلة.
– اما فيما يتعلق بالاتحاد السوفيتي، فهو كما جاء في الرسالة – يبدي اليقظة الضرورية ازاء دسائس اسرائيل وحماتها في الولايات المتحدة، ويثابر على انتهاج سياسة مبدئية لحل أزمة الشرق الأوسط وفقاً لمصالح الدول والشعوب العربية.
ويبدى القادة السوفيت اخيراً استعدادهم للنظر في كل ما يرتئيه الرئيس من آراء وأفكار تتعلق بالأمور والقضايا المثارة في هذه الرسالة.
وتختتم المذكرة بالاشارة الى رئيس الجمهورية “بأن كل هذه الأمور تتطلب تداولاً عاجلاً، ومشاورات منظمة ودائمة لغرض بلوغ الاتفاق والتفاهم”.
علمت اثناء وجودي في موسكو، من الرفاق السوفيت ببعض الوقائع الأخرى، ومنها:
– انهم حثوا القادة المصريين، بعد عبور القناة، على تطوير هجومهم نحو الشرق، بعد ان قاموا برصد وتصوير المواقع الاسرائيلية، والحصول على معلومات تفيد بأن اسرائيل كانت في حالة ارتباك.
– وأنهم على اثر الهزائم التي تعرضت لها اسرائيل في الايام الأولى من الحرب، والايعاز من رئيس الوزراء بنقل القنابل النووية من مخازنها الى ميادين القتال، قام الاتحاد السوفيتي بتوجيه احدى السفن الحاملة للصواريخ النووية باتجاه السواحل المصرية، وكانت هذه الصواريخ مكشوفة للتصوير الجوي المقصود، وكان الهدف من هذا التدبير، هو توجيه انذار معلن لاسرائيل والولايات المتحدة بهدف شل يد اسرائيل عن ارتكاب جريمة استخدام السلاح النووي.
– كما اخبرني بونوماريوف، بأن خسائر اسرائيل في هذه الحرب، كما تشير بعض المصادر، هي 3 – 4 آلاف قتيل، و 6 – 7 آلاف جريح. وأن الهجوم لاستعادة جبل الشيخ كلف اسرائيل نحو 500 قتيل. اما الخسائر في المعدات فغير معروفة بعد، وكذلك الاسرى والمفقودين.
-----------------------------
تسنى لي بعد حرب اكتوبر ان اقوم بزيارة ميدانية لمدينة السويس، وخط بارليف، والتجوال بالسيارة على العديد من المواقع التي استولى عليها الجيش المصري، الى جانب التعرف على موقع “الثغرة” وامتداداتها الخطيرة والواسعة الى الشمال حتى مدينة الاسماعيلية، والى الجنوب حتى قرن البحر الأحمر والى الغرب باتجاه القاهرة نحو 39 كيلومتراً، حيث المسافة بين مدينة السويس والقاهرة هي 140 كيلومتراً على طريق بري معبد. ومن هنا التسمية المعروفة للموقع الذي بلغه الاسرائيليون ودارت فيه المباحثات هو الكيلو 101.
وقد رافقني في هذه الجولة الأخ نوري عبدالرزاق ومقدم في الجيش المصري، كان من بين المحاربين على هذه الجبهة، ومن منتسبي الجيش الثالث الذي تعرض للحصار.
كانت مدينة السويس مدمرة، وقد رحل عنها معظم سكانها. وقد شاهدت في الجهة الثانية من القناة المقابلة للمدينة مواقع ستة مدافع ثقيلة من نوع هاوتزر محصنة ومخفاة عن الأنظار، وفي مواقع متقاربة، وقد دمرها المصريون اثناء القتال واحتلوا مواقعها. ولفت نظري الحجم الهائل لهذه المدافع، وزنتها الثقيلة، وطريقة تركيزها في الأرض، والمصاعد المركبة في جانب كل منها، لانزال القنابل التي يتجاوز وزنها قدرة الانسان على حملها.
كانت السويس طيلة سنوات هدفاً لهذه المدافع الستة، التي كان السكان يحسبونها غابة من المدافع، وذلك بسبّب قدرتها التدميرية الهائلة، ولم يستطع المصريون قبل الوصول الى مواقعها في الايام الأولى من الحرب، ان يصيبوها بمدافعهم الثقيلة عبر القناة.
كان الشعور الذي تكون لديّ اثر تجوالي في المواقع التي احتلها المصريون في سيناء، السد الترابي الهائل، والجسور العائمة، التي ركبت فوق القناة، وأشلاء الدبابات الاسرائيلية، هو شعور الاعجاب ببسالة المقاتلين المصريين، الذين تأكدت بالاستقصاء والمتابعة، انه لم تسجل ولا حادثة تراجع واحدة، ابان الهجوم، ولا حادثة اندحار او جبن من جانب اي من المقاتلين جنوداً او ضباطاً. كانوا مفعمين بالعزيمة والوطنية والبطولة، وبالإيمان بعدالة القضية التي يقاتلون من أجلها. وقد سجلوا آيات من البسالة والتضحية، هي أشبه بالاساطير، وخصوصاً فيما يتعلق بعبور القناة، ونصب الجسور، واقتحام الحاجز الترابي وخط بارليف المحصن، ومواقع المدفعية المنتشرة على طول الضفة الشرقية من القناة.
كما استثارت اعجابي الخطط العسكرية وأسلوب التخفي والمفاجأة، واختيار مواقع الانطلاق واقامة السدود الترابية على الجانب المصري، وعلى ارتفاعات، تكفي لاخفاء تحركات تلك القوات الضخمة التي قامت بعبور القناة.
شرح لي الضابط المصري المرافق امتدادات الأرض الى الشرق، مؤكداً على الامكانيات التي كانت متاحة في الأيام الأولى للتقدم السريع وسط سيناء. كما شرح لي خطة احتلال كل موقع مرّرنا به، وأطلعني على الطريقة البارعة في بنائها ووسائل تحصينها من قبل الاسرائيليين. وقد لفت نظري من وسائل التحصين تغطية المواقع باكداس من اكياس الحجارة، التي اخبرني الضابط المرافق، بأنها طريقة مبتكرة لامتصاص الضغط التي تولده القنابل اثناء انفجارها فوق هذه المواقع او بالقرب منها.
وروى لي قصة محاصرة الجيش الثالث، وثبات المقاتلين المصريين واستعدادهم للموت في سبيل وطنهم، قال:
تطوع جميع الجنود والضباط في الجيش الثالث، عند انقطاع الطعام، بأن يقتسم كل ثلاثة ما هو مخصص لأثنين. ولما بدأ الطعام ينفد اتفقوا على أن يكتفي كل ثلاثة بما هو مخصص لفرد واحد. وكانوا رغم ذلك في حالة حماس منقطع النظير يهللون ويكبرون ليلاً ونهاراً، ويتوعدون العدو بالقتال والعقاب.
وأضاف:
بلغت الأزمة ذروتها، بسبب شحة الماء، ولم يبق لنا خيار غير التوجه الى الجنوب نحو (عيون موسى)، التي تبعد عن مواقعنا نحو ثلاثين كيلومتراً. وكانت بيد العدو. وللاستيلاء على عيون الماء هذه تطوع الجميع. فانتقينا منهم بضعة آلاف وتوجهنا للهجوم والاستيلاء عليها.
يقول:
كان من نصيبي ان اقود احدى هذه الكتائب. وكانت ملحمة دموية، فقدنا فيها اكثر من 800 شهيد. ولكننا نجحنا في تحقيق هدفنا ودحر العدو، وغامرنا بفقد هذا العدد الكبير من المقاتلين من أجل توفير الماء للجيش الثالث كلّه.
وصف لي هذه المعركة ووقائعها المثيرة التي كانت اشبه باسطورة. كما اكد لي على حماسة المقاتلين بقوله: لا تسمع إلا كلمة “الله اكبر”، يردّدها الآلاف من الجنود. ولم يكن هناك من بدا متردداً او عابئاً بالموت.
اقترح عليّ التوجه بالسيارة لزيارة هذه المنطقة. فزرناها، وعاد يصف لي على الأرض وقائع هذه المعركة البطولية. كان هذا الضابط نموذجاً للآلاف وعشرات الآلاف من أمثاله، من المقاتلين المصريين، وقد استثار اعجابي ببراعته العسكرية، ولطفه وتواضعه. فكان لا ينسب لنفسه مأثرة ما، وانما يتحدث عن غيره. ولم أعلم بأنه كان قائداً او مشاركاً في الهجوم على (عيون موسى) ومن قبلها على المواقع الأخرى، إلا بعد عودتنا من هذه الرحلة وتساؤلي منه عن دوره ومكانه في هذه المعارك. فكان يوجز ويجيب على استحياء ويركز على دور وبطولة الجنود.
اقنعتني هذه الجولة، بقدرة المقاتل العربي على اجتراح المعجزات، عندما يكون مؤمناً بوطنه واخلاص قيادته السياسية. وبالاحباط والتداعي النفسي والقتالي، عندما تكون هذه القيادة السياسية من نمط خادع متردّد او مساوم.. كما كان انور السادات. وهذا ما لمسته من حديث الناس في السويس والقاهرة، ومن مشاعر الخيبة والمرارة التي كانت تغشي نفس مرافقي الضابط المصري الشجاع.
كان مقاتلاً وسياسياً، لأنه ونحن في طريق العودة، كان يعبر عن أساه وأسى الشعب المصري.
قال لي هامساً وبكلمات متحفظة، ولكنها بليغة الدلالة:
” كان انتصارنا العسكري أكيداً، ولكن ضيّعته علينا السياسة”!
مصدر 1
مصدر 2