اكتشف أولاً... اضرب أولاً... اقتل أولاً... كثيرا ما يستعمل الأمريكان هذه الكلمات للتعبير عن نظرتهم "الحديثة" للقتال الجوي، اذ عادة ما يراهنون على الشبحية أو ما يعبر عنه تقنيا بخاصية قابلية الملاحظة المنخفضة Low observability لجعل مقاتلاتهم خفية بالنسبة لوسائل كشف العدو و هو ما يعطيها الفرصة للضرب أولاً و بالتالي يعطيها الأسبقية لتدمير العدو قبل أن يتمكن أصلا من اكتشافها و تحديد موقعها بدقة.
و انطلاقا من هذه العقيدة القتالية، انخرطت أمريكا في سلسلة من البحوثات العلمية و التطويرات و العمل الشاق الذي تواصل على امتداد عقود للدفع بتقنية الشبحية إلى أقصى حدود ممكنة، و كان نتاج هذا التوجه اصدار مقاتلات و قاذفات لعلها الأحدث على مستوى العالم و هي الأف 22 و الأف 35 إضافة إلى القاذفة B-2.
طبعا سعى العديد من منتجي السلاح في العالم إلى استحداث التقنيات و الحلول الكفيلة بالتغلب على تقنية الشبحية و تطوير وسائل استشعار بإمكانها كشف الأهداف التي تتمتع بخاصية Low observability . و لعل أبرز الحلول المعتمدة لهذا الغرض هي الرادارات ذات الترددات المنخفضة Low band radar التي يكون ترددها عادة أقل من 1 GHz و يتراوح طول الموجة التي تصدرها من بعض عشرات السنتيمترات حتى 10 متر،و هي الرادارات العاملة في حيز VHF و UHF ، فالمقاتلات الشبحية تعتبر خفية بالنسبة للرادارات العاملة في حيز X-band . تستعمل هذه الرادارات (VHF و UHF) خاصة في محطات الرصد الأرضية و في السفن، لكنها تعمل أيضا على منصات جوية مثل طائرة الأواكس E-2 D.
لكن يبقى العائق الكبير بالنسبة لهذا النوع من الرادارات هو قدرته المحدودة على تحديد موقع الأهداف ذات البصمة الرادارية المخفضة بكل دقة، فهذه الرادارات لا تعطي سوى فكرة عامة حول مكان تواجد الأهداف الشبحية مما يجعلها تفتقر إلى الدقة اللازمة لتوجيه سلاح ما لضرب هذه الأهداف.
أحد الحلول الأخرى هو نظام البحث عن الأشعة تحت الحمراء و تعقبها Infra Red Search and Truck IRST ، و كما يظهر من التسمية يعمل هذا النظام على البحث عن الانبعاثات الحرارية الصادرة من الأهداف الشبحية و تعقبها، إلا أن خاصية Low observability لا تكتفي بتقليل البصمة الرادارية فقط بل يدخل فيها العمل على تقليص البصمة الحرارية عبر تقليل الانبعاثات من فوهة المحرك و استخدام مواد لصناعة بدن المقاتلة تحافظ على درجة حرارة منخفضة نسبيا عندا الاحتكاك بالهواء. كل هذا جعل أجهزة ال IRST تتمتع بمدايات متواضعة أثناء تعاملها مع أهداف شبحية، فمثلا يمكن لنظام OLS-35 المركب على مقاتلة Su-35 كشف أهداف شبحية ذات بصمة حرارية مخفَّضة من مدى لا يتجاوز 50 كم كحد اقصى. و شأنه شأن رادارات VHF و UHF يفتقد ال IRST إلى الدقة الكافية لتتبع الأهداف الشبحية و الإغلاق عليها.
و هكذا فإن الوسيلتين الآنف ذكرهما قادرتان فعلا على كشف الأهداف الشبحية لكنهما تشكوان من قصور هام و هو عدم القدرة على الإغلاق عليها و توجيه أسلحة ضدها.
من جهة أخرى هناك جملة من الحلول البديلة و التي تعتمد مقاربة أخرى مختلفة تماما مع ما تم ذكره. إذ لا تسعى هذه المقاربة بالضرورة إلى تطوير وسائل قادرة على كشف و استهداف المقاتلات الشبحية الأمريكية، بل تعمل على جعل هذه المقاتلات غير مفيدة و غير ذات جدوى في ساحة المعركة و ذلك عن طريق الاستفادة من بعض نقاط ضعف الأف 22 و الأف 35 .
و لشرح هذه المقاربة بأمثلة عملية سنسلط الضوء على النموذج الصيني.
تشهد منطقة آسيا المحيط الهادي توترا مستمرا خاصة في بحر الصين الجنوبي مما ينذر لمواجهة جوية محتملة بين أمريكا و الصين. تقوم العقيدة الصينية على استراتيجية الحرمان أو ما يعرف بحظر الدخول و حظر التحليق الجوي. و لتحقيق هذه النظرية سعت الصين للاستفادة من عدم قدرة المقاتلات الشبحية على حمل خزانات وقود خارجية مما يؤثر كثيرا في مداها القتالي. إذ يبلغ المدى القتالي Combat radius للأف 22 حوالي 500 ميل و ذلك بالاعتماد على الخزانات الداخلية فقط، أما الأف 35 فيبلغ مداها القتالي حوالي 875 ميل بحمولة قتال جو-جو أي صاروخين AIM-120D و صاروخين AIM-9X أو عدد 4 صواريخ AIM-120D. لذلك سعت الصين أولاً إلى دفع حاملات الطائرات الأميركية بعيدا أكثر ما يمكن عن سواحلها، و لعل أبرز ما طورته لهذا الغرض هو الصاروخ البالستي المضاد للسفن "قاتل حاملات الطائرات"DF-21 .
يبلغ مدى الصاروخ DF-21 حوالي 1500 كم بالنسبة للنسخة DF-21D المضادة للسفن، و يعتمد على التوجيه بالقصور الذاتي مع توجيه راداري نشط في المرحلة الأخيرة Terminal active radar guidance . تبلغ سرعة هذا الصاروخ 10 ماخ و يمكنه حمل رأس نووية واحدة أو عدد 5 إلى 6 رؤوس نووية من نوع MIRV بقوة قدرتها 200 إلى 300 Kt و قد تصل حتى 500 Kt . يتم اطلاق هذا الصورة من منصات أرضية متحركة و لا يختلف اثنان أن رأسه الحربية قادرة على تدمير حاملة طائرات تدميرا كاملا.
في المقابل عملت البحرية الأمريكية على تطوير قدراتها فيما يخص الدفاع الجوي ضد الصواريخ البالستية Ballistic missile defense BMD عبر تشغيل صواريخ SM-3 ، إلا أن المنظرين العسكريين الأمريكيين يعتبرون ابقاء حاملات الطائرات الأمريكية خارج دائرة التهديد الصاروخي الصيني أمرا حيويا لا مجال لمناقشته.
و بهذه تكون الصين قد نجحت في دفع الحاملات الأمريكية بعيدا عن سواحلها، مما يجعل طائرات التزود بالوقود الأمريكية مجبرة على مرافقة مقاتلات الأف 35 و الأف 22 داخل منطقة النزاع لحل مشكلة المدى.
طبعا تعتبر طائرات التزود بالوقود هدفا حيويا لكن هذه المرة يعتبر هذا الهدف مكشوفا تماما أمام المقاتلات و الأواكس الصينية، يمكن تتبعه و من ثم استهدافه بسهولة مقارنة بالأهداف الشبحية.
و لاستهداف طائرات التزود بالوقود الأمريكية التي قد تركن بعيدا نسبيا في ساحة المعركة، سعت الصين لتطوير صاروخ جو-جو أكبر مدى، و قد وجدت ضالتها في صاروخ PL-15 .
طُوِّر صاروخ PL-15 لتعويض صاروخ ال BVR AMRAAM PL-12 البالغ مداه تقريبا 100 كم. يتمتع صاروخ PL-15 بمدى أكبر يتراوح بين 150 و 200 كم و ذلك نتيجة استخدام محرك نفاث على غرار صاروخ Meteor الأوروبي مثلا، كما تم تحسين الباحث الراداري النشط ليصبح أكثر مقاومة التشويش و الإجراءات المضادة . و هكذا يمكن لصاروخ PL-15 استهداف طائرات التزود بالوقود من مدى يزيد عن 150 كم مع فرصة أفضل لإصابة الهدف و الصمود أمام كل اجراءت الحرب الإلكترونية خاصة و أن هدف بحجم طائرة تزود بالوقود لا يتمتع بأي قدرة تُذْكر على المناورة و الإفلات من الصواريخ .
وهكذا بمجرد اسقاط أو اعطاب طائرة التزود بالوقود الأمريكية تصبح مقاتلات الأف 22 و الأف 35 مجبرة على الانسحاب و العودة إلى قواعدها، هذا في أوحسن الأحوال، أو أن الطيار يجد نفسه مجبرا على الالقاء بنفسه وسط المحيط بالوقود المتوفر لدي قد لا يكفيه للعودة إلى حاملة الطائرات.
إذن يتضح لنا أن للصين قدرة حقيقية على النجاح في إرساء منطقة حرمان تجعلها في مأمن من خطر المقاتلات الشبحية الأمريكية.
إن هذه المقاربة الصينية تنم و لا شك عن ذكاء كبير، إذ تترك التركيز على نقاط قوة المقاتلات الشبحية و تعمد إلى العمل على الاستفادة من نقاط ضعفها التي يمكن تلخيصها في محدودية المدى القتالي نتيجة عدم القدرة على استعمال خزانات وقود خارجية، و ضعف حمولتها من الأسلحة نتيجة اعتمادها فقط على نقاط التعليق الداخلية للحفاظ على خاصيتها الشبحية.
و مما يجعل نظرية الحرمان الصينية شديدة الخطورة على سلاح الجو الأمريكي هو طبيعة مسرح العمليات المفتوحة التي يتميز بها بحر الصين الجنوبي و منطقة آسيا المحيط الهادي عموما. أيضا لا يجب أن ننسى تطوير الصين لمقاتلتها الشبحية J-20 و التي ستكون أكثر قدرة من غيرها على التسلل و الاقتراب أكثر فأكثر من طائرات التزود بالوقود الأمريكية، و بالتالي أكثر قدرة على استهدافها.
إن بقاء الأمور على ما هي عليه الآن قد يضع المخططين العسكريين الأمريكيين في موقف محرج في حال نشوب مواجهة في بحر الصين الجنوبي، فهل ستجد البحرية الأمريكية نفسها مجبرة على اعطاء منظومتها الدفاعية Aegis و صواريخها SM-3 قدرا أكبر من الثقة و بالتالي المغامرة باقحام حاملات طائراتها داخل مجال تغطية قاتل حاملات الطائرات DF-21D و تخطي عائق المدى القتالي ؟ أم أنها ستعمل على تزويد مقاتلاتها الشبحية، بطريقة ما، بخزانات وقود خارجية تجعلها أكثر قدرة على الاقتراب من المياه الصينية دون الحاجة إلى إعادة التزود بالوقود جوا؟
المصادر
1
2
3
4
5