ظلت قوة الصواريخ الإستراتيجية للمملكة العربية السعودية محجوبة خلف الكواليس لمدة تزيد عن العقدين يلفها الغموض. و قد حرصت المملكة على أن تتسم "يدها الطولى" بالسرية المطلقة إلى أن قامت سنة 2014 خلال العرض العسكري الذي أقيم في اختتام مناورات "سيف عبد الله" , و في سابقة هي الأولى من نوعها, باستعراض صاروخ بالستي صيني المنشأ من نوع DF-3 و هو ما اعتبره الملاحظون رسالة غاضبة إلى واشنطن و طهران.
تعود قصة هذا الصاروخ لأواخر الثمانينات و تحديدا سنة 1988, حيث عقدت المملكة صفقة سرية مع الصين حصلت بموجبها على عدد من صواريخ DF-3, و لعل أبرز ما ما في هذه الصفقة أنها تمت دون علم الولايات المتحدة الأمريكية.
صاروخ DF-3 هو صاروخ بالستي صيني متوسط المدى MRBM يبلغ مداه 2500 كم, يعمل بالوقود السائل و ذو مرحلة أحادية Single stage. يبقى عدد الصواريخ التي حصلت عليها المملكة عبر هذه الصفقة غير معلن لكن على الأرجح يبلغ بضع عشرات تم توزيعها حسب ما هو معلن على قاعدتين: الأولى في الجفر El-Joffer الواقعة شمال غرب الرياض و الثانية في السليل Sulayyil جنوب غرب الرياض. كما يتوقع محللون مختصون وجود قاعدة ثالثة في غير معلنة في الروضة Rawdah الواقعة على بعد 280 كم تقريبا غرب قاعدة السليل, و أخرى رابعة في ممنطقة الوضاح Al-Wathah.
قاعدة السليل
أثارت هذه الصفقة حفيظة الأمريكان بشدة لأنها مثلت خرقا لمعاهدة MTCR (معاهدة تلتزم الدول الموقعة عليها بعدم تصدير الصواريخ التي تصل حمولتها إلى 500 كغ و يتجاوز مداها 300 كم). فبالرغم من أن الصين ليست من الدول الموقعة على هذه المعاهدة إلا أنها تعتبر "ملزمة" ضمنيا في نظر الولايات المتحدة على احترام البنود الواردة فيها, و ليس أدل على ذلك من العقوبات التي فرضها الأمريكان على الصين و باكستان بسبب صفقة عقدت سنة 1992 حصلت بموجبها باكستان على عدد 34 صاروخ DF-11 البالغ مداه 300 كم.
لكن و الأخطر من هذا كله أن هذه الصفقة تمت دون علم الأمريكان خاصة وأن صواريخ DF-3 قادرة على حمل رؤوس نووية, و بالتالي لم تتح الفرصة للمراقبين الأمريكان للتثبت من أن المملكة حصلت على نسخة تصديرية غير قادرة على حمل رؤوس نووية أم لا. و حتى مع المزاعم الصينية التي تفيد أن الصواريخ التي باعتها للملكة تم تحويرها بشكل تصبح غير قادرة على حمل سلاح نووي , فإن الولايات المتحدة بقيت غير مرتاحة لهذه الخطوة خاصة و أنها تعتبر خطوة أحادية الجانب تحمل في طياتها دلالات جيوسياسية عميقة.
بعد مرور عقدين و نصف تقريبا عن هذه الصفقة, و تحديدا يوم 29 يناير سنة 2014, أعلنت جريدة Newsweek الأمريكية عن صفقة سرية جديدة تمت بين المملكة العربية السعودية و جمهورية الصين الشعبية سنة 2007, حصلت بموجبها المملكة على عدد من صواريخ DF-21 سعيا منها لتجديد و تطوير ترسانتها من الصواريخ البالستية DF-3 المتقادمة.
تتوفر عائلة DF-21 على أربع نسخ مختلفة و هي:
DF-21 و هي النسخة الأصلية و DF-21A , هذان الصاروخان قادران على حمل رؤوس نووية, بمدى 1750 كم تقريبا و حمولة تصل إلى 600 كغ تتمثل في رأس نووي واحد بقوة 500 كيلوطن مع هامش خطأ (Circular Error Probable (CEP يقدر ب 300 إلى 400 متر.
DF-21C يحمل رأسا حربيا تقليديا, يبلغ مداه 1700 كم و يتميز بدقة أكبر إذ يبلغ هامش الخطأ ما بين 10 و 50 متر تقريبا, و ذلك لإستعماله نظام توجيه في المرحلة الأخيرة Terminal guidance .
DF-21D و هو صاروخ بالستي مضاد للسفن (Anti-ship Ballistic Missile (ASBM يبلغ مداه أكثر من 1500 كم و يمكنه حمل رأس تقليدي أو نووي.
الجدير بالذكر أن كل صواريخ عائلة DF-21 تستعمل الوقود الصلب و يتم اطلاقها من خلال منصات متحركة.
لم يعط التقرير الذي نشرته صحيفة Newsweek , المعروفة بقربها من الاستخبارات الأمريكية, أي معلومات عن عدد الصواريخ المتعاقد عليها و لا عن الفئة التي شملتها الصفقة, لكن تصريح الصينيين بأن صواريخ DF-21 التي باعتها للمملكة تم تعديلها بحيث تصبح غير قادرة على حمل رؤوس نووية, يمكننا أن نستنتج من خلاله أن الصواريخ التي حصلت عليها المملكة في هذه الصفقة هي على الأرجح صواريخ DF-21 أو DF-21A .
من جهة أخرى أكد التقرير على أن هذه المرة قد تمت الصفقة بعلم الولايات المتحدة الأمريكية و مباركتها و ذلك بعد أن تأكدت في كنف السرية عبر وكالة الاستخبارات المركزية CIA من أن هذه الصواريخ غير قادرة فعلا على حمل رؤوس نووية.
و على الرغم من أن صواريخ DF-21 تتمتع بمدى أقل من نظيرتها DF-3 فإن هذه الصفقة تعتبر ذاتأهمية كبرى و ذلك للأسباب التالية:
أولا حتى مع تراجع المدى مقارنة بصواريخ DF-3 فإن مدى صواريخ DF-21 يبقى مؤثرا من الناحية العملياتية, إذ يمكن المملكة من الوصول إلى أعدائها و الأهداف المحتملة و هو ما تبينه الصورة المدرجة أسفله.
مدى صاروخ DF-21 انطلاقا من القاعدتين المعلنتين رسميا, نلاحظ وجود طهران داخل هذا المدى
ثانيا, يتوفر صاروخ DF-21 مقارنة ب DF-3 على عدة نقاط تفوق تتضح من خلالها أهمية هذه الصفقة. فكما أشرنا آنفا تستعمل صواريخ DF-21 الوقود الصلب مما يجعل عمرها الافتراضي أطول و كلفة صيانتها أقل مقارنة ب صواريخ DF-3 التي تستعمل الوقود السائل. أيضا يمكن استعمال الوقود الصلب من تقليص المدة الزمنية اللازمة لاعداد الصاروخ حتى يكون جاهزا للإطلاق.
إضافة إلى ذلك تطلق صواريخ DF-21 من منصات متحركة و هو ما يعزز بقائيتها Survivability مقارنة بصواريخ DF-3 التي تطلق من منصات محدودة الحركة.
و لعل الأهم من هذا كله هو التحسن الكبير الذي توفره صواريخ DF-21 من حيث الدقة. إذ يبلغ هامش خطئها كما ذكرنا سابقا من 300 إلى 400 متر مقارنة ب 1000 متر بالنسبة لصواريخ DF-3. و تبرز أهمية هذا التطور من خلال ما كتبه الفريق أول ركن المتقاعد صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن سلطان الذي تولى قيادة القوات العربية المشاركة في عملية "عاصفة الصحراء" في مذكراته من أن الملك فهد رحمه الله منع اطلاق صواريخ DF-3A كرد على صواريخ سكود العراقية التي استهدفت تراب المملكة نظرا لافتقارها للدقة اللازمة و الاحتمال الكبير لتسببها في خسائر جانبية في صفوف المدنيين.
و بالتالي صارت قوة الصواريخ الاستراتيجية السعودية تمتلك سلاحا أكثر دقة يمكن استخدامه لضرب أهداف عالية القيمة مع الحفاظ على مدى فعال يتيح للمملكة الوصول إلى أعدائها.
و مع ذلك يؤكد محللون مختصون أن صفقة صواريخ DF-21 ليس لها سوى تأثير محدود على ميزان القوى في المنطقة ما لم تقم المملكة بتحوير الصواريخ التي حصلت عليها لتصبح قادرة على حمل سلاح نووي.
من جهة أخرى إذا أضفنا بعض الصفقات التي تعقدها المملكة مع الصين كصفقة الطائرات من دون طيار Wing loong المبرمة في أفريل 2014, و صفقة الهاوتزر ذاتي الحركة PLZ-45 عيار 155 مم التي حصلت المملكة بموجبها على ثلاث كتائب أي ما يعادل 81 قطعة هاوتزر بقيمة 200 مليون دولار و ذلك سنة 2008, إلى صفقة الصواريخ البالستية, فإننا نرى أن المملكة تحتفظ و لو بخيط رفيع يربطها بالصين في المجال الدفاعي و هو ما يمكن رده إلى تنامي العلاقات بين البلدين على مستوى الطاقة, و إلى سعي المملكة الدؤوب للإبقاء على حلول بديلة أخرى في مجال التسلح. فالكل يرى أن العلاقات السعودية الأمريكية عرفت توترا كبيرا في الأعوام الأخيرة نتيجة تباين وجهات النظر بين الطرفين فيما يخص الملف الإيراني و الملف السوري, مما يجعل المملكة في حاجة إلى مزيد توطيد العلاقات مع أطراف فاعلين آخرين كالصين مثلا حتى تضمن أكثر استقلالية في اتخاذ قراراتها.
إن العلاقات الوطيدة بين المملكة العربية السعودية و الصين في مجال الطاقة (سنة 2009 مثلا تجاوزت الصين الولايات المتحدة الأمريكية لتكون بذلك أكبر المستورد رقم واحد للنفط السعودي) يمكن استثمارها في المجال العسكري لتحقيق مزيد من التعاون عبر تدعيم ترسانة المملكة بصواريخ أكثر دقة و لما لا عبر الاستفادة من الخبرات الصينية لإرساء مشروع صاروخي محلي يراه العديد متطلبا أساسيا أمام قدرات إيران الصاروخية المتنامية.
المصادر
1
2
3
4
[url=http://origin.www.uscc.gov/sites/default/files/Research/Staff Report_China's Reported Ballistic Missile Sale to Saudi Arabia_0.pdf]5[/url]