واشنطن.. ماذا تريد من نيودلهي؟
في الآونة الأخيرة كانت نيودلهي محطة للعديد من المسؤولين الأميركيين رفيعي المستوى مثل وزير الخارجية ريكس تيلرسون، ووزير الدفاع جيمس ماتيس. حدث هذا بعيد إعلان الرئيس دونالد ترامب لسياساته الخاصة بأفغانستان ومنطقة جنوب آسيا والقائمة تحديداً على تأمين الاستقرار وتصفية الإرهاب في الأولى، والتصدي للصين لجهة محاولاتها التمدد في الثانية من خلال مبادرة طريق الحرير التي أطلقها الرئيس الصيني شي جينبينغ في 2013 تحت اسم «حزام واحد وطريق واحد»، وهدفها المعلن هو ربط الصين بأوروبا براً وبحراً من خلال استثمارات صينية ضخمة، علما بأن نيودلهي وواشنطن رفضتا المبادرة ضمنياً طبقا للبيان المشترك، الذي صدر بعد لقاء الرئيس ترامب برئيس الحكومة الهندية ناريندرا مودي في البيت الأبيض في يونيو الماضي.
ربط المراقبون بين الحدثين، فقالوا إن الولايات المتحدة تسعى من خلال توددها إلى الهند أن تقنع الأخيرة بممارسة دور عسكري في المستنقع الأفغاني خصوصاً بعدما اقتنعت واشنطن بأن الرهان على باكستان في هذا المجال لم يجد نفعاً بدليل ما قالته السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة «نيكي هايلي» في أواخر أكتوبر المنصرم من أنّ الهند بمقدورها مساعدة الولايات المتحدة في مراقبة باكستان لأن «بلادها لن تتسامح مع أي حكومة تدعم الإرهاب» على حد قولها. هذا ناهيك عما قاله «تيلرسون» قبل بدء زيارته لجنوب آسيا في أكتوبر الماضي من أن واشنطن تعقد الآمال على الهند لجهة مواجهة الصين في المحيطين الهندي والهادي، وأن العلاقات مع الهند ستمثل أولوية لبلاده على مدى السنوات المائة القادمة.
وبقدر ما أزعجت هذه التصريحات والمواقف الأميركية إسلام آباد الحليف السابق لواشنطن في حقبة الحرب الباردة، فإنها أشاعت الفرح والارتياح لدى المسؤولين الهنود خصوصاً بعدما صارت الولايات المتحدة مصدراً رئيسياً من مصادر تسليح الجيش الهندي، وشريكاً مهماً ضمن كبار الشركاء التجاريين للهند، ومزودة للهند لأول مرة بالنفط الأميركي، دعك من حقيقة أن الولايات المتحدة أضحت سوقاً لاستيعاب الآلاف من العقول الهندية المتخصصة في علوم البرمجيات وتقنية المعلومات (في 2016 على سبيل المثال استقبلت الولايات المتحدة 127 ألف شاب هندي متخصص في هذا المجال بعد أن منحتهم تأشيرات الإقامة والعمل الرسمية).
على أن الهند، رغم ارتياحها من المواقف الأميركية المؤيدة لها والمشجعة لأدوارها الإقليمية، والحذرة في نفس الوقت من ممارسات وسياسات جارتها الباكستانية اللدودة، ورغم إلحاح حكومة كابول بتزويدها بالأسلحة الهندية والخبراء العسكريين الهنود، فإنها أذكى من أن تُساق إلى حيثما لا تريد، خصوصاً إلى أفغانستان التي لم تتورط فيها لا قبل حرب «الجهاد» ولا بعدها، حيث من المعروف أن الهند كانت، زمن رئيسة حكومتها الأسبق السيدة أنديرا غاندي، من أشد المعارضين للتدخل في الشؤون الأفغانية الداخلية، بل من أكثر الدول تحذيراً من عواقب مد المجاهدين الأفغان بالسلاح والعتاد بدعوى أن تداعيات ذلك لا يمكن السيطرة عليها لاحقاً، وهو ما ثبت صحته. وبالرغم من عدم وجود دلائل على أن إدارة الرئيس ترامب طلبت رسمياً من نيودلهي إرسال قوات هندية إلى أفغانستان، فإن وزيرة الدفاع الهندية «نيرمالا سيتارامان» سبقت أي تكهنات ووضعت حدا لما قد تلوكه وسائل الإعلام بإعلانها أمام نظيرها الأميركي «جيمس ماتيس» بأنه «لن تكون هناك قوات هندية على أراضي أفغانستان».
صحيح أن نيودلهي اليوم منخرطة في أفغانستان برضا وعلم حكومتها الشرعية، لكن دورها هناك لا يتجاوز تقديم المساعدات المدنية والفنية والتقنية، وتنفيذ مشاريع بنية تحتية بقيمة ثلاثة مليارات دولار، وتأهيل قوات الأمن والدرك بهدف انتشال البلاد من وضعها البائس ووضعها على الطريق الصحيح الذي يساعد على اجتثاث عوامل ومسببات التطرف والإرهاب. وبعبارة أخرى، هي مكتفية بما تقدمه للأفغان وغير مستعدة للتدخل في بلادهم عسكرياً، حتى لو كان في ذلك انتصار رمزي لها على غريمتها الباكستانية، التي تنافسها في الحصول على موطئ قدم ثابت في هذا البلد سيء الحظ.
ولعل أحد أسباب الحذر الهندي هو ما صرح به أحد قادة الجيش الهندي المتقاعدين من أن «كل أجنبي قاتل الأفغان تحول إلى عدو دائم لهم»، والهند بالتأكيد لا تريد أن تنعت بهذا النعت. أضف إلى ذلك أن الهند لم يسبق لها تاريخياً أن أرسلت قواتها للقتال خارج حدود شبه القارة الهندية إلا في حالة سريلانكا التي كانت لها ظروفها الخاصة المتأتية مما كان لمتمرديها التاميل من روابط إثنية مع سكان ولاية تاميل نادو الهندية الجنوبية. وقد دفعت الهند ثمن ذلك التدخل غالياً. وبطبيعة الحال هناك أسباب أخرى للحذر الهندي من تواجد قوات لها على الأرض الأفغانية من بينها صعوبة إمداد هذه القوات بما تحتاجه بسبب وضع أفغانستان الجغرافي كدولة مغلقة لا تطل على السواحل، ولا يمكن الوصول إليها بسهولة إلا عبر الأراضي الباكستانية.
أما بالنسبة للرغبات الأميركية حول دور للهند في التصدي للطموحات الصينية (أو حتى الروسية)، فيمكن القول إن نيودلهي مترددة في القيام بمثل هذا الدور، لأنه يتناقض مع سياساتها الخارجية والدفاعية المعلنة والقائمة على إيجاد نوع من التوازن في العلاقات مع القوى العظمى بدليل أنها في الوقت الذي ترتبط فيه مع الولايات المتحدة بعلاقات استراتيجية وثيقة، فإن لها علاقات عسكرية وثيقة مع روسيا الاتحادية، وعلاقات اقتصادية وبحرية متنامية مع اليابان، وعلاقات علمية وتقنية مع الصين، وعلاقات تجارية واسعة مع دول الاتحاد الأوروبي.
مصدر