خلال المؤتمر الصحفي السنوي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم الخميس الماضي، سأله صحفي مقرب من الكرملين، عما إذا كان التوتر المتصاعد في العلاقات مع الولايات المتحدة، وانهيار معاهدات الحد من انتشار الأسلحة، يمكن أن يجر روسيا إلى سباق تسلح غير قابل للاستدامة مع أميركا، فرد عليه بقوله: «سنعمل على ضمان أمننا من دون الانخراط في سباق تسلح».
وهذه إجابة تبسيطية من سياسي بدأ يدخل نوعاً ما في أجواء الحملات الانتخابية (يتجه بوتين لإعادة انتخابه في مارس القادم من دون ظهور منافس مؤثر). والسؤال الأكثر وضوحاً، الذي كان ينبغي طرحه هو: كيف، يمكن لروسيا بميزانية عسكرية صغيرة نسبياً، ومتناقصة، تبلغ 2.77 تريليون روبل (ما يعادل 42.3 مليار دولار) لعام 2018، بانخفاض من نحو 3.05 تريليون روبل هذا العام، أن تستمر منافساً عسكرياً رهيباً للولايات المتحدة، بميزانيتها الدفاعية الهائلة والمتزايدة -ما يقرب من 692.1 مليار دولار في عام 2018، بزيادة من 583 مليار دولار في هذا العام؟
والتوازن التقريبي في إمكانات الردع النووي لدى الدولتين، يشكل في حد ذاته سبباً، يدعوهما لتجنب أي مواجهة مباشرة. ولكن إذا ما نحينا هذه الجزئية جانباً، سنجد أن بوتين يفهم طبيعة التحديات العسكرية المعاصرة، بشكل أفضل من الرئيس الأميركي دونالد ترامب والمشرعين الأميركيين، وأن النظام الروسي، قد يكون أكثر فاعلية من نظيره الأميركي عندما يتعلق الأمر بأسلوب تخصيص النفقات العسكرية.
لاحظوا أن روسيا باتت الآن مساوية تقريباً للولايات المتحدة كمركز للقوة والنفوذ في الشرق الأوسط، حيث ساعد جيشها تواً الرئيس السوري بشار الأسد، بفعالية، على كسب الحرب الأهلية التي كانت الولايات المتحدة، تساعد فيها الطرف الآخر. في الوقت نفسه نجد أن أرقام الإنفاق العسكري الروسي غير دقيقة، وأن الدولة في الحقيقة أكثر عسكرة مما يوحي إنفاقها الدفاعي، وهو نوع من الإنفاق، لا يمكن إدامته إلا على حساب مستقبلها.
أما فيما يتعلق بالولايات المتحدة فإننا نجد أن ارتفاع الإنفاق العسكري في عهد إدارة ترامب، الذي يدعو بالضرورة إلى إزالة الحد الأعلى الحالي المفروض عليه، يمثل استجابة مشكوكاً فيها -وربما يكون قد عفا عليها الزمن- لتحديات الأمن العالمي الآخذ في التدهور.
وبصرف النظر عن تكلفة الحفاظ على وضعها كأقوى قوة عسكرية في العالم، فإننا نجد أن الولايات المتحدة، وفقاً لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، قد أنفقت ما لا يقل عن تريليونيْ دولار على حروبها منذ عام 2001 (والتكاليف تقترب من 4 تريليونات إذا ما أخذنا في الاعتبار جوانب الإنفاق الأخرى الأقل شفافية). وتؤكد الإحصاءات أن الصراع الذي تخوضه أميركا في أفغانستان قد كلفها ما لا يقل عن 840 مليار دولار -أي أكثر من أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي التراكمي لأفغانستان منذ عام 2001.
ولكن حروب اليوم لا تحتاج إلى أموال طائلة، فالخصوم غالباً ما يكونون عبارة عن قوات صغيرة، خفيفة الحركة، لا تتوافر لها موارد جيدة، مثل الدول القومية، ولا يحتاج قتالها سوى إلى مزيج من المعرفة بالظروف المحلية، وقوة غاشمة لا تستخدم إلا في نقاط حاسمة في الصراع، وقدرة على نقل المخاطر إلى صفوف المقاتلين غير النظاميين.
وربما لهذا السبب، واصلت روسيا خفض ميزانيتها الدفاعية خلال مراحل مشاركتها كافة في الحرب السورية. وقد قدر حزب «يابلوكو» (الحزب الديمقراطي الروسي المتحد) المعارض، في وقت سابق من هذا العام، تكلفة العمليات الروسية في سوريا بنحو 140.4 مليار روبل (2.4 مليار دولار بأسعار الصرف الحالية)، منذ سبتمبر 2015، أي حوالي 4 في المئة فقط من ما خصصته الولايات المتحدة لعمليات الطوارئ في الخارج في عام 2017 وحده -وكانت النتيجة التي حققتها روسيا في هذه الحرب جيدة ووفق ما كانت تتوقعه تماماً.
أما الولايات المتحدة، فتقوم بضخ الأموال الطائلة، في عمليات قتالية غير ذات كفاءة نسبياً، وفي التحضير لنوع من الحروب واسعة النطاق، التي لا يحتمل أن تحدث، بسبب الترسانات النووية القائمة، والانتشار النووي غير المرخص به.
وميزانية الدفاع الأميركية تغذي، بطبيعة الحال، صناعة محلية كبيرة وقوية، حتى أن مشاركة الولايات المتحدة غير المباشرة في صراع ما في أي منطقة في العالم، ترفع أسعار الأسهم لمتعهدي الدفاع الرئيسيين، كما أظهرت الأبحاث. أما في روسيا، فالوضع يختلف. فأكبر المتعهدين الدفاعيين فيها، عبارة عن شركات ومؤسسات، تعمل تحت سيطرة الدولة نفسها. وتمتلك بالتالي قدرة أقل بكثير على ممارسة الضغط، وخصوصاً أن الحكومة الروسية التكنوقراطية لم تمنحها سوى مساحة حركة محدودة.
وكان يمكن لروسيا أن تظهر للعالم كيف تنفق بكفاءة في مجالات أخرى غير المجال الدفاعي، ولكنها لم تفعل ذلك، وفضلت أن تشارك في سباق تسلح يتناقض مع مصالحها، وخططها التنموية لسنوات طويلة، وخصوصاً في مجالات في غاية الأهمية مثل التعليم والصحة، وهو ما يتناقض مع ما قاله بوتين في المؤتمر الصحفي عن رؤيته لمستقبل روسيا، وأنه يريدها دولة مرنة، تحركها التكنولوجيا، وتمتلك قدرة إنتاجية ضخمة. وإذا ما حكمنا على إجابات بوتين للصحفيين، يوم الخميس، فإننا نقول إنه ما زال يفضل غض الطرف عن هذا التناقض.
,