حصوننا مهددة من داخلها .. مصرُ أنموذجا!
الحلقة الأولى
في ربيع عام 2007 م بدأت هجمة جديدة من الهجمات المجرمة على ثوابت الأمة الإسلامية .. وقد استمرت هذه المرة في الظهور بصورتها الجديدة!
تلك الصورة الجديدة مفادها أن حاملي معاول الهدم في ديننا هذه المرة ممن ينتسبون إلى الإسلام ويتزيَّوْن بزيه وينطقون بلغته ويحملون هوية أهله!
فقديما كان الذين يحملون معاول الهدم في ثوابت الإسلام هم المستشرقون من أمثال روجر بيكُن الإنجليزي وطبقته، وتوما الإكويني الإيطالي وطبقته، مرورا بديفيد صمويل مرجليوث القسيس الإنجليزي وطبقته، وقد عمل أولئك المستشرقون جاهدين للوصول إلى ثغرة واحدة في حصن الإسلام المنيع فلم يستطيعوا ..
إذ بدأ هؤلاء المستشرقون محاولات طعنهم في الدين بمحاولة التشكيك في السنة النبوية وتشويه رُواتها من الأئمة ومن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. بُغية إسقاطهم وتشويههم، حتى يصلوا بالناس إلى نتيجة مَفادُها: أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا قوم سُوء، يُلفِّقون الأحاديث على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويكذبون عليه، وأن الأئمة من رواة السُّنّة كالإمام أحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم -رحمهم الله- ما هم إلا نقلة للكذب!
فإلى أي شيء انتهى أولئك المستشرقون؟
لقد انتهوا إلى العجز القبيح، والفشل الذريع، والخلود إلى الأرض .. حتى لَيقول أحد أشرس دهاقينهم وهو ديفيد صامويل مرجليوث -وقد أجرى اللهُ الحقَّ على لسانه- في المقالات العلمية صـ 235/234: ( ليفتخر المسلمون ما شاؤا بعلم حديثهم!)
أجل، لقد انتهوا بعد الجُهد الجَهِيد وإفناء الأعمار عكوفًا على كتب السنة النبوية إلى نتيجة مفادها أن السُّنّة حصن منيع وجبلٌ أشَمٌّ لا يمكن لأحد ارتقاؤه فضلا عن الظهور عليه ..
ثم ماذا؟
هل يرجع المستشرقون عن أهدافهم الاستعمارية الخبيثة التي تنطلق من تقويض دعائم ملة الإسلام بين أبنائه؟
لا، ما كان لهم أبدا أن يرجعوا، لقد تفتقت أذهانهم هذه المرة عن حيلة ماكرة خبيثة استفادوها من معاركهم السابقة مع المسلمين .. إذ هم قد وقفوا على حقيقة عداوة العوامّ من المسلمين لهم -فضلا عن علمائهم- ورفْضِ هؤلاء العوامّ لكل ما يطرحه المستشرقون عليهم من الشبهات، رغم جهلهم بطريقة الرد عليها، وما كان ذلك كذلك إلا لأن الفطرة السليمة داخل كل مسلم تأبى عليه أن يتلقى معلوماته الدينية عن مستشرق صليبي خبيث لا يضمر في نفسه سوى الشر للإسلام والمسلمين!
فانتهى أولئك المستشرقون إلى فكرة هي أخبث ما يكون، كان لها مفعول السحر في تقويض معالم كل ديانة، فقد طبقها من قبل بولس اليهودي مع الديانة النصرانية، وبولس هذا هو .. ( شاؤل بن كيساي) من سبط بنيامين بن يعقوب -عليهما السلام- والذي كان من فرقة الفريسيين اليهودية التي كانت أشرس فرق اليهود عداء للمسيح -عليه السلام-، وقد اشتُهر بولس بعنفه الذي لا يوصف مع أتباع المسيح -عليه السلام- فلما رأى أن التنكيل لا يجدي معهم، عمد إلى تلك الحيلة الخبيثة، وهي هدم النصرانية من الداخل، فأعلن اعتناقه النصرانية دين المسيح -عليه السلام- وأنه صار من أخلص أتباعه، حتى إذا وثق فيه النصارى أعمل في دينهم التحريف والتبديل ومن ثم بدأ على يديه ظهور الفرق النصرانية كاليعاقبة والنساطرة ثم ما كان بعد ذلك من الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت، وتلك هي نفس الفكرة التي اعتمدها عبد الله بن سبأ اليهودي في تقويض دعائم ملة الإسلام من الداخل، وكان بدء ظهور الفرق الإسلامية المتناحرة التي انتهت بنا -نحن المسلمين- إلى ما نحن بصدده من التشرذم والانهزام !
لجأ المستشرقون أيضا إلى نفس الفكرة الخبيثة التي أثبتت نجاحها على يدي شاؤل بن كيساي وعبد الله بن سبأ اليهوديين، وهي فكرة حصان طروادة ، حيث عمدوا إلى فئة من المسلمين من ذوي النفوس المنهزمة الضعيفة الذين يعانون ما يعانون من الفقر والبؤس الذي يجدونه في مجتمعاتهم .. فلمَّعوهم وصدَّروهم لنا على أنهم أصحاب الشهادات العلمية العالمية، والعلوم التي لم يسبقهم إليها أحد، بدأت هذه الفكرة تحديدا في التنفيذ على أرض الواقع في شهر يوليه سنة 1826 م على يدي المستشرق الفرنسي آدم فرانسوا جومار، عندما نجح في إقناع محمد علي باشا والي مصر آنذاك بإرسال بَعثة كبيرة من شباب مصر إلى فرنسا وتتابعت تلك البعثات حتى سنة 1846 م .. وكانت كل تلك البعثات تحت إشراف جومار يصنعها على عينه!
كانوا شبانا صغارا، ليس في عقولهم ولا قلوبهم إلا القليل الذي لا يغني من الثقافة الإسلامية المتكاملة التي عاشت فيها أمة الإسلام قرونا متطاولة، فوضعهم جومار تحت أيدي المستشرقين يوجهونهم من حيث لا يشعرون إلى الجهة التي يريدونها، ويعطونهم القدْرَ اليسير المتفَّق عليه بينهم من العلوم التي يدرسونها، ثم يردونهم بعد سنتين أو ثلاثة أو أكثر إلى مصر.
ولنتأمل معا في قصة شاب منهم ابتُعث إلى فرنسا سنة 1826م مع 44 تلميذا هم أعضاء البَعثة ليكون إماما لهم، كان شابا في الخامسة والعشرين من عمره، ولد بمدينة طهطا بمديرية جرجا في أسرة رقيقة الحال سنة 1801م ، ثم رحل سنة 1817م إلى القاهرة ليجاور بالأزهر الشريف، ومنه اختير سنة 1826م ليؤمَّ أعضاء هذه البعثة إلى فرنسا، كان غَرِيرًا بَيِّنَ الغَرَارة، طَرِيَّ العود، جاء من أقصى الصعيد، ومن ظُلماته وبؤسه وفقره وخصاصته وهو في السادسة عشرة من عمره ليُقيم في حواري الأزهر المهدَّمة المخرَّبة بيوتُها بفعل جنود نابليون بونابرت إبان الاحتلال الفرنسي لمصر والذي انتهى في نفس السنة التي شهدت ميلاد هذا الشاب سنة 1801م، تلك الحواري الضَّيقة طرقاتُها المُظلمة أزقتُّها، ثم يركب سفينة فرنسية تتلألأ أنوارُها ترمي به إلى قلب باريس في منتصف القرن التاسع عشر، بحدائقها وميادينها وأنوارها ومباهجها، وما لا رأته من قبل عينٌ كعينه، وما لا خطر على قلبٍ كقلبه، أيُّ فتنة تذهبُ بعقل هذا الفتى، وترجُّه رجًّا لا قبل لمثله باحتماله؟
وكذلك كان!
أخذ المسيو جومار بناصية هذا الشاب الأزهري وأسلمه لأحد دهاقين الاستشراق وهو المستشرق المشهور البارون/ سلفستر دي ساسي، فقضى مع هذا الشاب ست سنوات، علمه في ثلاث منها اللغة الفرنسية، ثم زعم الشاب أنه تلقى في السنوات الثلاث الأخرى علوم التاريخ، والجغرافيا، والفلسفة، والآداب الفرنسية، وأنه قرأ مؤلفات فولتير، وجان جاك روسُّو، ومُنتِسْكِيو، وقرأ بعض الكتب في المعادن، وفن العسكرية، والرياضيات!
حَدِّثْنِي بربِّك كيف تكون دراسة هذه العلوم المتنوعة في ثلاث سنوات، إلا أن يكون ذلك كله خطفًا كحَسْوِ الطائر، وأن يكون ما ألَّفَهُ وكتبه بعدُ بغرض تلمِيعه وتصدِيره إنما كان سَطْوًا مُجرَّدًا على كتبٍ كُتبت في هذه العلوم المختلفة المتباينة، ولكنه في النهاية على ذلك كلِّه .. إِمَامٌ عاد من فرنسا ليخرج مصر وأهلها من الظلمات إلى النور!! يا للعجب!
واستمر الأمر على هذا المنوال سنواتٍ طِوال، حلَّ فيها الاستشراق الإنجليزي ،مع الاحتلال الإنجليزي لمصر، محلَّ الاستشراق الفرنسي .. وصدر الأمر العالي بتعيين المستر دنلوب ، وهو من هو من دهاقين الاستشراق الإنجليزي، سكرتيرا عامًّا لنِظارة المعارف (وزارة التربية والتعليم الآن) في 17 مارس سنة 1897، فبدأ دنلوب بالاتفاق مع اللورد كرومر في هدم الدراسة الثانوية التي هي أعظم أركان المعارف .. على حد تصريح جريدة الأهرام في عددها لذلك اليوم!
وجاء الاستشراق الإنجليزي ليُحْدِثَ في ثقافة الأمة المصرية العربية المسلمة صَدْعًا متفاقما هو أخبث وأعتى من الصّدع الذي أحدثه الاستشراق الفرنسي، إذ وضع دنلوب أسس التفريغ الثقافي الكامل لطلبة المدارس المصرية، أي تفريغ الطلبة من ماضيها المتدفق في دمائها مرتبطا بالعربية والإسلام، ومَهَّدَ إلى مَلْئِه بماضٍ آخرَ بائدٍ في القِدَم والغموض، لم يبقَ من ثقافته شيءٌ البتَّة، ليُزاحم هذا الماضي الفارغُ بقايا الماضي المتدفقِ الحيِّ الذي يوشك أن يتمزق ويختنق بفعل التفريغ المتواصل، ويجعلَ أجيالَ طلبة المدارس في حَيْرة مُدمِّرة بين انتماءين، بين الانتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية الواضحة في كتب أسلافهم، وبين الانتماء إلى الفِرْعَوْنِيّة التي بادت ولم يبق منها إلا أطلالٌ من الحجارة، مهما بلغت في العظمة والجلال، فهي فارغة من ثقافة حية تتدفق في العقول والقلوب والألسنة، إنما هي آثار لا تغني شيئا ولا تؤتي ثمرة.
كانت هذه خطة دنلوب التي عكف عليها، بعدما رأى أن قصة ابتعاث عدد قليل من طلبة المدارس المصرية إلى أوربا وحدها لا تكفي لإحداث الغرض المطلوب وإنتاج الثمرة المرجُوَّة .. لا بأس في نظره أن تستمر هذه البَعْثَات، ولكن ليكون العائدون منها أئمة ضلال بعد ذلك لأولئك الطلبة القابعون هنالك خلف جدران المدارس المصرية يُفَرَّغُونَ من ثقافتهم العربية الإسلامية المتكاملة فيما يسمى زورا وبهتانا (التنوير!)
فكانت الثمرة المرجُوَّة بعد حين من الدهر .. إذ ظهر في بلادنا من يدعو إلى الانعتاق من رِبْقَةِ الإسلام، والانتماءِ إلى الفِرعَونية، يكتبون ذلك في الصحف والمجلات والكتب ، وهؤلاء لا يفعلون ذلك اعتباطا، وإنما لعلمهم أن الأمر يحتاج إلى ملءٍ بماضٍ آخرَ غيرَ الماضي العربيِّ الإسلاميّ، فجاؤا بذلك الماضي البائدِ المُعرِقِ في القِدَم والغموض ليزاحم بقايا ذلك الماضي المتدفق الحي الذي يوشك على الموت والفناء!
ولنتأمل مرة أخرى قصة واحد من أولئك الشباب الذين كانوا ثمارا مرة أنتجها الاستشراق الإنجليزي على يدي المستشرق دنلوب وبرعاية اللورد كرومر ..
ولكن في حلقة قادمة أسوقها مساء اليوم بمشيئة الله ..
يتبع إن شاء الله ..