"لا أستطيع نسيان العاشرة مساء 19 مايو 2001، فهو التوقيت الذي هربت فيه من الجحيم. لا يهم إلى أين. المهم هو الركض والابتعاد إلى أقصى مدى. الله لا يريدنا أن نقتل أحداً. جوزيف كوني فقط استخدم العهد القديم بطريقة ملتوية لتبرير هذه الأفعال البشعة التي أجبرنا على فعلها".هكذا، تلخص غريس أراش مأساة أسرها وتجنيدها لمدة خمس سنوات لدى "جيش الرب" الأوغندي، إحدى أكثر الميليشيات دموية في القارة الإفريقية، وهي في عمر الـ12 فقط.
طفولة تقتلها البندقية والاستعباد الجنسي
منذ نحو 30 عاماً، وتحديداً 1986، أنشأت سيدة تدعى أليس لاكوينا حركة تسمى "الروح القدس" بهدف التصدي لممارسات الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني الذي تولى حكم كمبالا في العام ذاته، مدعيةً أن "الروح القدس" أمرها بالإطاحة بالحكومة الأوغندية بسبب الظلم الذي تمارسه ضد شعب عرقية أشولي.
منذ البدايات، حارب معها جوزيف كوني، إلى أن تعرضت حركتها للهزيمة، فأسس كوني "جيش الرب للمقاومة" في العام ذاته من أبناء القبيلة، قبل توسعه في ما بعد، مدعياً أنه نبي وأنه يمتلك قدرات خارقة تقاتل بجوار جنوده طالما التزموا بأوامره، التي يقول إنها قائمة على "العهد الجديد" و"الوصايا العشر"، بحسب الباحثة في شؤون الحركات المتطرفة، نيرمين توفيق.
وبحسب هيومن رايتس ووتش، أنشأ كوني جيش الرب في شمال أوغندا لمواجهة الانتهاكات الخطيرة التي تعرضت لها عرقية "أشولي" على أيدي الحكومات المتعاقبة في فترة الاضطرابات في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وحظي التنظيم بدعم كبير في بدايته، إلا أن هذا الدعم تراجع بشدة في أوائل التسعينيات، مع تزايد عنفه ضد المدنيين، بمَن فيهم "شعب أشولي ذاته".
كانت غريس أراش متوجهة لزيارة جدتها، في سيارة كاهن محلي، بصحبة خمسة أشخاص آخرين. وفي الطريق، فوجئوا بكمين للمتمردين. اعترضوهم بأسلحة آر بي جي، قبل أن يفرجوا عن الكاهن ويعدموا آخرين، ويأخذوا الطفلة وآخرين مثلها. كانت نيتهم واضحة. أرادوا الأطفال فقط لتجنيدهم وغسل أدمغتهم.
اقتيدت أراش إلى قرية مجاورة، قبل أن يأخذها المسلحون إلى أحد معسكراتهم، ويسلموها إلى النائب الشهير لزعيم جيش الرب، أوتي لاغوني، لتصبح زوجته الـ11. ومنذ البداية، شهر سلاحه في وجهها وقال لها: "إذا صرخت، فسأقتلك".
تروي غريس رحلة معاناتها، خاصة مع استغلالها لتأدية مهمات قتالية. تتذكر حين قيل لها: "أمامك ثلاث ساعات فقط للتدرب على بندقية كلاشينكوف قبل مشاركتك في المعركة المقبلة. إذا لم تطلقي النار فأنت ميتة، إما من القوات الحكومية أو من المتمردين. البندقية هي أبوك وأمك، وهي الشيء الوحيد الذي يستطيع حمايتك".
أجبر معظم الأطفال الذين اختطفوا سابقاً على ارتكاب أعمال وحشية، وعلمت غريس التي قتل جيش الرب أباها، قبل سنة من اختطافها، مبكراً أن العصيان يعني النهاية. كانت تسمع عن أطفال يضربون غيرهم حتى الموت حين يحاولون الفرار، بينما يُجبر الباقون على المشاركة أو المشاهدة، أو يلطخون بالدماء لتخويفهم.
وأجبرت الطفلة التي أصبحت في عمر الـ33 الآن على السفر مئات الأميال لشن الحرب ضد القوات الحكومية وآخرين، قبل أن تنتهي مأساتها عقب خمس سنوات من اختطافها، بعدما استطاعت في النهاية الهرب مع آخرين، لتتلقفها أيدي منظمة اليونيسف وتنقلها إلى جوبا، وتنقلها من هناك إلى أستراليا، حيث تعمل حالياً على تأهيل المختطفين السابقين.
وتقول نيرمين توفيق الحاصلة على الدكتوراه عن رسالة بشأن جيش الرب لرصيف22 إن استفحال جرائم التنظيم وصل إلى تعمد عناصره إجبار الصبية على قتل آبائهم وأمهاتهم، أو اغتصاب أحد أفراد أسرهم حتى يقطعوا عليهم سبل التفكير في الهرب، أو العودة إلى ديارهم مرة أخرى.
وتوضح تقارير حقوقية أن الأطفال يخضعون لتدريبات عسكرية، تتضمن قتل عدد من البالغين أو أقرانهم الذين يحاولون الهرب. وإمعاناً في الوحشية تأخذ عملية القتل طابعاً احتفالياً، إذ يحيطون بالضحية على شكل دائرة، ويضربونها حتى الموت.
دفتر الضحايا لا يزال مفتوحاً
في ذروته، بلغ تعداد عناصر جيش الرب الآلاف، على الرغم من أن عدد مقاتلي "أشولي" المدربين جيداً وذوي الخبرة، لم يكن يتعدى المئات. ولكن في السنوات الأخيرة، صار يقدر عددهم ببضع مئات، بالإضافة إلى مئات الأطفال والكبار الأسرى، وذلك بعد حملات عسكرية مختلفة شُنّت ضده ودفعته إلى عبور الحدود إلى جمهورية جنوب السودان حالياً، قبل أن يتوسع نحو الكونغو الديمقراطية في عامي 2005 و2006، وإلى جمهورية إفريقيا الوسطى عام 2008.
ورغم تضاؤل حجم الميليشيا المتمردة فإنها قادرة على شن هجمات مروعة بأقل عدد من المسلحين. ففي ديسمبر 2009، قتل 30 منهم ما لا يقل عن 345 مدنياً واختطفوا 250 آخرين، خلال أربعة أيام فقط في منطقة ماكومبو في الكونغو، في واحدة من أسوأ مذابح التنظيم.
كما شوّه المسلحون أجساد الكثيرين بقطع شفاههم وآذانهم وأنوفهم وأيديهم وأقدامهم، وكانوا يقطعون رؤوس عدد من ضحاياهم بالخطاطيف والفؤوس، بحسب نيرمين توفيق.
وفي أحدث جرائمهم، اختطف عناصر جيش الرب 61 مدنياً في 7 يونيو الماضي، في منطقة قريبة من حدود جنوب السودان، قبل إطلاق سراحهم بعد إجبارهم على نقل بضائع وأغذية منهوبة. وفي منتصف أغسطس، اختطفوا 40 شخصاً على الأقل في قرية كونو شمال شرق الكونغو الديمقراطية.
وبحسب بيانات الأمم المتحدة، قتل جيش الرب ما يزيد عن 100 ألف شخص، واختطفت 60 ألف طفل، كما تسبب بنزوح أكثر من مليونين قسراً من ديارهم إلى مخيمات اللجوء.
الحيوانات تدفع ضريبة الحرب
مع توسع نشاط كوني خارج أوغندا، بدأت الأعين تتفتح بحثاً عن مصادر تمويله، وكشفت تقارير صحافية عن أنه يستخدم عناصره في صيد الأفيال للاستفادة من أنيابها ببيعها لشراء أسلحة وذخائر، ويبيع الرطل الخام الواحد من العاج بنحو 1300 دولار.
وأكدت المؤسسة المسؤولة عن حديقة غارامبا في الكونغو، أن جيش الرب قتل حوالي 96 فيلاً عام 2015، قبل أن يحمل أنيابها عبر إفريقيا الوسطى، من الكونغو إلى ملجأ كوني "كافيا كينغي" في جنوب السودان.
وكشفت مجموعة "مشروع يكفي" عن أن الجيش السوداني يشتري شحنات العاج من جيش الرب ليبيعها في أسواق آسيا والخليج، مشيرةً إلى أن كوني حليف قديم للرئيس السوداني عمر البشير.
وخرجت تقارير تشير إلى تورط نائب رئيس جنوب السودان ريك مشار في دعم التنظيم، إذ منحه ممراً آمناً لدخول البلاد، ليحميه من خطر التلاشي، بعد اشتداد التضييق عليه.
"أطفال الرب" و"أشبال الخلافة"
المتتبع لأفكار وممارسات جيش الرب وداعش سيجد تشابهاً كبيراً بينهما، رغم اختلاف الخلفيات الدينية التي ينطلقان منها، حسبما ترى الباحثة في شؤون الحركات المتطرفة.
وتلفت توفيق إلى أن كلا التنظيمين يرفع الشعارات المقدسة لكسب الشرعية لتبرير جرائمه. وكان أتباع كوني يعتقدون أن المسيح يزوره في أحلامه ليخبره بما يجب فعله، حتى أن أحد مساعديه كان يقول: "كوني رسول من عند الله، نحن نتبع أوامر الروح القدس".
وتؤكد الباحثة أيضاً أن التنظيمين يمارسان أيضاً سبي النساء واستغلالهن في خدمة عناصرهما وفي الاستعباد الجنسي، فيما يجندان الأطفال ويجبرانهم على ارتكاب أعمال وحشية، فهناك "أطفال الرب" وهو تنظيم خاص بالأطفال كما "أشبال الخلافة"، كما أنهما لا يعترفان بفكرة الوطن أو الحدود الجغرافية.
خطوة على طريق إنصاف الضحايا
منذ 2006، دفعت القوات الأوغندية جيش الرب للهروب إلى الكونغو ومنها إلى إفريقيا الوسطى ثم جنوب السودان، ما أعاد 80% من النازحين إلى ديارهم. وفي 2008 فشل التوقيع على اتفاق سلام مع كوني في جنوب السودان، بينما شنّت حكومات دول المنطقة بقيادة الجيش الأوغندي ودعم استخباراتي ولوجستي من الولايات المتحدة، في ديسمبر 2011، حملة عسكرية ضد قواعد جيش الرب فى حديقة غارامبا الوطنية، شملت ضربة جوية مفاجئة على معسكرهم الرئيسي، إلا أنها فشلت أيضاً في تحييد قادته الذين نجحوا في الهروب.
في مارس الماضي، سحبت الولايات المتحدة قواتها من عمليات ملاحقة جيش الرب لأنها رأت أن قوة المتمردين باتت واهنة، قبل أن تعلن في أبريل، استمرار تدريبها للقوات الإقليمية لمواصلة مقاومة المسلحين الباقين من عناصر التنظيم.
ودعا الاتحاد الإفريقي إلى دعم عسكري دولي لمواصلة تعقب "كوني"، عقب انسحاب واشنطن.
في ديسمبر الماضي، بدأت محاكمة دومينيك أونغوين أمام المحكمة الجنائية الدولية. وسبق أن صدرت مذكرات اعتقال بحق أونغوان الذي اختطفه جيش الرب وهو طفل، قبل أن يصبح من كبار قادته، وبحق أربعة آخرين من قادة التنظيم على رأسهم كوني، ذلك بتهمة ارتكاب 70 جريمة حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد مخيمات للنازحين، في عمليات شهدت قتل وتعذيب واسترقاق جنسي وتجنيد أطفال وراح ضحيتها مئات الضحايا.
ويواجه مقاتل آخر في التنظيم المتمرد، وهو توماس كويلو، اتهامات مشابهة أمام قسم الجرائم الدولية في المحكمة العليا في أوغندا.
بات القبض على كوني كالبحث عن إبرة في كومة قش، فهو يتحرك مع مساعديه في مجموعات صغيرة منفصلة عبر تضاريس شجرية بين حدود الكونغو وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان، بينما يضع أوامره فوق الأشجار أو تحت الصخور، ويجتمع بأنصاره وجهاً لوجه، ويتجنب الاتصالات الهاتفية خوفاً من رصده.
مصدر