أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، اذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بالاطلاع على القوانين بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة المواضيع التي ترغب.
موضوع: قصة فلسطينيو لبنان الجمعة 15 سبتمبر 2017 - 20:43
برميل البارود وجذور الحرب الأهلية الحلقة الأولى: (1948 - 1969)
كل جريمة جماعية تبحث عن «شماعة»، لأن الضمير الفردي والجمعي لا يستطيع العيش طويلًا مع حقيقة أن المجتمع كله مجرم، من ثَمَّ لابد أن يكون هناك طرف ما يتم تحميله مبتدأ الأمر وتبعات ما حدث، والغريب الضعيف دائمًا هو الأكثر قابلية للعب دور الخرقة التي تتمسح بها الجماعة، متطهرة من عبء إثم يثقل على الضمير، فإذا ما التمسنا المثال العملي ما وجدنا خيرًا من لبنان. لبنان، ذلك الخليط المتشابك والمربك من المذاهب والطوائف والعائلات والأحزاب والميليشيات والمصالح الرأسمالية والتحالفات الزئبقية، المُهدَّد دائمًا بانقضاض إسرائيلي من الجنوب، والمختنق دائمًا تحت ثقل الجغرافيا السورية من الشرق والشمال، والمتطلع دائمًا بلهفة إلى الجديد عبر البحر من الغرب، والمتفجر من الداخل أبدًا في لعبة توازنات قوى ومصالح مستعرة باستمرار، تترجم نفسها في مصافحات السياسيين ورجال الأعمال المتأنقين أمام الشاشات، أو – حين ينسد الأفق – في مصافحات الميليشيات بالرصاص في الشوارع.
برميل البارود
كما يبحث البركان عن أضعف نقطة في قشرة الأرض الرقيقة ليتنفس منها، تتفجر صراعات السياسة والمصالح في المناطق العصية على السيطرة المنفردة لأي طرف، وكان قدر لبنان يخبئ له الكثير على هذا الطريق، فهو النقطة الأضعف في قشرة السياسة العربية منذ حقبة التحرر الوطني وحتى الآن، وكل لاعب إقليمي أو دولي يجد لنفسه وكيلًا محليًا ما يمسك عبره بخيط أو أكثر من خيوط لعبة التوازنات، وكل لاعب محلي في لبنان يبحث عن خط إمداد بالخارج. إن الصراعات الأهلية الممتدة تقوم على عامل أو أكثر من أربعة عوامل: الطائفية أو القبلية/العائلية أو الطبقية أو الحزبية، وإن وجود واحد فقط من هذه العوامل في مجتمع ما دون توافق إرادة جماعية على علاجه كفيل بتفجير صراع أهلي، فكيف الحال وقد كانت هذه العوامل الأربعة جميعها موجود وبوفرة خانقة في لبنان، فهناك من الطوائف: المسلمون السنة والشيعة والمسيحيون الموارنة والأرثوذكس والكاثوليك، ومن الأعراق سوى العرب هناك الدروز والشركس والأرمن والتركمان، ومن الأحزاب هناك اليميني واليساري والوطني والقومي.
إن عيبًا بنيويًا خطيرًا وسم ميلاد لبنان الحديث بعد استقلاله عن الانتداب الفرنسي عام 1943، ذلك أن رئيسه الأول، الشيخ «بشارة الخوري»، اتفق مع رئيس وزرائه «رياض الصلح» على أن أفضل صيغة للقفز فوق النزعة الطائفية في لبنان هي المحاصصة الطائفية، بحيث يكون لكل طائفة نصيب معلوم من الحكم والإدارة والسلطة حسب وزنها النسبي. وهكذا ولد «الميثاق الوطني»، كاتفاق عرفي غير مكتوب، بموجبه وزعت المناصب الرئيسية على الطوائف الرئيسية في البلاد، فكانت رئاسة الجمهورية من نصيب المسيحيين الموارنة، ورئاسة مجلس الوزراء للمسلمين السنة، ورئاسة مجلس النواب للمسلمين الشيعة، وانسحبت المحاصصة الطائفية على بقية المناصب. ولا يتطرق الشك إلى براءة النوايا التي أفرزت الميثاق الوطني، ذلك أن الغرض منه كان حفظ نصيب مضمون من السلطة والنفوذ والتأثير لكل طائفة، بما يحقق أفضل ما يمكن الوصول إليه من توازن، ويمنع كل طائفة من أن تتطلع إلى ما في يد الأخرى، غير أن ما غاب يومها عن بال المتوافقين على الميثاق الوطني أنه سيكرس تطييف السياسة اللبنانية، وأنه في مرحلة ما سيتحول إلى عقبة تحول دون تقدم لبنان إلى مجتمع حديث قائم على مرتكزات المواطنة والمساواة دون الانتماءات البدائية/قبل الوطنية.
ثم إن الميثاق الوطني كان ثمن تنازل كل من مسلمي لبنان ومسيحييه عن الارتباط بقوة أجنبية تحمي مكتسبات الطائفة، فكان على المسلمين أن يتخلوا عن مطلب الوحدة مع سوريا مقابل تخلي المسيحيين عن الحماية الأجنبية. لكن لئن وقع «الخوري» و«الصلح» في خطأ تطييف السياسة من حيث أرادا تفاديه، فما لم يكن بوسعهما القفز فوقه هو تطييف الاقتصاد، ذلك أن عوامل تاريخية معقدة يضيق بها المجال هنا جعلت مراكز الثراء في لبنان مسيحية، في حين كانت أكثرية بؤر الفقر مسلمة، وهنا تحديدًا كان مكمن الخطر، وكان البركان يسخن على مهل، منتظرًا الفرصة للغليان ثم الانفجار تاليًا. كان لابد أن يضيق لبنان في لحظة ما بتناقضاته الطافحة، وأن ينفجر كنجم احتدمت التفاعلات بداخله إلى درجة الانهيار، متحولًا إلى ثقب أسود يبتلع شرور المنطقة بشراهة، ثم لا يجد سبيلًا لهضمها سوى استهلاك كمية أكبر من البارود، وفي الأثناء يبحث عن «الشماعة» التي سيُعلق عليها الأمر برمته، وهذه المرة كانت موجودة وجاهزة وتتمتع بكل الصفات التي تؤهلها للعب هذا الدور: الفلسطينيون.
الملاذ
كان نصيب لبنان من النزوح الفلسطيني الجماعي إبان نكبة 1948 وفي أعقابها المباشرة يتراوح بين 100 و130 ألف لاجئ، شكلوا ما يقرب من 14% من قوام لاجئي النكبة المقدر عددهم بنحو 750 ألف لاجئ. وربما لم يخطر ببال أي لاجئ من هؤلاء أن مخيماتهم الفقيرة البائسة ستكون وقود حرب جنونية بعد ربع قرن، ذلك أن ما كان يدور بمخيلة هؤلاء وغيرهم من اللاجئين في الدول الأخرى أن الجيوش العربية لن تلبث أن تحرر فلسطين، فاتحة الطريق للعودة إلى الديار، ثم إن روابط النسب والمصاهرة والمتاجرة ربطت منذ قديم الزمن بين الشمال الفلسطيني والجنوب اللبناني.
هكذا، لقي اللاجئون الفلسطينيون الأوائل في لبنان ترحابًا وتعاطفًا شعبيًا حقيقيًا وأصيلًا واسع النطاق، والحكومة اللبنانية أيضًا لم تُبدِ في البداية تأففًا من استقبال الفلسطينيين على أراضيها، آملة ألا تطول هذه الاستضافة، ثم إن لبنان المستقل حديثًا كان حريصًا على ألا تجور النعرات الطائفية والعشائرية على الوجه العروبي والحداثي. تركزت الأغلبية العظمى من اللاجئين بطبيعة الحال في الجنوب اللبناني الأقرب إلى الحدود الفلسطينية، غير أن البعض منهم أكمل طريقه إلى سوريا عبر الشمال اللبناني، وبشكل مباغت أغلقت السلطات السورية حدودها في وجه اللاجئين، وهذا ما يفسر وجود المخيمات الفلسطينية في شمال لبنان، مثل مخيمي البداوى ونهر البارد، الذي بناه اللاجئون العاجزون عن اجتياز الحدود السورية قرب طرابلس، ولم يتحول إلى مخيم رسمي سوى عام 1955.
لم يمض وقت طويل حتى أدرك الجميع أن إقامة الفلسطينيين ستطول في لبنان، فالدول العربية لم تعجز عن استرداد فلسطين فحسب، وإنما لم تصمد الأنظمة العربية أمام انقضاض جيوشها العائدة على العروش الملكية. المهم أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» بدأت تتولى أمر المخيمات في لبنان بدءًا من عام 1951، وتحولت خيام القماش إلى جدران حجرية مسقوفة بالزينكو.
السياسة
سرعان ما ابتلعت أمراض السلطة المزمنة الشيخ «بشارة الخوري»، فبدأ في محاباة أقاربه ومعارفه بالمناصب والتسهيلات، لكن الشعب اللبناني الذي كان يفور بحيوية الاستقلال واستشراف مستقبل زاهر لم يستكن، كما أن زعماء الطوائف والعائلات خشوا من تعاظم سلطة «الخوري»، فاندلعت انتفاضة شعبية عام 1952 أجبرته على تقديم استقالته. انتُخب «كميل شمعون» رئيسًا للجمهورية، وتزامن وصوله مع وصول «جمال عبد الناصر» إلى قمة السلطة في مصر، وسرعان ما طفت التناقضات بينهما إلى السطح، ففي حين وقف «عبد الناصر» موقفًا مناهضًا للأحلاف الغربية، ومهاجمًا حلف بغداد، أبدى «شمعون» تأييده غير الملتبس للحلف، وموقفه المنحاز للغرب والمستدعي لحمايته في مواجهة صعود إقليمي كاسح للقوى القومية العربية ذات الصبغة الناصرية والامتداد الإسلامي.
تزامن وصول «شمعون» أيضًا مع إدراك أن الوجود الفلسطيني في لبنان وغيره من بلدان اللجوء لن يكون مؤقتًا، وفجّر هذا الأمر مخاوف لدى المارونية السياسية المهيمنة على قمة الهرم السياسي والاقتصادي في لبنان، إذ من شأن وجود الفلسطينيين وتكاثرهم وامتزاجهم باللبنانيين أن يقلب الميزان الديموجرافي لصالح المسلمين، وأن يضيف إلى بؤر الفقر اللبناني بؤرًا جديدة تهدد بانفجار طبقي قادم لا محالة.
عام 1958، اشتعلت أزمة كادت تودي بلبنان إلى تمزق داخلي، إثر محاولة «شمعون» تمديد ولايته الرئاسية بالمخالفة للدستور، متلاعبًا بالتوازنات الحساسة المرتكزة على الميثاق الوطني، وحاول توريط الجيش اللبناني والزج به في هذا الصراع ضد القوى المناوئة لسلطته، لكنه اصطدم بصلابة العماد «فؤاد شهاب»، قائد الجيش اللبناني، الذي رفض بحزم حماية ألاعيب «شمعون» وتطييف الجيش، لكنه في الوقت نفسه حال بين المعارضة وبين الحسم العسكري.
انتهت الأزمة في العام نفسه بانتخاب العماد «شهاب» رئيسًا للجمهورية لمدة 6 سنوات، غير أن العماد «شهاب» كانت ثقته واعتماده على الجيش زائدين عن اللزوم، وكان من نتائج ذلك توسع وتغلغل المكتب الثاني، جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش اللبناني، وتدخله في الحياة السياسية من قمتها إلى قواعدها، في مجتمع غير مهيأ بطبيعته لتحمل هذا الطراز من الديكتاتوريات البوليسية. وفيما يخص المخيمات الفلسطينية، كان العهد الشهابي شديد الوطأة، اتسم بقمع المكتب الثاني لأي نشاط كبير أو صغير داخل المخيمات، وفُرضت أحكام عرفية بالغة القسوة وغير مبررة في بعض الأحيان، مثل منع الانتقال من مخيم إلى مخيم دون تصريح، وفرض حظر التجول بعد العاشرة مساءً، ومنع قراءة الجرائد في الأماكن العامة، وحظر العمل في عشرات المهن على الفلسطينيين، ناهيك بتعسف ضباط المكتب الثاني واستعراض سلطتهم على سكان المخيمات، مثل قيامهم بتوقيف واعتقال البعض منهم دون سبب. وحتى بعد انتهاء ولاية «شهاب» عام 1964، استمر خليفته «شارل حلو» على النهج ذاته، معتمدًا على الجيش والاستخبارات في ضبط السياسة والمجتمع والمخيمات، إلى أن وقعت هزيمة 1967 بالجيوش والأنظمة العربية، مُجهِزة على أسطورة القومية العربية والناصرية، ومانحة الفرصة الفلسطينيين للإمساك لأول مرة بقرارهم المستقل واعتمادهم على الكفاح المسلح بديلًا عن التعويل على الأنظمة العربية.
انتفاضة المخيمات
والواقع أن الهزيمة دفعت بالأنظمة العربية للتسابق لدعم فصائل المقاومة الفلسطينية، طالبين منها دعمًا معنويًا وإعلاميًا أمام شعوبها بالمقابل، واستفادت فصائل المقاومة – التي هيمنت على منظمة التحرير الفلسطينية في هذا الوقت – ثقة متزايدة بالنفس ونقلة نوعية وكمية في بنيتها العسكرية. وبدأ لبنان يدفع كلفة باهظة للوجود الفلسطيني الفدائي على أراضيه، عمقت شعور الفئات المستفيدة من الوضع القائم بأن مكتسباتها مهددة، ففي 28 ديسمبر/كانون الأول 1968 أغارت قوة كوماندوز إسرائيلية على مطار بيروت الدولي، ودمرت 13 طائرة مدنية تابعة للخطوط الجوية اللبنانية، ردًا على عملية فلسطينية ضد طائرة إسرائيلية في مطار أثينا، انطلق منفذوها من لبنان.
وكالعادة، انعكس ذلك على سطح المرآة اللبنانية، وبدأ السلاح يظهر وينتشر في أزقة المخيمات الفلسطينية في لبنان، بينما تعرضت الدولة اللبنانية لضغوط كثيفة من الأنظمة العربية المهزومة، من أجل إطلاق العنان للفدائيين الفلسطينيين ومنع المكتب الثاني من لجم المخيمات. انفلتت الأوضاع في المخيمات الفلسطينية، التي شعرت فجأة وأخيرًا بالتحرر من قيود الاستخبارات الثقيلة، وبدأت أسطورة الفدائي الفلسطيني تنغزل، مانحة سكان المخيمات المقهورين ثقة بالنفس غير معهودة، وتضخمًا في الإحساس بالذات والهوية وقدرة السلاح على التغيير، إلى أن وصل الأمر للتناوش مع الجيش اللبناني. بدأت في خريف عام 1969 اشتباكات بين المسلحين الفلسطينيين في مخيم نهر البارد والجيش اللبناني، سرعان ما امتدت إلى مخيمات الجنوب اللبناني والبقاع، ودفعت سوريا بمجموعات مسلحة من حركة طلائع حرب التحرير الشعبية – قوات الصاعقة، الموالية لها للاشتباك مع مواقع للجيش اللبناني على الحدود السورية لتخفيف الضغط على المخيمات، وإجبار الجيش اللبناني على وقف هجماته عليها. وفي محاولة لاحتواء الموقف، توجه العماد «إميل البستاني» قائد الجيش اللبناني إلى القاهرة للقاء رئيس منظمة التحرير «ياسر عرفات» في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 1969، وهو اللقاء الذي تمخض عنه اتفاق القاهرة، وبداية تأسيس دولة فلسطينية داخل الدولة اللبنانية.
بعد مذابح أيلول الأسود في الأردن، انتقل الجسد الرئيسي للثورة الفلسطينية إلى لبنان، البلد الصغير الهش الذي يرقب تطورات الحوادث من حوله متوجسًا، وبعد عقد من القمع القاسي والمذل من جانب الاستخبارات العسكرية والأمن اللبناني، شعر سكان المخيمات والفدائيين في لبنان بتخفف وتحرر مفاجئين؛ لأن الأنظمة العربية المضروبة، وفي مسعاها لترميم أوضاعها وسمعتها بسرعة، لجأت إلى التحالف مع المقاومة الفلسطينية، مانعة النظام المُهدَد في بيروت من لجم المسلحين الفلسطينيين.
الاتفاق
في لبنان، غدت المارونية السياسية الحاكمة شديدة الحساسية لأي تغيير على الأرض من شأنه تهديد التوازن العرفي الذي منحها موقع الصدارة منذ الاستقلال. وأكثر من غيره، كان الوجود الفلسطيني في لبنان يقض راحة الأطراف المستفيدة من الوضع القائم، فهو يضيف كتلة لا يُستهان بها إلى مسلمي البلد، منذرًا بقلب الميزان الديموجرافي لصالحهم، ثم إنه يضيف إلى بؤر الفقر اللبناني – المسلمة في أكثريتها – مادة بشرية جديدة تهدد بانفجار طبقي.
تنبهه اليمين اللبناني مبكرًا لظاهرة تسلح المخيمات الفلسطينية، والجرأة المتزايدة التي راح الفدائيون يبدونها بعد التحرر من ضغط الجيش اللبناني، فبدأت قوى اليمين بدورها، المهجوسة بمخاوف فقدان الامتيازات، وبالتحديد ميليشيا الحزبين المسيحيين الرئيسيين؛ الكتائب بزعامة بيير الجميل والوطنيين الأحرار بزعامة كميل شمعون، بدأت في التسلح وإقامة معسكرات التدريب للشباب منذ مطلع السبعينيات، بمساعدة الجناح المسيس الموالي للسلطة المارونية داخل الجيش.
ومدفوعة بالخسائر الموجعة للعمليات الانتقامية الإسرائيلية ضد الفدائيين الفلسطينيين على الأراضي اللبنانية، وإدراكًا منها لاستحالة العودة إلى مرحلة إطلاق يد الجيش والاستخبارات في لجم انفلات المخيمات الفلسطينية، بدأت السلطة اللبنانية في محاولة العثور على صيغة مستحيلة عمليًا لتنظيم التعايش بين الوجود الفلسطيني والسيادة اللبنانية. التقى العماد «إميل بستاني» قائد الجيش اللبناني برئيس منظمة التحرير الفلسطينية «ياسر عرفات» في بيروت في مايو/أيار 1969، ووقعا اتفاقًا يسمح بتسلح الفدائيين في لبنان، على أن تكون جميع تحركاتهم تحت إشراف الجيش وبالتنسيق معه، غير أن رئيس الحكومة اللبنانية «رشيد كرامي» والرئيس «شارل حلو» رأيا في الاتفاق مساسًا بسيادة لبنان، ثم إنه كان في النهاية بلا ضامن، فرفضاه واعتُبر لاغيًا. في خريف العام 1969، وقعت مناوشات خفيفة بين الجيش اللبناني والمسلحين الفلسطينيين بمخيم نهر البارد شمال البلاد، سرعان ما اتسعت رقعتها وامتدت إلى مخيمات البقاع والجنوب، ودخلت دمشق على الخط بإرسال وحدات من جيش التحرير الفلسطيني ومنظمة طلائع حرب التحرير الشعبية – قوات الصاعقة، الموالية لها للاشتباك مع مواقع للجيش اللبناني على الحدود وتخفيف الضغط عن المخيمات.
هنا طلب «حلو» من الرئيس المصري «جمال عبد الناصر» التدخل، لعلمه بما يتمتع به الأخير من نفوذ على منظمة التحرير، فاستدعى الرئيس المصري الطرفين إلى القاهرة في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 1969، وبعد أيام من التفاوض وُقع في 4 نوفمبر/تشرين الثاني اتفاق القاهرة، الذي كان تقريبًا نسخة من اتفاق مايو/أيار الملغي، وقد قضى برفع الكثير من القيود التي كانت مفروضة على المخيمات وعمل الفلسطينيين، غير أن مربط الفرس فيه كان البنود الخاصة بتنسيق العمليات الفدائية ضد إسرائيل مع السلطات اللبنانية. هذه المرة، قبل لبنان الاتفاق الذي رُفض في مايو/أيار بفضل رعاية وضمان «عبد الناصر» له، وهناك من يذهب إلى أن العماد «بستاني» كان يتطلع بلهفة إلى منصب الرئاسة، وكان يرغب في ضمان موقف منظمة التحرير والفدائيين بشعبيتهم الكبيرة في لبنان إلى جانبه، وربما يفسر ذلك اشتراط الطرف الفلسطيني في مفاوضات القاهرة أن يكون «بستاني» هو المفاوض اللبناني أمامه.
الدولة
اتفاق القاهرة ولد ميتًا، خاصة فيما يتعلق بالتنسيق مع الجيش اللبناني لتنظيم عمليات التسلل إلى الأراضي المحتلة؛ لأنه كان من الصعب على الفدائيين الفلسطينيين المتشككين في انحيازات ومسلك الدولة اللبنانية تجاه الثورة أن يكشفوا خططهم للجيش، ولعل السلطة اللبنانية كانت تعرف أن هذا الاتفاق محكوم بالفشل من قبل توقيعه، وربما أرادت من وراء الاتفاق أن تُشهد الجميع، داخل وخارج لبنان، على أن الطرف الفلسطيني لا عهد له، وأنه يريد أخذ لبنان إلى حيث غرق الأردن. في الأردن، ضاق الملك حسين ذرعًا بتصرفات الفدائيين، وأقدم في أيلول/سبتمبر 1970 على مذبحة ضد قواعد الفدائيين، وبعدها جعلت حقائق الجغرافيا والسياسة من لبنان الملاذ الوحيد الحتمي والمرتكز الوحيد الممكن أمام الثورة الفلسطينية، فالنظامان المركزيان العسكريان القويان في القاهرة ودمشق لا يتحملان وجود تنظيم مسلح مستقل خارج عن إطار أجهزة الدولة، لكنهما على أتم استعداد لدعم ارتكاز هذا التنظيم في بلد ضعيف كلبنان، طالما كان بعيدًا عن أراضيهما، وطالما كان ذلك يمنحهما فرصة الظهور بمظهر راعي المقاومة وحاميها. تزامن انتقال الجسد الرئيسي للثورة الفلسطينية إلى لبنان مع أحداث فارقة في العام ذاته، أثرت بشكل كبير على مسار الحوادث في لبنان. فغيّب الموت «جمال عبد الناصر»، الذي رعى مصالحة القاهرة بين الملك «حسين» و«عرفات»، والتي انتقلت بموجبها قيادة منظمة التحرير وقواعدها من الأردن إلى لبنان، ووصل الفريق «حافظ الأسد» وزير الدفاع السوري إلى قمة الحكم في دمشق بانقلاب بعثي داخلي، وهو الذي ضغط لتصعيد «سليمان فرنجية» رئيسًا للبنان بناءً على رغبة سوفييتية.
كان «سليمان فرنجية» من أشد المعارضين لتدخل الجيش في السياسة اللبنانية، وفور تسلمه رئاسة البلاد لجأ إلى تفكيك المكتب الثاني – الاستخبارات العسكرية اللبنانية – وتحجيم نفوذ الأمن السياسي، وكان لذلك أثر لا يمكن إغفاله على إضعاف قبضة الدولة، وتمدد الوجود الفلسطيني المسلح وتمتعه بمزيد من التخفف من ضغط الجيش، معززًا بانتقال السلاح الفلسطيني إلى لبنان بعد أيلول الأسود من جهة، وشرعنة وجوده من جهة أخرى بموجب اتفاق القاهرة، الذي نظر إليه اليمين اللبناني بتشكك وسخط غير محدودين. وشيئًا فشيئًا، راحت «دولة منظمة التحرير» في لبنان تتمدد خارج المخيمات، بقدر ما تتراجع الدولة اللبنانية تحت ضغط أنظمة عربية تلاقت مصالحها على تهيئة لبنان كحاضنة جغرافية للثورة الفلسطينية، فهناك النظام الأردني الذي تخلص أخيرًا من صداع الفدائيين، والنظام السوري الذي رأى فرصة لتعزيز نفوذه في لبنان – وهو يعتبره جزءًا من سوريا اقتُطع منها بظلم استعماري – من خلال زرع حلفاء فلسطينيين هناك، وفرصة موازية لحشر الثورة الفلسطينية في لبنان – حديقته الخلفية – ما يسهل له إحكام قبضته عليها، وهو ما لم يكن يتسنى له مع ارتكاز الثورة في الأردن، الخصم الهاشمي التاريخي. وهناك بعد ذلك الدول العربية الجمهورية الطامعة في نفوذ إقليمي عبر بوابة القضية القومية الأولى؛ قضية فلسطين، مثل الجزائر والعراق وليبيا، التي هددت جميعًا بقطع العلاقات مع لبنان وعزله ما لم يسمح بتحول أراضيه إلى قاعدة فدائية، مضحيًا بوجود الدولة وسيادتها، وهو أمر لم تكن تلك الأنظمة تدفع ثمنه على أي حال، ويهيئ لها في الوقت ذاته الفرصة لادعاء رعاية المقاومة. هنا بدا جليًا أن منظمة التحرير لم تعِ درس أيلول الأسود بما يكفي للحول دون تكرار المأساة ذاتها في لبنان، وإن بشكل أكثر عمقًا ومأساوية وأطول في الامتداد الزمني بكثير، نتيجة افتقار لبنان لما يتمتع به الأردن من جيش قوي نسبيًا لا يخيم عليه شبح التفسخ الطائفي طوال الوقت، وحتى فيما سوى ذلك لم يكن لبنان هو الأردن من كثير وجوه.
الطريق إلى الحرب
كان من حظ لبنان السيئ أن الفترة التي شهدت تمدد الوجود الفلسطيني بداخله، كان الغليان اللبناني يحتدم بفعل التناقضات الطبقية الصارخة، وكان اليسار بزعامة كمال جنبلاط وحزبه التقدمي الاشتراكي، يقود حركة طلابية وعمالية بالغة الحيوية تنادي بالتغيير وتجاوز صيغة المحاصصة الطائفية وتوزيع الثروة بشكل أعدل. كانت النتيجة المحتومة في ظل هذه الأجواء أن يجد كل من الفدائيين الفلسطينيين والقوى الوطنية اللبنانية في الآخر حليفًا طبيعيًا له، فالقوى الوطنية – اليسارية بالأساس – توفر غطاءً شعبيًا وركيزة لشرعنة الوجود الفلسطيني في لبنان، ضدًا على موقف المارونية السياسية الحاكمة، المنزعجة إلى حد الهلع من هذه التغيرات التي جرت أمام أعينها في موازين القوى في الشارع اللبناني.
والوجود الفلسطيني بدوره شكّل حماية مسلحة للقوى الوطنية اللبنانية، وأحدث توازنًا نوعيًا في ميزان القوة (العسكري) مع المارونية الحاكمة، التي أدخلت الجيش في حسابات القوة الخاصة بها، كحامٍ أخير لصيغة المحاصصة الطائفية التي منحتها القسم الأكبر من الامتيازات السياسية، ونصيب الأسد من المكاسب الاقتصادية تاليًا، ومن ثم رأت القوى الوطنية اللبنانية فرصة مواتية لتوظيف السلاح الفلسطيني لصالحها، في معركة قادمة لا محالة لإعادة توزيع الأدوار السياسية والثروة. في هذا السياق، وقعت حوادث خلال النصف الأول من عقد السبعينيات، وضعت قطار العلاقات الفلسطينية–اللبنانية، واللبنانية–اللبنانية على خط أحادي الاتجاه نحو محطة الانفجار وبسرعة مذهلة، مثل أول عملية إسرائيلية موسعة في جنوب لبنان عام 1972 ضد قواعد الفدائيين، والاشتباك مع مسلحين فلسطينيين في حي الدكوانة على مشارف مخيم تل الزعتر في صيف 1974، وكان الطرف اللبناني فيه هذه المرة هو مسلحو حزب الكتائب لا الجيش. على أن الحادث المفصلي الذي انقطع بعده خط الرجعة على اندفاع القطار إلى محطة الحرب كان عملية الفردان الشهيرة في 10 إبريل/نيسان 1973، التي قام خلالها عملاء إسرائيليون باغتيال عدد من قيادات منظمة التحرير في بيروت؛ هم «كمال عدوان» و«كمال ناصر» و«محمد يوسف النجار»، واستهداف عدد من المصالح الفلسطينية.
اتُهمت الدولة اللبنانية فلسطينيًا بالعجز عن صد العدو الإسرائيلي – بل والتواطؤ معه – وفي مايو/أيار 1973، انفجرت اشتباكات عنيفة بين الفدائيين والجيش اللبناني، الذي استخدم سلاحه الجوي ضد المخيمات وقواعد الفدائيين، وسرعان ما مارست الأنظمة العربية ضغطها المعتاد غير المكلف بالنسبة لها على النظام اللبناني لكف يده. وفي النهاية أذعن «فرنجية» لهذا الضغط، لكنه أعلن صراحة أن الدولة لن تتحمل مسئولية الدفاع عن الفلسطينيين الذين يتحرشون بإسرائيل، وأن عليهم أن يتدبروا أمر حماية أنفسهم. كان هذا خطأً كبيرًا من «فرنجية»؛ لأنه من حيث لم يقصد بالتأكيد، اعتُبر ذلك مبررًا إضافيًا لتوسع الفلسطينيين في التسلح. لكن من جانب آخر، اجتمع «فرنجية» بالزعيمين الكبيرين للموارنة؛ «كميل شمعون» و«بيير الجميل»، ونبههم إلى أن الجيش اللبناني لم يعد من الممكن التعويل عليه في لجم التمدد الفلسطيني، وأن عليهم – أي قوى الانعزال المارونية السياسية بالأساس – الاعتماد على أنفسهم وتولي هذه المهمة نيابة عن الدولة. وفي مسعى أخير للجم انفلات الموقف، جرى حوار بين الطرفين الفلسطيني واللبناني في فندق «ملكارت»، وصيغت ورقة تفاهم مستحيلة التنفيذ عمليًا كالعادة، انتهى مصيرها في الأدراج مثل اتفاق القاهرة. كان يبدو أن جميع الأطراف تتحرك بالرغم منها على منحدر زلق لا يسمح بالتوقف والمراجعة، في نهايته كانت تلوح الحرب منتظرة شرارة لم تتأخر كثيرًا.
موضوع: رد: قصة فلسطينيو لبنان الجمعة 15 سبتمبر 2017 - 21:22
دولة الفكهاني ولعبة التوريط والتورط الحلقة الثالثة: (1975 – 1982)
عندما بدأت الحرب الأهلية اللبنانية منتصف السبعينيات، كان العنوان الرئيسي للاقتتال اللبناني–اللبناني بعيدًا عن العامل الفلسطيني هو الخلاف حول أولوية الأمن على الإصلاح أم أولوية الإصلاحات السياسية كمدخل لإحداث التوازن الاجتماعي والاقتصادي والأمن تاليًا، فبينما طالبت قوى اليسار بالبدء في الإصلاح بشكل فوري، تمسكت قوى اليمين بفرض الأمن أولًا واستعادة هيبة الدولة.
الدولة
الحق أن قسمًا كبيرًا من اللبنانيين أرادوا للبنان أن ينخرط بكل مقدراته في الصراعات العربية مع الغرب ومع إسرائيل، في مواجهة قوى الانعزال المتذمرة من تحميل لبنان ما لا ذنب له فيه من صراع الفلسطينيين مع إسرائيل وما يجره على البلد من ويلات. ومرة أخرى فرضت طبائع الأمور أن يكون معسكر اليسار/القوميين، الذي نظم صفوفه تحت اسم (الحركة الوطنية اللبنانية)، بزعامة «كمال جنبلاط»، زعيم الدروز والحزب التقدمي الاشتراكي، هو المؤيد لتحمل لبنان نصيبه من الصراع تأييدًا للثورة الفلسطينية والعمل الفدائي
في حين انحاز معسكر المسيحيين/اليمين/الوطنيين، الذي اصطف تحت اسم (الجبهة اللبنانية)، بزعامة «كميل شمعون»، الرئيس الأسبق وزعيم حزب الوطنيين الأحرار، انحاز لفكرة الانعزال.
وفي حين تمتعت الجبهة اللبنانية وميليشياتها (القوات اللبنانية) بقدر كبير من النقاء الطائفي المسيحي، كانت الحركة الوطنية وميليشياتها (القوات المشتركة اللبنانية الفلسطينية) تضم خليطًا من المسلمين والمسيحيين، وإن كانت تربأ عن الطائفية وتعتنق نسقًا قيميًا وسياسيًا علمانيًا ذا صبغة يسارية غالبة. من جانب آخر، أرادت القوى الوطنية/اليسار اللبناني بالمقابل من الفلسطيني دعمًا عمليًا على الأرض، بالتسليح والتدريب والإسناد القتالي في المعارك المقبلة حتمًا مع قوى اليمين المسلحة، ومع الدولة بما هي تعبير صريح عن السيادة اليمينية المسيحية المارونية الرأسمالية، وما يتبعها من قوى الأمن والجيش. وفي حقيقة الأمر لم يكن هناك أمام الفلسطينيين متسع كبير لرفض هذا العرض، ولم يكن أمامهم ترف البقاء في لبنان دون دفع ثمن الغطاء الشرعي الذي وفرته لهم الحركة الوطنية، أو ترف مراقبة الصراع اللبناني – اللبناني من بعيد والعزوف عن التورط فيه. لكن الانجراف وراء معسكر الحركة الوطنية كان يقتضي التضحية بوضع لبنان كدولة، وتحويلها إلى وظيفة استراتيجية باعتبارها المرتكز الجغرافي للثورة الفلسطينية، ونسيان أمر السيادة، وهو ما كانت الجبهة اللبنانية مستعدة لدفع أي ثمن للحيلولة دونه. بل إن «بيير الجميل»، مؤسس وزعيم حزب الكتائب الماروني جهر دون مواربة بالاستعداد للتحالف مع الشيطان من أجل منع الفلسطينيين من العصف بسيادة الدولة اللبنانية، التي نصب اليمين نفسه حاميًا لها، وبالواقع لم تكن هناك خيارات كثيرة لتفسير ما عناه الشيخ «بيير» بالشيطان، وكان الجميع يعي أنه يقصد إسرائيل بالتحديد.
التورط
في هذا الوقت من منتصف السبعينيات، وبعد الاستهداف الإسرائيلي لقيادات منظمة التحرير في عملية الفردان الشهيرة في أبريل/نيسان 1973، وتصريح الرئيس «سليمان فرنجية» بأن الدولة اللبنانية غير مسئولة عن حماية الفلسطينيين الذين يتحرشون بإسرائيل من الأراضي اللبنانية، استدعت قيادة المنظمة والفصائل الفلسطينية قسمًا كبيرًا من ميليشياتها المسلحة من القواعد الفدائية في الجنوب والمخيمات، وأقامت لهم تمركزات دائمة في المدن، بخلاف تمركزات ميليشيات اليسار اللبناني، التي تولت منظمة التحرير إمدادها بالسلاح والعتاد والتدريب. والحق أن منظمة التحرير في هذه المرحلة كانت تتوفر على موارد مالية هائلة، من منح البترودولار المتدفقة من الخليج اتقاءً لسلاطة لسان المنظمة وأذرعها الإعلامية، إلى المساعدات السوفيتية ومساعدات الجمهوريات العربية؛ الكل كان يمنح المنظمة ليشتري اسهما فيها ويحولها إلى ورقة ضغط. وبدورها، كانت المنظمة توظف هذه الموارد المالية بسخاء، وتضخها في الشارع اللبناني والأحزاب والصحف المستعدة للنطق باسمها، ومراكز الأبحاث والإذاعات، بل وتمول سهرات وحفلات في أفخم الفنادق والملاهي الليلية، وتجمع حولها ما تيسر من نجوم السياسة والصحافة والفن ومشاهير المجتمع اللبناني. وبالجملة نشأت حول مركز قيادة منظمة التحرير في حي الفكهاني ببيروت الغربية تكتلات من المنتفعين، والصارخين بملء الأفواه دعمًا للقضية، إما عن قناعة حقيقية مخلصة أو عن جشع مصلحي بحت، وأمام عين اليمين اللبناني الساخط راحت دولة الفكهاني تنمو بشكل سرطاني وتمتد أذرعها خارج المخيمات إلى المدن، متحولة إلى مركز نفوذ يناطح القصر الرئاسي نفسه في ضاحية بعبدا، ولم تبد على أحد الرغبة في التنبه إلى أن كارثة أيلول الأسود توشك أن تكرر نفسها على نحو أكثر مأساوية بكثير.
كرة الثلج على المنحدر
توالت النذر بانفجار الوضع اللبناني تباعًا، دون أن تدفع أحدًا للتروي أو إعادة النظر في المواقف، وفي صباح 13 أبريل/نيسان 1975 تعرض الشيخ «بيير الجميل» لمحاولة اغتيال فاشلة، بينما كان يشارك بافتتاح كنيسة سيدة الخلاص، أودت بحياة أحد مرافقيه، وعند الظهيرة قام مسلحون في منطقة عين الرمانة وسط بيروت بفتح النار على حافلة كانت تقل فلسطينيين عائدين من احتفال للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى مخيم تل الزعتر، وخلف الهجوم وراءه 26 قتيلًا فلسطينيًا.
تبادل الفلسطينيون والكتائبيون الاتهامات بالمسئولية عن محاولة اغتيال الشيخ «بيير» وهجوم عين الرمانة. المهم أن هذا اليوم المشئوم يؤرخ باعتباره بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وبعده بدأت دائرة مفرغة لعينة من العمليات الثأرية بين الطرفين، بدت أشبه بكرة جليد على منحدر، يزداد حجمها وكتلتها وسرعتها، ولا شيء يبدو قادرًا على وقف اندفاعها.
بدأ الفلسطينيون في تسيير دوريات مسلحة في شوارع بيروت، بما في ذلك معقل الكتائب في حي الأشرفية ببيروت الشرقية. انفلتت الأوضاع في الشارع وغذت الثارات بعضها، وإذ ارتكبت الكتائب مجزرة السبت الأسود في 6 ديسمبر/كانون الأول 1975 التي قتل الكتائبيون فيها عشرات المسلمين اللبنانيين والفلسطينيين، ردت القوات المشتركة بفتح حرب الفنادق وطرد الكتائبيين نهائيا من بيروت الغربية. وإذ هاجمت القوات اللبنانية منطقة الكرنتينا – المسلخ في بيروت الشرقية في 19 يناير/كانون الثاني 1976 ذابحة مئات اللبنانيين والفلسطينيين المسلمين، انقضت القوات المشتركة على بلدة الدامور المسيحية على طريق الجنوب ذابحة مئات المسيحيين.
اكتسبت الحرب منذ بدايتها طابع الفرز المناطقي، فحرب الفنادق فتحتها القوات المشتركة ردًا على مجزرة السبت الأسود، ولكن الأهم لإنهاء تواجد الكتائب في لسان ممتد داخل بيروت الغربية، كما أن مجزرة الدامور ارتكبتها القوات المشتركة لتطهير جيب مسيحي يمكن أن يعوق الطريق بين بيروت ومعاقل الفدائيين الفلسطينيين في الجنوب.
مخيم تل الزعتر أيضًا كان شوكة فلسطينية في بيروت الشرقية، منطقة السيطرة الكتائبية الرئيسية، ومن ثم كانت تصفيته مطلبًا مسيحيًا أساسيًا، وقد تعرض خلال الشهور الستة الأولى من عام 1976 لانقضاضات متكررة من ميليشيات الكتائب ونمور الأحرار والتنظيم ووحدات مسيحية من الجيش اللبناني الذي تفسخ طائفيًا، ثم حوصر بقسوة بدءًا من يونيو/حزيران واقتُحم في 14 أغسطس/آب 1976 بمباركة من دمشق.
الخطوط الحمر
بدعوة من الحركة الوطنية اللبنانية وزعيمها «كمال جنبلاط»، أرسلت دمشق وحدات من جيش التحرير الفلسطيني ومنظمة طلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة) المرابطة على أراضيها، تضم في تشكيلها جنود سوريين، في محاولة لمنع الأمور من الانفلات أكثر من ذلك، ولعب دور الوسيط/المرجع بين طرفي الحرب.
لم يبتلع الرئيس السوري «حافظ الأسد» قط استقلال لبنان، كما لم يبتلع قط مبدأ استقلال القرار الفلسطيني، وكانت رغبته عارمة في الإمساك بكلتا الورقتين – لبنان وفلسطين – في مناوراته مع إسرائيل والغرب، فلا تستقر تسوية نهائية للصراع في الشرق الأوسط إلا عبر إرضائه. من ثم لم يجد «الأسد» بدًا من التدخل عسكريًا في لبنان، ناويًا منع أي من طرفي الحرب من الحسم العسكري وإنزال هزيمة قاصمة بالطرف الآخر، كي تظل الأطراف كلها بحاجة إلى مرجعيته، ثم إن نقطة أخرى كانت تقلقه بشده وتبقي عينه مفتوحة على اتساعها صوب لبنان، وهي علاقة مسيحيي لبنان بإسرائيل. منذ البدايات المبكرة للحرب في أواسط 1975، بدأت اتصالات جس نبض بين الحزبين المارونيين الكبيرين؛ الكتائب والوطنيين الأحرار، من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، تسارعت وتصاعد مستواها حتى التقى الشيخان «كميل شمعون» و«بيير الجميل» برئيس الوزراء الإسرائيلي «إسحاق رابين» على متن زورق صواريخ إسرائيلي، عارضين التعاون وطالبين مساعدة عسكرية لم تبخل بها إسرائيل. وفي أواسط 1976، بدا معسكر القوات المشتركة على وشك الحسم العسكري ضد المسيحيين في معقلهم الرئيسي بجبل لبنان، وهنا كانت الجبهة اللبنانية هي التي طلبت من «الأسد» التدخل مباشرة ولجم القوات المشتركة، فدخل الجيش السوري لبنان في أول يونيو/حزيران، واشتبك في عدة مواقع مع الفلسطينيين وميليشيات اليسار اللبناني، وشارك في حصار مخيم تل الزعتر.
كان «الأسد» يتخوف من أن يدفع الضغط العسكري للقوات المشتركة اليمين اللبناني الحاكم للجوء إلى إسرائيل والارتماء في أحضانها، فيخسر بذلك ورقة لبنان، لكن بسبب الطبيعة شديدة التعقيد للحرب اللبنانية والهدف الصعب لتدخله؛ أي حرمان أي طرف من الحسم العسكري، لم تستقر تحالفات جيشه داخل لبنان.
على أن ما أثار الاستغراب آنذاك هو موقف الولايات المتحدة وإسرائيل من الدخول العسكري السوري المباشر في لبنان، فبدلًا من معارضته كما كان يُفترض، وجدتا فيه فرصة لتحجيم النفوذ الفلسطيني في لبنان. وعبر واشنطن، أملت تل أبيب على «الأسد» اتفاقًا شفهيًا عرف باتفاق الخطوط الحمر، قضى بألا يتقدم الجيش السوري جنوب طريق بيروت دمشق بأكثر من عشرة كيلومترات، وألا يُدخل بطاريات صواريخ أرض – جو إلى لبنان. عندما أعلن الرئيس المصري «أنور السادات» نيته زيارة القدس في سبتمبر/أيلول 1977، انقلبت الأمور رأسًا على عقب في لبنان، إذ اصطفت منظمة التحرير مع دمشق وأطراف عربية أخرى في جبهة واحدة لرفض تحرك السادات التسووي، وأدى ذلك إلى تقارب على الأرض بين الجيش السوري والقوات المشتركة، مما كان يعني عمليًا انقلابًا سوريًا على حماية الجبهة اللبنانية. وفي مارس/آذار 1978، اجتاح الجيش الإسرائيلي جنوبي لبنان، بغرض إزالة قواعد الفدائيين الفلسطينيين، وتطهير منطقة جنوب نهر الليطاني حتى الحدود الإسرائيلية من الوجود العسكري الفلسطيني، ثم انسحب بعد أيام تاركًا وراءه شريطًا عازلًا في حماية الميليشيا العميلة؛ جيش لبنان الجنوبي بقيادة الرائد سعد حداد.
غير أن الوجود الفلسطيني السياسي والعسكري في لبنان كان على موعد آخر مع ضربة إسرائيلية أخرى، قاصمة وحاسمة هذه المرة، في يونيو/حزيران 1982، وضعت كلمة النهاية لفصل صدامي ودام في العلاقات الفلسطينية اللبنانية، وأزاحت الستار عن فصل آخر لا يقل دموية.