كَثُر الحديث عن أزمة «سد النهضة» وتنوعت المداخل التي دُرست منها، بداية من جذورها التاريخية وليس انتهاء بأسباب إخفاق الدبلوماسية المصرية في الوصول إلى حل لها على مدى 7 سنوات. رغم هذا ظل هناك قصورٌ في تناول شقين مهمين للأزمة، أحدهما متعلق بآثار السد السلبية على مصر بشكل علمي، بعيدًا عن البروباجندا الإعلامية، والآخر، متعلق بمدى جهوزية مصر عسكريًا للقضاء على خطر السد. هذا ما سنتحدث عنه.
مخاوف مدعومة بالأدلة
بدأت المفاوضات المصرية – الإثيوبية حول «سد النهضة» قبل حوالي سبع سنوات، ورغم هذا، لا توجد دراسات فنية رسمية نهائية توضح أضرار السد بشكل محدد على مصر. فحتى الآن ما زالت مرحلة المفاوضات لم تتجاوز عتبة الموافقة على التقرير الاستهلالي الخاص بدراسات السد.
وفق المتاح من معلومات موثوقة، فالمخاوف من السد تنقسم إلى شقين، أولهما يتعلق بجسد السد ومدى ملاءمته مع ظروف المنطقة المشيّد عليها ومدى جودة تصميمه، والآخر متعلق بحجم المياه التي سيحجبها السد من حصة مصر البالغة 56 مليار متر مكعب سنويًا، وتأثير هذا على سكانها وأراضيها الزراعية.
فيما يخص الشق الأول المتعلق ببنية السد وتصميمه، فقد أشار تقرير سابق (غير منشور بشكل رسمي) للجنة الثلاثية التي شُكلت من خبراء مصريين وسودانيين وإثويبيين ودوليين لدراسة آثار السد، إلى أن معايير التصميم المبدئي لم توضح سوى الطبيعة العامة للسدّ من دون ذكر تفاصيل حول مدى ملاءمة جسم السدّ مع ظروف المنطقة المشيّد عليها.
وبحسب التقرير نفسه، فالتصميمات الإنشائية لأساسات «سد النهضة» لا تأخذ في الاعتبار انتشار الفواصل والتشققات الكثيفة المتواجدة في الطبقة الصخرية أسفل السد، بما يهدد بانزالق السد وانهياره. وحذرت دراسة أعدها أستاذ السدود والمياه بجامعة كيوتو اليابانية «سامح قنطوش»، من تراكم الطمي داخل بحيرة سد النهضة نتيجة لعدم وجود فتحات كافية عند القاع لتمرير المواد الرسوبية، وهو ما يزيد من احتمالات انهياره.
وسيؤدي انهيار السد إلى آثار تدميرية وخيمة على كل من مصر والسودان، إذ يمكن لكمية المياه المندفعة من السد (74 مليار متر مكعب) أن تصل إلى القاهرة وتغرقها في خلال ثلاثة أيام (بعد أن يغرق إثيوبيا والسودان ومناطق واسعة من مصر)، بحسب الدكتور أبو العلا أمين، القائم بأعمال رئيس المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية.
أما الشق الثاني من المخاوف والمتعلق بحجم المياه التي سيحجبها السد من حصة مصر، فهو بدوره ينقسم إلى جزءين، أحدهما يتعلق بحجم المياه التي سيتم حجبها خلال فترة ملء خزان السد، والآخر بالفترة التي تلي عملية الملء. وحسب التقارير الصحفية المنشورة، فإن الخلاف بين مصر وإثيوبيا منصب بشكل أساسي على المدى الزمني التي سيتم فيه ملء الخزان.
ترغب إثيوبيا في ملء خزان السد خلال 3 سنوات من أجل تسريع عملية إنتاج الكهرباء منه، بينما ترى مصر أن أقل مدى زمني لعملية ملء خزان «سد النهضة» يجب ألا يقل عن 6 سنوات (بعض التقارير تتحدث عن 7 و10 سنوات). فماذا يعني الأمر في كلتا الحالتين؟
وفق نموذج محاكاة أعدته الدكتورة «نهى سمير دنيا»، رئيس قسم الهندسة البيئية بمعهد الدراسات البيئية، بجامعة عين شمس، بغرض رصد الآثار المتوقعة للسد، فإذا كانت فترة ملء الخزان 3 سنوات فإنه سيؤثر تأثيرًا شديدًا على حصة مصر والسودان من المياه بنقص يمثل نحو 24 مليار متر مكعب سنويًا خلال فترة الملء.
وبحسب النتائج الأوليّة لدراسة نموذج المحاكاة الذي صمّمته إثيوبيا نفسها لبحيرة التخزين، فإن مصر «قد لا تتأثر» في بداية ملء خزان المياه خلف «سدّ النهضة» إذا كانت هذه السنوات ممطرة، أما إذا تم ملء الخزان في سنوات الجفاف، عندما يصل السدّ العالي في مصر إلى أقل مستويات التشغيل، فإن ذلك سيؤدي إلى وجود تأثير كبير على إمدادات المياه إلى مصر، وفق التقرير الثلاثي الذي سبق الإشارة إليه.
وعن تأثير هذا على قطاع الزراعة المصري، تقول وكالة أسوشيتدبرس الأميركية، إن إحدى الدراسات التي أجراها أحد أساتذة كلية الزراعة بجامعة القاهرة، توضح أن مصر سوف تخسر 51% من أراضيها الزراعية في حالة ملء الخزان في 3 سنوات. ويعد ذلك سيناريو كارثيا يؤثر تأثيرًا بالغًا على الغذاء المتوفر ويؤدي إلى بطالة عشرات الآلاف من العاملين في دولة يعمل ربع سكانها في مجال الزراعة.
وبحسب مسؤول في وزارة الري، تحدث إلى أسوشيتدبرس، فإن الدراسات الحكومية الداخلية تشير إلى أن كل نقصان في المياه بمقدار مليار متر مكعب يؤدي إلى فقدان 200 ألف فدان من الأراضي الزراعية ويؤثر على سبل معيشة مليون مواطن، نظرًا لأن كل خمسة أشخاص في المتوسط يعيشون على المحصول الناتج عن الفدان الواحد.
ووفق نفس الدراسة التي أشارت لها الوكالة، فإن ملء الخزان خلال 6 سنوات يؤدي إلى فقدان 17% من الأراضي الزراعية. وكما هو واضح كلما زاد عدد سنوات ملء الخزان قل الأثر السلبي على حصة مصر من المياه وعلى قطاعها الزراعي والقطاعات المرتبطة به.
بعد ملء خزان «سد النهضة»، فإنه من المتوقع أن تقل حصة مصر من المياه بـ5 مليارات متر مكعب سنويًا، وفق نموذج محاكاة أعدته الدكتورة نهى سمير دنيا، وهو ما قد يؤدي إلى بوار ما يقرب من مليون فدان، وفقدان آلاف العمال لوظائفهم، حال استمر نظام الري في مصر بنظام الغمر ولم يتحول إلى الري بالتنقيط، كما ستتأثر برامج استصلاح الأراضي في مصر بشكل مباشر. ووفق تقرير صدر عن معهد «ماسوتشوسيس» للتكنولوجيا؛ فإن السد الإثيوبي سيؤدي إلى تزايد معدل تراكم اﻷملاح في اﻷرض الزراعية في دلتا النيل بشكل كبير، وهو ما سيؤثر على خصوبة التربة.
ووفق دراسة قنطوش فإن تأثيرات السد تشمل منع وصول الطمي للسودان، وتقليل كميات المياه ونظام السريان إلى مصر، وهو أمر سيتبعه تدهور في جودة المياه وتلوثها. كما أنه في غضون 10 سنوات سينخفض مجرى نهر النيل باتجاه مصر والسودان أسفل «سد النهضة» بأكثر من 5 أمتار حيث سيؤثر السد على تآكل المجرى النهري بما يهدد ساحل البحر المتوسط والذي سيطغى على أراضي الدلتا ويغرقها. لذلك يحتاج الأمر إلى تدابير هندسية وبيئية سريعة قبل اكتمال إنشاء السد للحفاظ على السواحل المصرية من التآكل.
ويتوقع نموذج المحاكاة السابق الإشارة إليه، حدوث انخفاض لمنسوب المياه اللازمة لتشغيل السد العالى بنسبة 10% حتى عام 2070، وزيادة الانخفاض إلى نسبة تمثل 40% من عام 2070 حتى عام 2099. كما ستنخفض نسبة الطاقة الكهربائية المتولدة من السد (2100 ميغاواط) بنسبة 10% فى الفترة حتى عام 2040، وأن الانخفاض يتزايد حتى يصل إلى ما بين 16% و30% فى الفترة ما بين عامى 2040 و2070. كما سجل النموذج حدوث نقص حاد فى الطاقة يصل إلى ما بين 30% و45% فى الفترة من 2070 حتى 2099.
عن إمكانية الخيار العسكري
«الدولة الوحيدة التي لا تتعاون هي إثيوبيا، نحن مستمرون في التفاوض معهم بالوسائل الدبلوماسية، وبالفعل نحن نناقش التعاون العسكري مع السودان، لكن إذا وصل الأمر إلى أزمة، فسنقوم ببساطة بإرسال طائرة لقصف السد والعودة في نفس اليوم، أو يمكننا أن نرسل قواتنا الخاصة لتخريب السد، وتذكروا ما فعلته مصر في أواخر السبعينات، أعتقد أن ذلك كان في عام 1976، وقتها كانت إثيوبيا تحاول بناء سد كبير فقمنا بتفجير المعدات وهي في عرض البحر في طريقها إلى إثيوبيا».
عمر سليمان، رئيس المخابرات المصرية الأسبق.
في كل مرة تتعثر فيها مفاوضات «سد النهضة»، يُطرح خيار التدخل العسكري لحل الأزمة، سواء من المسؤولين أو من مقربين من دوائرهم. لكن بعيدًا عن القدرة السياسية على اتخاذ قرار توجيه ضربة عسكرية لإثيوبيا أو استهداف السد فقط، ماذا عن القدرة الفنية؟ هل تمتلك مصر من القدرات العسكرية ما يؤهلها لفعل ذلك؟
تمتلك مصر خيارين للقيام بعمل عسكري ضد إثيوبيا ككل أو «سد النهضة» بشكل خاص:
الأول: دعم الجماعات الانفصالية المسلحة لشن هجمات بالوكالة على الحكومة و«سد النهضة». ولن يكون إيجاد مثل هذه الجماعات أمرًا صعبًا، فهناك أكثر من 12 جماعة مسلحة في إثيوبيا. بعضهم يعمل على قلب نظام الحكم، والآخر يهدف إلى إقامة دولة مستقلة. يبدو أن مصر قد سبق وحاولت استخدام هذا الخيار، إذ أعلنت إثيوبيا، في آذار/ مارس الماضي، عن تصديها لهجوم مسلح استهدف «سد النهضة»، وقالت إن المسلحين ينتمون إلى «حركة 7 مايو» المعارضة والمحظورة. كما أعلنت أديس أبابا أيضًا، في أواخر تموز/ يوليو الماضي، عن نجاح السودان في توقيف مجموعة مسلحة قالت إنها تحركت من إريتريا لاستهداف «سد النهضة». ورغم أن القاهرة لم تتهم مباشرة بالوقوف وراء هذه التحركات، إلا أن اتهامات غير رسمية وجهت إليها.
الثاني: التدخل العسكري المباشر. يتفوق الجيش المصري على نظيره الإثيوبي بوضوح، يصلح للخدمة العسكرية في مصر 35.3 مليون نسمة مقابل 24.8 مليون في إثيوبيا، ويصل عدد القوات العاملة في الجيش المصري إلى 454 ألف شخص مقابل 162 ألف جندي في الجيش الإثيوبي. كما تبلغ إجمالي ميزانية الدفاع السنوية للجيش الإثيوبي 340 مليون دولار مقابل 4.4 مليار دولار للجيش المصري.
لكن كيف يمكن للقاهرة أن تشن هجومًا عسكريًا ضد أديس أبابا؟ هذه بعض السيناريوهات التي قد تحدث:
-التدخل البري: لا يوجد لمصر حدود مشتركة مع إثيوبيا، وهو ما يحمي الأخيرة نوعًا ما من خطر الهجوم البري. فهل تستطيع مصر استخدام أراضي الدول المجاورة لإثيوبيا للهجوم على السد؟ كانت هناك خطة مصرية سودانية في عام 2010، تقوم القاهرة بمقتضاها ببناء قاعدة جوية صغيرة على الأراضي السودانية لاستيعاب الكوماندوز المصريين الذين قد يتم إرسالهم إلى إثيوبيا لتدمير السد، لكن تدهور العلاقات المصرية السودانية يجعل إنجاز هذه الخطة أمرا مستبعدا للغاية، فالخرطوم الآن تفضل التحالف مع أديس أبابا على التحالف مع القاهرة.
تمتلك مصر كذلك علاقات جيدة مع دول أخرى تكن العداء لإثيوبيا كجنوب السودان وإريتريا، فهل تسمحان لمصر باستخدام أراضيها؟ هذه مخاطرة كبيرة لأنهما ستكونان عرضة لرد فعل إثيوبي عنيف، لكن إن حظيتا بإغراءات جيدة من القاهرة ربما تسمحان بذلك.
-التدخل البحري: تتفوق مصر على إثيوبيا بوضوح في العتاد البحري، فالقاهرة تمتلك 319 قطعة بحرية، في حين لا تمتلك أديس أبابا ولا قطعة بحرية واحدة. سيبدو الأمر منطقيًا إذا علمنا أن إثيوبيا دولة «حبيسة» لا تطل على بحار أو محيطات، وبالتالي لن تستطيع مصر مهاجمة إثيوبيا عن طريق البحر إلا إذا اقتصر الأمر على إرسال قوات ومعدات إلى إريتريا تمهيدًا للقيام بعمل بري ضد أديس أبابا.
أما استهداف مصر لـ«سد النهضة» بصواريخ من البحر، فهو أمر مستبعد، إذ لا تمتلك القاهرة – بحسب المعلومات المتاحة – أي طراز مُتقدم من صورايخ «كروز» بمقدرته الوصول إلى السد. فضلًا عن تدمير 10 مليارات متر مكعب من الخرسانة.
-التدخل الجوي: يتفوق سلاح الجو المصري بوضوح على نظيره الإثيوبي، فالقاهرة تمتلك 1132 قطعة جوية متنوعة بين اعتراضية وهجومية ونقل، بينما يتكون سلاح جو أديس أبابا من 80 طائرة فقط. قد يكون استخدام سلاح الجو هو الخيار الأسلم في حال أرادت مصر عدم المخاطرة بتدخل بري في إثيوبيا خشية من عواقبه، أو في حال رفضت دول الجوار الإثيوبي أن تكون قاعدة انطلاق للقوات المصرية.
تبلغ المسافة من مصر إلى «سد النهضة» مرورًا بأجواء السودان 1400 كيلو متر، وهو ما قد يكون عائق أمام بعض المقاتلات المصرية، لكن سلاح الجو المصري المتنوع يضمن تذليل هذا العائق، فصفقة السلاح المصرية الأخيرة، التي ضمت بمقتضاها 24 طائرة رافال فرنسية إلى أسطولها، قادرة وحدها على إزالة هذا العائق، إذ تستطيع الرافال الطيران لأكثر من 3700 كيلو متر.
تخلصنا من عائق المسافة ليظهر لنا عائق آخر هو عائق الحمولة المطلوبة لهدم السد. نحن أمام مبنى خرساني عرضه 1800 متر، وارتفاعه 170 مترًا، وحجمه 10 مليارات متر مكعب من الخرسانة، لذا تحتاج مصر لاستخدام عشرات الأطنان من المتفجرات في حال أرادت التخلص من السد.
وفي حال تمت الضربة الجوية بعد عمل السد، لتقليل الخسائر البشرية، فيمكن لمصر استخدام قنبلة مخترقة للتحصينات «بانكر باستر». هذه القنبلة قادرة على الانفجار في عمق المياه، مما يعطيها إمكانية الانفجار عند قاعدة السد، وهي أضعف نقطة فيه. وهي قنبلة يشاع أن مصر تمتلكها، أو يمكن امتلاكها دون صعوبة كبيرة.
في إطار الحديث عن استعدادتها لصد أي هجوم جوي مصري مُحتمل، تواترت الأخبار عن قيام إثيوبيا بنشر بطاريات صورايخ فرنسية الصنع حول السد. لم تذكر المصادر نوع بطاريات الصواريخ، ولا مدى كفاءتها وقدرتها على صد هجوم مُباغت من مقاتلات مصرية حديثة كالرفال التي تستطيع المناورة والهروب بشكل جيد للغاية. لكن ما نعرفه عن قاذفات الصواريخ الإثيوبية هو أن عددها 183 قاذفا، وبالطبع لن يتم نشرها كلها حول «سد النهضة»، لذا فإن صد هجوم مصري جوي كبير احتمال ضعيف.
.