ما أن أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي القضاء عسكريا على تنظيم داعش في العراق، بدأت مرحلة ما بعد داعش في المناطق التي كان يسيطر عليها التنظيم الإرهابي. مرحلة عودة النازحين إلى مناطقهم وبيوتهم وفي الطريق إلى هناك يسترجع الكثير منهم ذكريات تلك السنوات العجاف في ظل الرايات السوداء في الموصل والرمادي وصلاح الدين وفي بلدات وقرى المناطق الغربية المتاخمة للحدود السورية.
وأبرز من يسترجع الذكريات في هذا السياق، هم الجنود الذين شاركوا في القتال ضد داعش وكانوا في قلب المعارك وعاشوا أحداثا مريرة تركت أثارها على أجسادهم إلى الأبد. جنود جهاز مكافحة الإرهاب يعتقدون أنه آن الآون لسرد قصصهم وحكاياتهم عندما كانوا يقفون وجها لوجه أمام الإرهاب الأسود.
في ملف خاص، تسلط DW عربية الضوء على العسكريين الجرحى والمصابين من المعارك التي خاضها الجنود العراقيون على الإرهاب. معارك سيذكرها التاريخ وسيسجل وحشية التنظيمات الإرهابية التي انتهكت معظم الأراضي العراقية وخلفت العديد من الضحايا بينهم عسكريون جرحى ومصابون ستذكر أقوالهم وشهاداتهم على مر الزمان. دخلنا بينهم وتعمقنا معهم ليرووا لنا ما مروا به من أحداث مثيرة وكيف تمت إصابتهم من قلب المعارك الشرسة.
أيمن التميمي وأحمد عادل ورداد محمد عيَنة من هؤلاء العسكريين، تحدثوا معنا ما بين همة الدفاع عن الوطن وبين قصص وأحداث تقشعر لها الأبدان.
رعب وأحداث مريرة
بحدود الساعة الخامسة فجرا، جاء نداء للقوات الأمنية العراقية بينهم المقاتل، أيمن التميمي، نائب ضابط لدى جهاز مكافحة الإرهاب العمليات الخاصة الفرقة الذهبية، التوجه إلى منطقة الحراريات، التابعة لقضاء بيجي بمحافظة صلاح الدين، نتيجة تعرض كبير وقوي من تنظيم داعش على المنطقة ويروي أيمن لـDW عربية "قدت أول عجلة داخلها نحو خمسة أشخاص، ذهبنا إلى المنطقة بحدود الساعة السابعة صباحا ورأيت دماء من الشهداء تابعين للحشد الشعبي والرد السريع وعمليات صلاح الدين، كانت تلك الأحداث سنة 2015"، ليكمل "جاءني نداء بالانسحاب وتغيير المحور لكن في تلك الأثناء رأيت رجلا مسنا مصابا بإطلاقات نارية بالغة، رفضت الانسحاب لأنقذ الرجل وكانت نهاية رحلتي العسكرية لأني أصبحت مقعدا".
"أنقذت الرجل بصعوبة لمحاصرتنا من قناص داعشي، أميركي الجنسية، أخذته إلى العجلة فأطلق الإرهابيون علينا صاروخا روسي الصنع ما أدى إلى إصابتي بساقي الأيمن والأيسر واحتراق جسمي بالكامل مع إصابات بالصدر والبطن واليد"، ليستذكر أيمن الموقف بحزن شديد "الموقف كان صعبا، مصاب إصابة بالغة جدا لا أستطع النزول من العجلة التي كانت تحترق، وبقية الأشخاص الموجودين داخلها كانوا مصابين أيضا لكن استطاعوا الخروج منها وبقيت أنا داخلها بحدود أربعة دقائق"، ليصف أيمن الوضع أشبه بفلم الرعب، ويتابع "توجه داعشي إرهابي نحوي لينحرني بالسكين الذي كان يحمله لكني أطلقت عليه ثلاث عيارات نارية من سلاحي الشخصي فلاذ بالفرار، بعدها صديقي ورفيق دربي الجريح حاليا نائب ضابط جبار، أنقذني لكن بصعوبة كبيرة".
نقلوا أيمن إلى عدة مستشفيات لعلاجه، كان بين الحياة والموت، ولعدم وجود المستلزمات الكافية لأجراء العمليات فوق الكبرى سافر إلى الهند وتمت معالجته ليعود إلى العراق ويكتشف أنه مصاب بمرض السكر ليكمل رحلة علاجه ويقول: "اليوم أنا مصاب إصابة بالغة حرمتني من الحياة والسير والعودة إلى أرض المعارك، مقعد على كرسي المعاقين". ويواصل أيمن حديثه "أجريت إلى الآن 17 عملية جراحية وبانتظار بقية العمليات في ألمانيا"، ويخبرنا، بذات الوقت، أن "الرجل المسن الذي أنقذته وكان من محافظة البصرة عندما كنت بإحدى المستشفيات للعلاج رأيته بحالة جيدة ومستقرة وأولاده شكروني بدموع مؤلمة، فرحت بوقتها لأن حياتي وروحي هي فداء للوطن والشعب".
أيمن المقاتل الشاب الذي يبلغ من العمر حاليا، 28 سنة، شارك بتحرير عدة مناطق من تنظيم القاعدة وداعش منها مناطق في الانبار والحويجة وبيجي وتكريت والموصل.
قتل على يده العديد من الإرهابيين وقياداتهم الذين كانوا من جنسيات متعددة، أصيب بعدة إصابات قبل إصابته الأخيرة التي جعلته مقعدا. ساعد الكثير من المدنيين المحاصرين من داعش. يروي ايمن ذكريات مريرة ويقول: "في معركة التحرير الثانية لمنطقة المالحة، التابعة لقضاء بيجي بمحافظة صلاح الدين، عائلة عراقية من امرأة مسنة وطفلة عمرها 11 سنة، سقط على بيتهم هاون من داعش، أصيبت المرأة بإصابات بالغة بالرأس والطفلة مصابة بثلاثة شظايا بالجسم، تم إسعافهما إلى قاعدة سبايكر، قرب تكريت، بعدها توفيت المرأة وبقيت الطفلة التي ليس لديها أحد، ناشدنا الأهالي لإيصالها إلى أقاربها ثم أرسلت إلى بغداد حيث تواجد الأقارب وكان الأمر محزنا جدا لوجود الكثير من الأطفال مثل حالتها".
"يوم من الأيام، كنا محصورين داخل مصفاة بيجي، بمحافظة صلاح الدين، نستجد بالله، الطعام يسقط علينا من الجو لأن الطريق مسيطر بقوة نحو خمسة الآف داعشي، الأمر صعب، سقوط الطعام بطيء لأن الرياح كانت عالية جدا بعضها يسقط على الدواعش مع وجود الكثير من الشهداء معنا داخل المصفى، تم تأمينهم حتى تحررت وإيصالهم لأهلهم"، يروي ايمن وهو يتأمل تلك اللحظات في حياته. يغلب على أيمن الحزن ليتذكر تلك الأيام التي ستبقى حاضرة بذاكرته مهما طال الزمن فكل معركة خاضها تحمل قصص مؤثرة لا تخطر على البال.
أصدقاء المعارك
"بمدينة الموصل القديمة، صديقي المقرب جدا، احمد حسين مطر، 22 سنة، من الشرطة الاتحادية، من بين المواجهات مع داعش عبرنا سوية لإنقاذ طفل يبلغ من العمر سبع سنوات محاصرا بين البنايات نتيجة المواجهات. أصيب صديقي برأسه نتيجة قناص داعشي فاستشهد أمام عيني، حملت الطفل وأنقذته وسلمته إلى عائلته" يقول المفوض أحمد عادل بحزن عميق. تنهمر الدموع بغزارة من أحمد عادل، 25 سنة، مفوض في قيادة قوات الشرطة الاتحادية الفرقة الخامسة لواء 19 الفوج الرابع، وهو يستذكر صديقه المقرب الذي استشهد أمامه لـDW عربية "صديقي من محافظة الكوت كنا دائما نضحك ونمرح سوية لمحاولة نسيان ما يجري من أحداث مؤلمة بأرض المعارك، كان دائما ما يخبرني بأنه أذا استشهد من سيعيل عائلته لضعف حالتهم المادية"، ويكمل "وصلتني أخبار بأن الطفل الذي أنقذناه بخير وسلامة وحاليا متواجد مع عائلته بالموصل بعد تحريرها بالكامل".
خاض أحمد عدة معارك من آمرلي وجرف الصخر والفلوجة وجزيرة سامراء وآخرها معركة الموصل، أصيب بعدة إصابات لكن الإصابة الأخيرة حرمته من ممارسة الحياة الطبيعية. يروي أحمد "شاركت بمعركة تحرير الموصل بجانبيها الأيسر والأيمن، قبل تحريرها بالكامل كنت بمدينة الموصل القديمة تحديدا في سوق الأربعاء، حدثت مواجهات مع العدو فأصبت من قناص داعشي، روسي الجنسية، إصابة بالغة جدا، لأصبح بشلل نصفي لتنتهي رحلتي العسكرية وكنت أتمنى إكمال معركة تحرير الموصل إلى النهاية". تم نقل أحمد إلى عدة مستشفيات للمعالجة وسافر إلى لبنان للعلاج ليعود إلى بغداد لإكمال العلاج الطبيعي بإحدى المستشفيات ويقول: "حالتي النفسية الآن صعبة جدا لمعاناتي من حالتي الصحية وصعوبة المشي وأطالب الحكومة العراقية بسفري إلى ألمانيا لإكمال العلاج غير متوفر هنا".
يعود أحمد بذاكرته معنا إلى أرض المعارك ليستذكر أحداثها المؤلمة متحدثا "كان هنالك بيتا كبيرا جدا مكون من 32 عائلة من الرجال والنساء والأطفال وفيهم رجال ونساء جرحى، داعش يحاصرهم داخل البيت الذي كان مفخخا، بسجون مخفية وسراديب، بناها داعش داخل بيتهم، وظلت هذه العائلة ما يقارب الشهرين داخل السجون بلا طعام وشراب". ثم يتابع "بعد ذلك استطعنا بقوة من الجيش والشرطة الاتحادية إنقاذ جميع أفراد العائلة". ويضيف "بمعارك الموصل والفلوجة وسامراء بقينا أياما دون طعام وشراب وبالرغم من ذلك كنا نمد السكان بما يتوفر لدينا من المؤنة لان داعش كان يسرقها منهم ويحاصرهم. فيما كان بعض السكان يدعمونا بمعلومات استخبارية لمعرفة أماكن الإرهابيين". مضيفا أن "القوات الأمنية العراقية عندما تحرر أي منطقة يستقبلهم السكان بالترحيب والفرح لخلاصهم من داعش بعد ما كان العدو يسمم عقولهم بأفكار خاطئة عن الجيش لكن الأهالي وجدوا عكس ذلك".
غرفة الموت
أما رداد محمد، 32 عاما، جندي أول في الجيش العراقي أمرية موقع الكسك فوج الحماية والحرس، فيروي لـDW عربية قصته المؤلمة والمختلفة، وكيف بقى لفترة طويلة بغرفة معزولة عن العالم الخارجي أشبه بغرفة الموت لتلقي العلاج متمنيا لو كان يستطع المشاركة بالمعارك وإنقاذ المدنيين. رداد من سكنة الموصل الجانب الأيسر حي البلديات، بعد تخرجه من كلية الآداب قسم الترجمة الانكليزية سنة 2010، التحق بالجيش العراقي بسب الوضع الأمني غير المستقر بالمدينة آنذاك، ليروي: "بتاريخ 13/3/2013، في أثناء إجازتي الدورية كنت ذاهبا إلى بيتي فتعرضت إلى عدة إطلاقات نارية، من شخصين إرهابيين، بالمنطقة العنقية برقبتي ما أدى إلى حدوث شلل رباعي جعلتني مقعدا"، ليكمل "الإرهابيون في تلك الفترة كانوا يريدون القضاء على أي شخص من القوات الأمنية أو من يدعمهم، لذلك قاموا باغتيالي بالاسم وعندما علموا بأنني لم أموت منذ حينها بقيت ملاحقا من داعش".
قام داعش بتفجير منزل رداد من دون إصابة أفراد عائلته لأنهم كانوا خارج البيت، تنقلوا من منطقة إلى أخرى واستقر بهم الحال بشراء بيت آخر بمنطقة سادة وبعويزة داخل الموصل. ويقول رداد "بعد دخول داعش للمنطقة اضطررنا أنا وإخوتي الخروج من البيت وبقيت فقط والدتي المسنة مع أخي الصغير، لأن داعش عندما يرى منزلا فارغا يقوم بالسطو عليه ومصادرته ونحن لم يبق لدينا سوى هذا البيت فبقيت الوالدة فيه".
ظل رداد ملاحقا من داعش لكونه من الجيش العراقي، فاختبأ من دون علم أحد ولا حتى عائلته ببيت أقارب له في حي السكر، بالجانب الأيسر في الموصل، ليبقى بغرفة مغلقة ومعزولة لتلقي العلاج. بعدها تنقل إلى بيت أخيه في حي العربي، شرق الموصل، إلى أن تم التحرير، ليتذكر رداد التفاصيل المؤلمة التي لن ينساها قائلا: "بقيت بالغرفة لفترة طويلة أتلقى العلاج، حالتي النفسية كانت متعبة جدا لمرضي وعدم قدرتي على الحركة وملاحقتي من داعش، لم أفكر بالانتحار لكني تمنيت الموت بوقتها". ويتابع "كنت معزولا تماما عن العالم، أسمع بالليل أصوات الدواعش وهم منتشرون بالمنطقة. وفي النهار كانوا يبحثون عن أي جهاز تقني حديث لمصادرته مع سجن صاحبه ودفع غرامة أو جلده ومحاسبة النساء اللواتي لا ترتدين الخمار والرجال أذا كانت لحاياهم قصيرة ويرتدون البنطلون بالجلد أمام أعين الناس".
كان داعش يراقب الأشخاص الذين يشترون الأدوية لمعرفة إلى من هذا العلاج، ناهيك عن الأسعار الباهظة للعلاج والطعام والشراب، وكان داعش، ببعض الأحيان، لا يعطي الأدوية والأغذية إلا للمقربين منه. ويتحدث رداد عن ذلك قائلا: "كان العلاج يصلني بصعوبة، كنت اقتصد بالدواء واستخدمه فقط عندما يشتد الألم، وكنا بالصباح نفطر تمرا ونمزج الغداء والعشاء مع بعض، وكانت مياه الشرب قليلة لذلك نعتمد على مياه البئر غير صالحة للشرب فأصبح لدي ضعف وقلة مناعة ومضاعفات بالمرض".
عندما دخلت القوات الأمنية العراقية لتحرير الجانب الأيسر من الموصل كان أحد أخوة رداد مع هذه القوات يعمل لدى سرية سوات التابعة لقيادة شرطة محافظة نينوى، تلقى معلومات بأن رداد متواجد بمنطقة حي العربي فتمكن من إنقاذه.عن ذلك يقول رداد "استطاع أخي إنقاذي، خرجنا من البيت والطريق كان صعبا جدا فالمنفذ الوحيد آنذاك جسر يربط بين منطقة حي السكر والمصارف للعبور إلى الأحياء المحررة وداعش ترمي علينا من بعيد الإطلاقات النارية". ويتابع "أصيبت امرأة متوسطة العمر جراء الرمي فطلبت من أخي أنزالي من الكرسي ووضع المرأة مكاني حتى تصل إلى القوات الأمنية وإسعافها، الوضع كان صعبا جدا".
بعد تحرير الموصل بالكامل استطاع رداد الذهاب إلى بغداد لتلقي العلاج، سافر مرة واحدة إلى الهند لكن العلاج لم ينجح ليعود إلى بغداد مرة ثانية لإكمال علاجه الطبيعي بإحدى المستشفيات لكن هذه المرة بحالة نفسية وصحية أفضل من السابق. ويقول قائلا: "أمارس الآن لعبة كرة تنس الطاولة وبتشجيع من أحد المعالجين المرافقين لي وأفكر بالمشاركة ببطولات رياضية وإيجاد عمل لأن إعاقتي لن تمنعني من ممارسة الحياة الطبيعية".
الاهتمام بالعسكريين الجرحى والمصابين
الشيء الذي جمع أيمن وأحمد ورداد في أثناء حديثنا معهم حب الوطن والدفاع عنه رغم إصاباتهم التي جعلتهم مقعدين، بذات الوقت، يجمع بينهم مطلب مهم وهو الاهتمام أكثر بالعسكريين الجرحى والمصابين. ويختم أيمن قائلا: "صحيح ما زلت أتلقى راتبي من الحكومة لكن الراتب لا يكفي فأسعار العلاج باهظة جدا ونصفها على حسابي الشخصي"، ويضيف أحمد "راتبي أستلمه من الموصل وطالبت أكثر من مرة استلام الراتب من بغداد لكوني مقعدا لا استطع الحركة لكن من دون جدوى لذلك أصدقائي هم من يجلبون لي الراتب ناهيك عن شراء العلاجات الباهظة على حسابي الشخصي". في حين ختم رداد الحديث معنا بالقول: "الوحدة العسكرية التي كنت فيها تهيكلت وتغيرت بعد دخول داعش الموصل وتشكلت وحدات جديدة لم استطع الالتحاق بها لوضعي الصعب آنذاك، بعد ذهابي إلى بغداد قدمت معاملة لوزارة الدفاع العراقية لإعادة الخدمة واستلام الراتب تمت المعاملة لكن الإجراءات بطيئة جدا وإلى حد هذه اللحظة بلا راتب والمصاريف على حسابي الشخصي".
مصدر