تمثّل العاصمة في المفهوم الوطني، أحد رموز الدولة وفسحة ثقافتها وحضارتها، وفي العلاقات الدولية تمثل رمز الدولة السياسي، حيث يكون فيها مقر الحاكم أو الرئيس، وجميع أو غالبية المقرات الحكومية الرسمية ودوائر صنع القرار والمقرّات المهمة، كالبنك المركزي والبرلمان والمؤسسات الجامعية والطبية والثقافية. وتتمتّع العواصم عادة ببنى تحتية تكون الأكثر تطورًا في البلد، حيث أنها تعكس مستوى رفاهية الشعوب ورقيها وأسلوب حياتها. أمّا بالنسبة إلى المواطنين، فالعاصمة تمثل الهوية والقيمة المعنوية والوطنية، ففي شوارعها وثنايا معالمها وأبنيتها يتجلى التراث التاريخي والحضاري والثقافي الوطني. لذلك تعتبر العاصمة رمز سيادة الدولة، ويعتبر الدفاع عنها مصلحة مصيرية لأن سقوطها يمثل سقوط الدولة.
الأهمية والأعباء
يؤكد التاريخ العسكري بشقّيه القديم والحديث، أهمية احتلال العواصم أو حصارها لفرض الشروط العسكرية والسياسية على الخصم، ويعتبر الوصول إلى هذه المرحلة مفصلًا أساسيًا في الصراع، حيث أنّ شروط التفاوض ومؤشرات الانتصار تصبح مؤكدة، وبالتالي على المهزوم عندها القبول بشروط المنتصر.
مع تغيّر ظروف الصراعات وأنواعها وأساليب القتال والمواجهات، أصبح احتلال العواصم أو مجرد حصارها، عبئًا عسكريًا كبيرًا على القوات، لما يتطلّبه من وقت وجهد، وما يترتّب عليه من خسارات بالأرواح والعتاد والممتلكات. وربما لم يعد مجديًا اعتماد هذه الاستراتيجية لإخضاع الخصم، فهناك صعوبات كثيرة تعترض مراحل التنفيذ المتمثلة بأربعٍ أساسية، وهي:
- أوّلاً: التوغّل في عمق أراضي العدو والتمكن من الوصول إلى مشارف عاصمته، وهذا يتطلب كمًّا كبيرًا من القوات، ووقتًا طويلًا للتنفيذ.
- ثانيًا: تطويق العاصمة وإحكام الحصار عليها لإخضاع السلطة السياسية، وهذا يفرض السيطرة على مساحات واسعة في محيط العاصمة، وإقفال جميع المنافذ البرية والبحرية والجوية.
- ثالثًا: اقتحام العاصمة واحتلالها في حال فشل إخضاع السلطة السياسية، وهذا يترتّب عليه الكثير من الدمار والضحايا وإهدار الوقت.
- رابعًا: التحدي الأكبر والذي يتمثّل بالسيطرة على العاصمة وتأمين سلامة القوات داخلها وفرض الاستقرار، وهنا تدخل الجيوش التقليدية في مواجهات مع المقاومات وتُفرض عليها حرب غير متماثلة تستنزف قواها، ويصبح الوقت في غير مصلحتها.
هدف عسكري وسياسي فقط؟
في الواقع لا يشكّل احتلال أو حصار العواصم هدفًا سياسيًّا وعسكريًّا فقط، بل يتجاوز ذلك ليمثل نزعة وإرضاء لغرور القادة الذين يعيشون حالة نفسية معينة تشكل فيها هزيمة الخصم أو النيل من كل ما يخصه من حرمات ومقدسات وحضارة وثقافة، هدفًا شخصيًا يدفعه الحقد وحب الانتقام، وهذا ما حصل إبّان الحرب العالمية الثانية، في أوج الصراع بين أقوى أيديولوجيتين في أوروبا، النازية والشيوعية، فمن لحظة بدء انتصاره في معركة ستالينغراد، وضع ستالين نصب عينيه هدف احتلال برلين عاصمة ألمانيا النازية. وقد نفّذ فيها انتقامه من هتلر بهجوم كاسح ومدمّر تولّاه عدد كبير من الفرق واستخدمت فيه قوة نارية هائلة. وتمّت محاصرة المدينة قبل اقتحامها في معركة سمِّيت «معركة الأدلة المفقودة»، إذ مُنِع على أي أحد توثيق ما جرى خلالها.
وبعد فترة من اجتياح لبنان في العام 1982 اعترف العدّو الإسرائيلي بأنّ خطة احتلال بيروت، كانت مسبقة وليست وليدة تسلسل الأحداث. وقد استغل العدو الواقع العسكري وظروف المواجهة مع منظمة التحرير الفلسطينية، إضافة إلى الظروف الدولية المؤاتية، للاقتصاص من العاصمة العربية الأولى التي حضنت حركات التحرر الفكري وقضايا الأمة العربية وخصوصًا القضية الفلسطينية.
واعترف العدّو أيضًا بأنّه كان من الصعب جدًّا تأمين استقرار قواته وأمانها داخل هذه المدينة، ما أجبره لاحقًا على الانسحاب إلى خارجها.
أدوات حصار أخرى
يبقى أخيرًا أن نشير إلى أنّ حصار العواصم أو احتلالها لم يعد يقتصر على العمل العسكري فقط، فهناك أدوات وأساليب أخرى مثل الأزمات السياسية والاجتماعية المفتعلة، وإغراق الشوارع بمظاهر البؤس والفوضى، والشعور بعدم الأمان. أمّا أخطر هذه الأساليب فهو نشر التطرّف والأيديولوجيات المفروضة التي تضرب كل الحريات والتنوع الثقافي والحضاري، فتغيّر لون الحياة وأسلوبها وتجعله أسود قاتمًا، لتصبح العاصمة عندها رمزًا للتخلف والتوحّش، تعكس صورة غير حقيقية عن رقي معظم سكانها وثقافتهم.
.