شكّلت العلاقات الروسية الإسرائيلية على الدوام علامة استفهام لدى العرب، خاصة أولئك الذين اعتادوا على التعامل مع السياسة كما يتعاملون مع المنافسات الرياضية.
فكثيرون من العرب، وربما معظمهم، يبحثون عن انحياز طرف بالمطلق إلى جانبهم، بينما السياسة هي فن المواءمات. ولعل هذا هو سبب الأفكار المتضاربة لدى العرب عن روسيا منذ الحقبة السوفياتية حتى اليوم
من هذا التضارب نشأت نظريات المؤامرة. فقد روّج بعض المثقفين العرب لفكرة أن اليهود هم مَن صنعوا الثورة البلشفية وأسقطوا روسيا القيصرية وأسسوا الاتحاد السوفياتي، انتقاماً لاضطهادهم من قبل القياصرة.
ولكن الحقيقة هي أن أغلب معارضي لينين وستالين من داخل النظام أو من خارجه كانوا يهوداً، وحينما جرى انقسام داخل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي قبيل الإطاحة بالنظام الإمبراطوري، حدث انقسام بين "البلاشفة" الذين يرون في العنف الثوري الحل الوحيد، وكانوا بقيادة فلاديمير لينين وليون تروتسكي، وبين "المناشفة" (التيار الاشتراكي المعارض للعنف الشيوعي) وكان أغلب أعضائه يهوداً، بقيادة يوليوس مارتوف.
وكانت محاولة الاغتيال الوحيدة التي تعرّض لها لينين، عام 1918، على يد فانيا يفيموفا كابلان، وهي ناشطة يهودية في الحزب البلشفي وأعدمت بعد محاولة الاغتيال بأربعة أيام رمياً بالرصاص في ساحة الكرملين، وتسببت رصاصاتها بتدهور تدريجي في صحة لينين حتى وفاته بعد بضعة سنوات.
وحظرت السلطات السوفياتية اللغة اليديشية التي كانت لغة يهود روسيا وأوروبا، وأغلقت المؤسسات والمعاهد والمدارس والجرائد التي تستخدمها وعلى الأخص بعد معاهدة مولوتوف - ريبينتروب عام 1939 وهي معاهدة عدم اعتداء جرى التوصل إليها مع ألمانيا وكانت تعني فعلياً تقسيم أوروبا الشرقية بين ستالين وهتلر.
ويقول المفكر الروسي اليهودي بيريتز ماركيش Peretz Markish: "هتلر أراد إبادتنا جسدياً في حين أن ستالين أراد إبادتنا روحياً".
حظر ستالين الحزب الشيوعي اليهودي عام 1927 عقب إرسال الحزب ضابطاً يهودياً كبيراً في الجيش الروسي يدعي جوزيف ترومبلدوز إلى فلسطين لتدريب الميلشيات والعصابات الصهيونية.
ويقول رجل الاستخبارات ووزير الخارجية ورئيس الوزراء الروسي الأسبق يفغيني بريماكوف، في كتابه "روسيا والعرب"، إن لينين وستالين رفضا الحركة الصهيونية ونظرا إليها باعتبارها جزءاً من "الرجعية الاجتماعية" و"القومية البرجوازية" وهدفها الرئيسي تهجير يهود الاتحاد السوفياتي خارج الجمهوريات السوفياتية.
ولكن الباحث بول جونسون يشير في كتابه "تاريخ اليهود" إلى أن جوزيف ستالين عكس موقف لينين تماماً حيال اليهود والحركة الصهيونية عام 1941 حينما بدأ الغزو الألماني للاتحاد السوفياتي، إذ أيّد مطالب الحركة الصهيونية مقابل أن توفّر "الرأسمالية اليهودية" المال اللازم للمجهود الحربي السوفياتي في الدفاع عن روسيا في وجه أعتى آلة عسكرية في ذلك الوقت.
جرى ذلك بالتزامن مع هروب آلاف اليهود من الدول التي اجتاحها الألمان إلى الاتحاد السوفياتي وفتح الكُنُس اليهودية مجدداً.
وبين عامي 1944 و1948 كان الاتحاد السوفياتي صاحب مواقف داعمة لإعلان قيام إسرائيل، أكثر من أمريكا وأوروبا، وكان الرئيس السوفياتي أندريه غروميكو هو مَن قدّم مشروع تقسيم فلسطين إلى دولة للعرب ودولة لليهود، حينما كان مندوباً لبلاده في مجلس الأمن، في مايو 1947، وصوتت موسكو لصالح الخطة في نوفمبر 1947.
كما كان الاتحاد السوفياتي من أوائل مَن اعترفوا بدولة إسرائيل فور إعلانها، وفقاً لفيليب منديز Philip Mendes في كتابه "اليهود واليسار".
والحاصل أن ستالين لم يأخذ هذا الموقف بشكل براغماتي، ولكنه رأى أن "اليهودية السياسية" و"دولة إسرائيل" مشاريع إمبريالية أوروبية، ولا يجب تركها لأمريكا بل يجب على بلاده المنافسة على الاستحواذ على تلك المشاريع وهذا الإرث الأوروبي بعد أن فقدت بريطانيا وفرنسا مكانتيهما الدولية وأصبح تنحيهما عن العالم عقب انتهاء الحرب مسألة وقت.
كان ستالين يحلم بجمهورية صهيونية اشتراكية، على ضوء حقيقة أن أقوى الأحزاب والمنظمات الفاعلة تحت المظلة الصهيونية كانت اشتراكية، وعلى رأسها حزب العمل الذي يُنظر إليه باعتباره الحزب مؤسس إسرائيل والحزب الذي حكمها طوال عقدين من الزمن عقب تأسيسها.
يتحدث الباحث هيرواكي كرورميا Hiroaki Kuromiya في كتابه "ستالين" عن "حلم تأسيس جمهورية اشتراكية في فلسطين موالية للاتحاد السوفياتي ومناوئة لنفوذ بريطانيا في الشرق الأوسط"، ويلفت إلى أن ستالين لم يكتفِ بـ"حلم" قيام هذه الجمهورية في فلسطين فحسب ولكن أراد استخدامها لمناوئة النفوذ البريطاني في الأردن أيضاً.
يقول بريماكوف: "سمحت موسكو لتشيكوسلوفاكيا ببيع صفقة أسلحة إلى إسرائيل أثناء الهدنة في حرب 1948-1949 ما أدى إلى قلب نتائج المعركة لصالح إسرائيل"، أي أن هذه الأسلحة هي التي حسمت انتصار إسرائيل على سبع دول عربية في أولى الحروب العربية الإسرائيلية.
المؤامرة اليهودية لتسميم ستالين
لم يوقظ زعماء الحركة الصهيونية موسكو من أوهام الاشتراكية الصهيونية، ولكن الأخيرة فهمت عقب انتهاء حرب 1948 فوراً أن تل أبيب اختارت المعسكر الغربي.
وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير عام 1951 حينما وقع ما يُطلق عليه في كتب التاريخ اسم "حادثة الأطباء"، فقد اكتشف السوفيات أن فرقة من الأطباء اليهود الموجودين في أكبر هيئة طبية في البلاد، ويقومون بعلاج كبار رجالات الدولة وعلى رأسهم ستالين، سعوا إلى تسميمهم جميعاً وعلى رأسهم ستالين.
تمت محاكمة الأطباء سريعاً وإعدامهم، وسرى في الأوساط السوفياتية وقتذاك شعور بأن لإسرائيل يد في الأمر رغم أنه لم يصدر بيان رسمي واحد حول ذلك.
هكذا، وخلال ثلاث سنوات فحسب، تحوّلت العلاقة بين إسرائيل والاتحاد السوفياتي من صداقة إلى تباعد إلى نوع من العداء، وصوتت موسكو ضد قرارات توسع نفوذ إسرائيل في الملاحة في البحر الأحمر عام 1951 دون أن يكون هناك تنسيق مع الدول العربية.
وبحلول عام 1953، قطعت موسكو علاقتها الدبلوماسية مع إسرائيل بسبب انحيازها المطلق لأمريكا.
السوفيات والعدوان الثلاثي
بعكس الفكرة الشائعة، لم ترحّب موسكو بثورة يوليو المصرية عام 1952، بالسهولة التي يظنها البعض، ولكن براغماتية ستالين التي دفعته إلى دعم اليهودية السياسية من أجل تدعيم المجهود الحربي السوفياتي هي ذاتها التي تبناها رئيس الوزراء الجديد نيكيتا خروتشوف في استجابته لاتصال الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر بموسكو عقب تعقّد علاقته مع أمريكا عام 1955.
رأى خروتشوف أن استخدام القوميين العرب في ردع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط أفضل طالما أن الشيوعيين العرب غير قادرين على الوصول إلى السلطة.
يقول بريماكوف إن صفقة الأسلحة الروسية عبر تشيكوسلوفاكيا قبل العدوان الثلاثي 1956 لعبت نفس تأثير الصفقة الروسية عبر الدولة نفسها في حرب 1948.
وحينما وقع العدوان الثلاثي على مصر، في أكتوبر 1956، فإن موسكو وقفت بصف القاهرة دون مواربة، وهدد خروتشوف بضرب لندن وباريس بالقنابل النووية، ومحو إسرائيل عن الخارطة، ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تسارع إلى إصدار بيان تطالب فيه القوات المعتدية بالانسحاب من مصر، فأصبح الإنذار السوفياتي والإنذار الأمريكي إنذاراً مشتركاً، ساهم بشدة في حسم المعركة التي أنهت نفوذ فرنسا وبريطانيا عملياً، وفقاً للكاتب محمد حسنين هيكل في كتابه "ملفات السويس".
يمكن القول إنه عقب موقف السوفيات المؤيد لمصر أثناء العدوان الثلاثي، دخلت العلاقات العربية السوفياتية عصراً ذهبياً، من مصر مروراً بالعراق وسوريا وليبيا وصولاً إلى الجزائر.
موسكو وتل أبيب بعد يونيو 1967
يقول بريماكوف إنه عندما تحرّكت إسرائيل في يونيو 1967، قامت بذلك بالتنسيق مع الأمريكيين، وشارك الطيران الأمريكي والبريطاني في قصف المطارات المصرية، انطلاقاً من القواعد الأمريكية في ليبيا.
لم يعجب ما حصل السوفيات، فأعلنت موسكو قطع العلاقات رسمياً مع إسرائيل واستمر ذلك حتى انهيار الاتحاد السوفياتي، ولم تكتفِ موسكو بهذا الإجراء بل أدرجت كتباً تصفها بأنها تفضح الصهيونية واليهودية في قائمة القراءة الإلزامية للأفراد العسكريين وأفراد الشرطة والطلاب والمعلمين وأعضاء الحزب الشيوعي، وتم نشرها بشكل جماعي.
هكذا، نقرأ في الموسوعة السوفياتية الكبرى الصادرة عام 1969: "المفاهيم الرئيسية للصهيونية الحديثة هي الشوفينية المتعصبة العنصرية المناهضة للشيوعية والمناهضة للجمهوريات السوفياتية"، و"الرجعية الصهيونية هي حرب سرية ضد حركات الحرية"، و"تمتلك المنظمة الصهيونية الدولية أموالاً جمعتها جزئياً من خلال المحتكرين اليهود، وجزئياً عبر الجمعيات الخيرية الإلزامية اليهودية كما أنها تؤثر أو تسيطر على جزء مهم من الوكالات الإعلامية والمنافذ في الغرب" و"الصهيونية أداة يستخدمها الأمريكيون من أجل الإمبريالية العنصرية".
سنوات الربيع العربي
رغم عودة العلاقات الدبلوماسية بين موسكو وتل أبيب عام 1991، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، بعد مقاطعة 24 عاماً، إلا أن العصر الذهبي للزيارات المتبادلة وارتفاع الميزان التجاري بين البلدين في حركة استيراد وتصدير لا تهدأ حدث في عصر الرئيس فلاديمير بوتين، الذي وقف في 20 يوليو 2011 يقول في خطاب مطول "إن إسرائيل تُعتبر عملياً دولة ناطقة بالروسية لأن نصف سكانها يتحدثون الروسية، ويمكن اعتبارها جزءاً من العالم الروسي والثقافة الروسية، والكثير من الثقافة الإسرائيلية ما هي إلا ثقافة روسية وكافة الأغاني الوطنية الإسرائيلية هي أغاني روسية".
ولكن تحسن العلاقات في عصر بوتين لم يمنع من أن تجد إسرائيل في مواجهتها مضادات للدبابات روسية الصنع بحوزة حزب الله في حرب تموز 2006، ما أثار لدى تل أبيب شكوكاً في أن روسيا تستخدم إيران في واقع الأمر لمناوءتها إقليمياً.
وحينما قرر بوتين التدخل عسكرياً في سوريا، من أجل دعم نظامها في استعادة السيطرة على ما خسره من أراضٍ، حرص على التواصل علناً مع إسرائيل ولم تخفِ إسرائيل مثل هذا التواصل وهرع رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو مراراً إلى موسكو.
رؤية بوتين للمسألة حالياً تختلف كثيراً عن الدعم السوفياتي المطلق للرئيس السوري السابق حافظ الأسد بعد تدمير إسرائيل طائرات سورية، خلال غزو لبنان، بل هي شديدة الشبه برؤية ستالين في الأربعينيات.
تقوم رؤية الرئيس الروسي الحالي على استخدام اللوبي اليهودي لحشد التأييد للمجهود الحربي الروسي في سوريا، في وجه الأصوات المعترضة في البيت الأبيض أو أية حكومة غربية ترفض التدخل الروسي في سوريا، مقابل السماح لإسرائيل بتوجيه ضربات في العمق السوري ضد ما تعتبره تحرّكات تهدد أمنها.
ولكن بعد حادثة إسقاط صواريخ سورية لطائرة روسية وتحميل الروس إسرائيل مسؤولية ذلك بسبب تحركات طائراتها الحربية بجانب طائرتهم، يُطرح السؤال: هل يعتبر بوتين أن ما جرى بادرة غدر مقصودة كما فعلت إسرائيل مع ستالين أم يتجاوز الحادثة ويكمل سياسة غض البصر عن أعمال إسرائيل في الداخل السوري؟
في اللحظة الحالية، يشير حديث الروس عن تسليم سوريا منظومة صواريخ S-300 المحدثة إلى أنهم ينوون معاقبة إسرائيل وتقييد تحركاتها الجوية فوق سوريا، ولكن كل شيء قد يتغيّر في حسابات الروس البراغماتيين.
اضغط هنا