“مقارنةً بما يحدث اليوم، فإن الحرب الباردة في القرن العشرين كانت أشبه بمجموعة من الأطفال يلعبون بكثبان الرمل على الشاطئ”.. هذه الجملة ليست اعتباطية بل حقيقة واقعة كما تقول صاحبتها آنا تشابمان، خبيرة التجسُّس الروسية، البالغة من العمر 37 عامًا، وهي ابنة مسؤول تنفيذي في المخابرات السوفييتية (KGB).
عملت آنا في المملكة المتحدة؛ حيث تزوَّجت من رجل أعمال يُدعى تشابمان، ثم انتقلت للعمل في الولايات المتحدة الأمريكية لصالح وكالة المخابرات الخارجية الروسية (SVR). وفي يونيو 2010 تم القبض عليها في نيويورك من قِبَل مكتب التحقيقات الفيدرالي مع تسعة جواسيس آخرين، بعد ذلك استبدلوا بها ضمن صفقة تبادل أربعة روس متهمين بالتجسس لصالح الأمريكيين.
تواصل آنا تشابمان، منذ عودتها إلى موسكو، طموحها في أن تصبح نجمة تليفزيونية وعارضة أزياء؛ لكنها لا تزال تمجِّد مزايا فلاديمير بوتين، الذي يدافع -وفقًا لها- عن بلاده ضد “أعدائها” الغربيين: “لن يكون من الممكن بعد اليوم تحدي روسيا دون الخشية من العواقب”، كما تقول.
حرب باردة جديدة
مرحبًا بكم في الحرب الباردة الجديدة! الأمر ليس خيالًا؛ ففي 4 مارس 2018 كان سيرجي سكريبال، العميل المزدوج وضابط المخابرات العسكرية الروسي السابق (GRU)، والذي طُرد من موسكو إلى لندن في عام 2010، هدفًا لمحاولة تسميم بالغاز بالقرب من منزله في سالزبوري الإنجليزية، وهي قضية ما زالت تُثير توترًا بين موسكو وعواصم أوروبا الغربية.
مثل هذه القضايا تكشف عن النشاط المتنامي لجواسيس بوتين؛ حيث بات معارضوه مهددين بشكل متزايد بخطر وقوع هجمات تستهدفهم.
منذ عدة سنوات، يشتبه في قيام موسكو بأعمال تطول التجسس والتسلل والقرصنة والتدخل والتضليل على نطاق واسع، بالإضافة إلى سلسلة من الاغتيالات التي تطول المعارضين والهجمات الإلكترونية ضد دول كإستونيا وجورجيا وأوكرانيا، فضلًا عن التدخل في الانتخابات في دول كبرى كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، والقائمة تطول!
تعتمد الحرب الباردة الجديدة في موسكو على رجل موهوب؛ هو لا غيره، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كيف لا وهو الضابط السابق في المخابرات السوفييتية، والذي تم اختياره في عام 1999 لخلافة الرئيس بوريس يلتسين.
بمجرد توليه السلطة في العام التالي، اعتقد القيصر الجديد أن روسيا “تعرضت للإهانة” من قِبَل الغرب منذ تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وأن تقدُّم حلف شمال الأطلسي “ناتو” والذي وصل حتى بولندا، بات يهددها.
تقول فرانسواز توم، Françoise Thom، أستاذة التاريخ في جامعة السوربون ومؤلفة كتاب “فهم البوتينية” (Comprendre le poutinisme): “ما زال بوتين رجلًا يعمل في جهاز المخابرات السوفييتي، ولا يتوانى عن استخدام القوة والأساليب الوحشية لتحقيق غاياته”، لافتةً إلى اقتباس شهير نقل عن بوتين: “هناك ثلاثة طرق للتأثير على الرجال: الابتزاز والفودكا والتهديد بالقتل”.
أُعيد انتخاب بوتين رئيسًا للبلاد في عام 2012 بعد استراحة عضيده ميدفيديف، ومرة أخرى في عام 2018، واليوم هو يتزعم الكرملين، محاطًا برفاق متشبعين بأفكار “السوفييتية الجديدة” وكلهم تقريبًا من صقور الأجهزة الأمنية.
في الإدارة الرئاسية مثلًا، يوجد نيكولاي باتروشيف Nikolaï Patrouchev، وهو زعيم سابق في الـ”كي جي بي” يرأس مجلس الأمن القومي، ويتبنى فكرًا قوميًّا شرسًا، ومثله المستشار الأمني المؤثر فلاديسلاف سوركوف Vladislav Sourkov.
يضع بوتين يده على أجهزة الاستخبارات الرئيسية الثلاثة في البلاد: “FSB”، وهي خدمة محلية قوية للغاية، تحت قيادة الجنرال ألكساندر بورتنيكوف Alexandre Bortnikov، ووكالة الاستخبارات الخارجية الروسية “SVR”، بقيادة سيرجي ناريشكين Sergueï Narychkine، وهو استخباراتي سابق في الـ”كي جي بي”، وأخيرًا جهاز المخابرات التابع للجيش “GRU”، والذي كان يترأسه حتى عام 2018 الجنرال إيغور كوروبوف Igor Korobov، الذي كان يصنف بالأكثر عدوانية؛ خصوصًا في ما يتعلق بأعمال القرصنة والتضليل الإلكتروني.
كمثال على ذلك؛ عندما تم إسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية فوق منطقة دونيتسك في 17 يوليو 2014، اتجهت الشكوك الغربية بدايةً نحو صاروخ روسي؛ وهو ما تم تأكيده لاحقًا في عام 2018 على يد فريق المسح الدولي المدرَّب تدريبًا خاصًّا في هولندا، ورغم ذلك بقيت موسكو تنفي أي تورط لها في هذا الحادث. وفي 19 يونيو 2019، يقوم المحققون باستدعاء عميل أوكراني وثلاثة عملاء روس، يشتبه في لعبهم دورًا في الهجوم.
ومن قبيل الصدفة، وخلال الأيام الثلاثة الأولى التي أعقبت تحطم الرحلة MH17، اجتاحت موقع التواصل الاجتماعي “Twitter” عاصفة من التغريدات نُسبت إلى كيان روسي غامض، يتخذ من مبنى في مدينة سانت بطرسبرغ مقرًّا له، وقدر عددها، آنذاك، بـ111000 تغريدة، تهدف كلها إلى نفي أية مسؤولية لموسكو في ما حدث.
وبعد النجاح الذي حققته عمليات التضليل والقرصنة الإلكترونية الروسية؛ خصوصًا تلك المتعلقة بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، فتحت روسيا جبهة موازية لها في أوروبا تعتمد على مبدأ مماثل: “فرّق تسُد” .
هذا ما أكدته سيسيل فايسيه Cécile Vaissié، أستاذة الدراسات الروسية بجامعة رين، ومؤلفة كتاب “شبكات الكرملين في فرنسا” (Les Réseaux du Kremlin en France): “يريد الروس تدمير الاتحاد الأوروبي عبر استغلال بعض الأزمات ودعم كل أشكال التطرف الموجودة”.
تتضمن هذه المعركة، كما تقول فايسيه، كل أشكال الدعم؛ بما في ذلك الدعم المالي للأحزاب القومية أو الشعبية التي تدعم المواقف الروسية، وفي هذا الصدد رصدت اتصالات بين الروس وحزب فيكتور أوربان في المجر، وأخرى مع رابطة ماتيو سالفيني في إيطاليا، والجبهة الوطنية في فرنسا.
وهذا ما يؤكده جوشوا كيرشنباوم، الباحث في التحالف من أجل الأمن والديمقراطية، قائلًا: “قدَّمت روسيا عبر أحد بنوكها قرضًا بقيمة 9 ملايين يورو إلى الجبهة الوطنية الفرنسية في عام 2014، وهو أمر يندرج ضمن الاستراتيجية الروسية الجديدة في الاتحاد الأوروبي”.
مصدر