الحلقه الاولى
سلّطت وثائق رسمية بريطانية رُفعت عنها السرية قبل أيام في الأرشيف الوطني، الضوء على حرب خفية كانت تجري بين البريطانيين والفرنسيين في شأن صفقات سلاح مع الكويت في أعقاب حرب تحريرها من العراق عام 1991. وتتحدث الوثائق عن ضغط لا هوادة فيه يمارسه الفرنسيون (تحديداً وزير الدفاع فرنسوا ليوتارد) على الكويت من أجل ضمان الحصول على صفقة زوارق دورية للبحرية الكويتية بنسبة 100 في المئة. وفي حين بدا البريطانيون مقتنعين بأنهم خسروا معركة الصفقة لمصلحة فرنسا، فإن الوثائق تشير إلى تدخل رئيس الوزراء جون ميجور شخصياً مع ولي العهد الكويتي آنذاك الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح من أجل ضمان الحصول ولو على جزء من صفقة الزوارق.
تغطي الوثائق المرحلة الممتدة حتى عام 1994. وتركّز الحلقة الأولى من هذه السلسلة على تحرُّك قام به النائب المحافظ ديفيد ميلور لدى حكومة ميجور من أجل دفعها للضغط على الحكومة الكويتية لضمان حصة لشركات تسلح بريطانية من صفقة الزوارق، سواء عبر شراء المحركات، أو الصواريخ، أو أجهزة الاتصال الالكتروني التي سيجري تزويد قوارب الدورية الكويتية بها. وكان ميلور آنذاك مجرّد نائب في حزب المحافظين الحاكم (شغل منصب دائرة باتني في لندن منذ عام 1979 وحتى عام 1997 في شكل متواصل)، بعدما كان قد استقال من منصبه الوزاري في حكومة ميجور في سبتمبر عام 1992. وجاءت استقالته آنذاك وسط مزاعم عن علاقة أقامها مع سيدة باعت قصتها لصحيفة شعبية وثبت لاحقاً أنها تضمنت معلومات غير صحيحة، لكن تداعيات القضية كشفت في الوقت ذاته أنه حصل على هدية تضمنت قضاء عطلة لشهر في أسبانيا (ماربيا) على نفقة عائلة فلسطينية. لكن الوثائق تُظهر، في المقابل، أن ميلور كان ما زال في عام 1994 ينشط في شكل مكثف لمصلحة شركات التسلح البريطانية، ويرتبط في الوقت ذاته بعلاقات مع شخصيات رفيعة المستوى في الكويت.
من بين ما تكشفه الوثائق أن البريطانيين حاولوا جذب الكويتيين لمصلحتهم في صفقات السلاح من خلال تسليط الضوء على سياسات الحكومة الفرنسية آنذاك التي اعتبرها البريطانيون تتضمن مسامحة الرئيس العراقي صدام حسين على ما قام به في الماضي (في إشارة إلى غزوه الكويت) ومعاودة التجارة مع نظامه.
المبيعات الدفاعية
في وثيقة بتاريخ 1 ديسمبر 1994 موجهة من فيليبا ليزلي جونز، السكرتيرة الخاصة لرئيس الحكومة جون ميجور، إلى الكوماندر تيموثي لورنس في وزارة الدفاع، جاء ما يلي:
شكراً لك على رسالتك المؤرخة في 30 نوفمبر. لقد وقّع رئيس الوزراء الرسالة المرفقة طيّه والموجهة إلى ولي العهد الكويتي، مثلما اقترحت. الرسالة الأصلية (مرفقة إلى وزارة الخارجية) سيجري بعثها لكن في وقت أبطأ.
فهمي هو أن وزير الدفاع (مالكولم ريفكيند) سيحاول أن يتابع الرسالة باتصال هاتفي مع نظيره الكويتي. سأكون ممتنة إذا أطلعتنا على نتيجة الاتصال.
أرسل نسخة من هذه الرسالة إلى سام شارب (وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث).
فيليبيا ليزلي جونز
وفي وثيقة مؤرخة بتاريخ 1 ديسمبر 1994، كتب جون ميجور إلى الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح قائلاً:
لقد كتبنا لكم بتاريخ 8 نوفمبر في شأن الدعم القوي جداً الذي قدمناه لكم من أجل التصدي للتهديد العراقي المتجدد. إنني سعيد بأن هذا الدعم قد أتى بالتأثير المرغوب فيه. لقد تجلّت من جديد قيمة تحالفنا الطويل المدى.
إنني على معرفة بمدى تقديركم لإحدى نواحي التعاون بيننا، وهي المتعلقة بتأمين التجهيزات الدفاعية التي تلبي حاجات الكويت وتساعدها في ردع عدوان مستقبلي. هناك سجل طويل من الجهود المشتركة التي جلبت النفع لكلينا، ومن بينها على أقل تقدير المساهمة الكبيرة المقدمة في مجال استقرار المنطقة (منطقة الخليج) وأمنها. إنني على ثقة بأن الشركات البريطانية توفر مزيجاً مشتركاً يجمع بين القيمة وبين الأداء، ولقد أشدت غالباً بالعروض التي قدمتها (هذه الشركات) لكم. ولقد سُعدت جداً بسماع أن المفاوضات الطويلة في خصوص صفقة «ستار بيرست* Starburst قد اختتمت بنجاح الشهر الماضي.
لكنني، في المقابل، أشعر بخيبة أمل، إذا كنت ما زلت تذكر المراسلات السابقة بيننا، في خصوص قراركم منح عقد زوارق دورية سريعة للشركة الفرنسية «سي إم إن» (CMN). كنت اعتبر أن العرض البريطاني المقدّم من شركة «فوسبر ثورني كروفت»* (Vosper Thornycroft) بالغ الجودة، وكنت أتوقع أن العلاقات الوثيقة بين قواتنا البحرية وقواتكم البحرية، مثلما تجلى في نشر (السفينة البريطانية) «أتش إم أس كورنوول» في مياهكم (الوطنية) خلال الأزمة الأخيرة وقبل وصول أي قوة أخرى من الحلفاء، بأنها ستدفع بالثقل لمصلحتنا. إنني أتفهم مدى الضغط الذي تواجهونه من أجل تخصيص (عقد بناء) هياكل الزوارق لشركة فرنسية، لكنني على أمل كبير بأنكم ستشركون المملكة المتحدة في تأمين تجهيزات القوارب.
لدينا منتجات رائعة ستخدم قواتكم البحرية خدمة جيدة: صواريخ «سي سكوا»* (Sea Skua) كانت مسؤولة عن إغراق معظم قطع البحرية العراقية عام 1991، ومحركات «باكسمان»* (Paksman) ليست فقط أكثر رخصاً وسهولة في التشغيل من أي نظام آخر، بل هي أيضاً محركات أثبتت جودتها لدى قواتنا البحرية. إضافة إلى ذلك، تجهيزات «راكال»* (Racal) الالكترونية تأتي في مقدم التجهيزات الالكترونية وهي ذات أسعار تنافسية جداً.
إنني أتطلع إلى مواصلة العمل سوياً عن قرب. كما أنني شخصياً أقدّر الحاجة إلى تقديم الدعم الكامل للكويت في النقاشات الحاسمة التي ستجري في مجلس الأمن في الشهور المقبلة. ومثلما تعرفون، هناك أعضاء آخرون في المجلس، بينهم الفرنسيون، يبدون راغبين في مسامحة التصرفات الماضية لصدام، وحتى التجارة مع العراق. سنحاول أن نقنعهم بألا يقوموا بذلك. إن التضامن بين بريطانيا والكويت في كل مجالات التعاون الدفاعي يبقى، بالنسبة لي، في مقدم الاهتمامات.
وكانت ليزلي جونز قد كتبت ورقة ملاحظات إلى رئيس الوزراء، ميجور، بتاريخ 30 نوفمبر 1994، شرحت فيها خلفيات التحرك من أجل الضغط على الكويتيين في قضية صفقة الزوارق الحربية. وجاء في ورقتها:
لقد كتب ديفيد ميلور ليسأل ما إذا كنت ستتدخل مع ولي العهد الكويتي في خصوص تزويد تجهيزات لقوارب دورية جديدة سيحصل عليها الكويتيون.
طلبية قوارب الدورية ستذهب بدون أدنى شك تقريباً إلى الفرنسيين، نظراً إلى الضغط الذي لا يهدأ الذي مارسوه. لكن ديفيد ميلور يعتقد أن هناك أملاً بأن المحركات، الصواريخ وتجهيزات الاتصالات يمكن أن يجرى تزويدها من قبل المملكة المتحدة (باكسمان، بي. أيه. إي، وراكال).
تدعم وزارتا الدفاع والخارجية هذا الطلب. الكويتيون يتوقعون جزئياً أن نتدخل من أجل دعم (هذه الطلبيات)، ورسالتكم الأخيرة، في خصوص «ستار بيرست»، كان لها مفعولها المأمول به. ليس هناك من ضرر في تذكيرهم بمصالحنا، والأهم من ذلك، بدعمنا القوي (والمتواصل) لهم في مواجهة العراق.
إذا كنت توافق على ذلك، أرفق طيّه مسودة رسالة تحتاج إلى توقيعك.
وزير الدفاع سيتابع هذا الأمر باتصال هاتفي يجريه مع نظيره الكويتي.
فيليبيا ليزلي جونز
وكان رودريك لين، المسؤول في مقر رئاسة الحكومة في 10 داونينغ ستريت، كتب إلى مارغريت ايدرد المسؤولة في وزارة الدفاع، بتاريخ 29 نوفمبر، يقول:
مبيعات الدفاع للكويت: رسالة من النائب ديفيد ميلور أرفق طيه رسالة من ديفيد ميلور ينصح فيها بأن يتصل رئيس الوزراء بالشيخ سعد في الكويت خلال الساعات الـ48 المقبلة من أجل دعم عقد زوارق الدورية.
يقول السيد ميلور إن نصيحته مدعومة من منظمتكم المعنية بالمبيعات الدفاعية Defence Export Services Organisation ومن بريتيش ايروسبيس – بريتيش ايروسبيس لم تتصل بي بعد، ولا أعلم إذا كنتم قد تلقيتم توصيات من المنظمة المعنية بالمبيعات الدفاعية (هيئة تتبع وزارة الدفاع).
سأكون ممتناً إذا حصلت على نصيحة منكم في هذا الخصوص (على أن تصل لي قبل الساعة السادسة مساء غد، 30 نوفمبر). هل يمكن أن تكون نصيحتكم متضمنة رجاء رأي وزارة الخارجية وكذلك سفيرنا في الكويت؟.
جدول أعمال رئيس الوزراء هذا الأسبوع يجعل من الصعب جداً عليه أن يتصل بالشيخ سعد، خصوصاً لجهة عامل فارق التوقيت. لكن إذا كنتم أنتم ووزارة الخارجية تعتقدون أن رسالة خطية منه مبررة ومناسبة، فإنني أعتقد أن رئيس الوزراء سيوافق على إرسالها. ربما تكون مترافقة مع اتصال هاتفي يجريه وزير الدفاع بنظيره الكويتي (إنني أرى أن المنافسة يقودها شخصياً وزير الدفاع الفرنسي).
«أرفق نسخة من هذه الرسالة إلى جون سيوارز* في وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث
(* تولى جون سيوارز لاحقاً منصب مدير جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني «أم آي 6»)
وكان النائب ديفيد ميلور أرسل رسالة بالفاكس إلى رودريك لين، السكرتير الخاص في مقر رئيس الوزراء، بتاريخ 29 نوفمبر 1994 يقول:
كما تعلمون، ربما من مصادر أخرى، بدأت القضية في الكويت، الخاصة بطلبية زوارق الدورية، تصل إلى خواتيمها، وأنا أكتب لكم لأن رأي الصناعيين المعنيين (أي مسؤولي شركات التسلح) والمنظمة المعنية بالمبيعات الدفاعية «ديسو» (كريس بنتلي) هو أن اتصالاً هاتفياً من رئيس الوزراء بالشيخ سعد، خلال الساعات الـ48 المقبلة، سيشكّل عاملاً مساعداً جداً، وفي الحقيقة سيكون حيوياً، إذا ما كان الهدف عدم خسارة الطلبية. ديك ايفانز، من «بريتيش ايروسبيس»، سينقل لكم اليوم أن هذا هو رأيه أيضاً، لكنه سيفعل ذلك في شكل خاص ومنفصل.
إنني متردد جداً، مثلما هم مترددون، في ازعاج رئيس الوزراء في أسبوع أعرف انه ممتلئ بالمواعيد وكله متاعب، لكنني أشعر بأن لا خيار آخر أمامنا (سوى اللجوء إلى طلب المساعدة منه). يمارس الفرنسيون ضغطاً لا هوادة فيه على الكويتيين لتوقيع الاتفاق. لقد تناولت العشاء مساء أمس مع (مسؤولي) شركة «بي. أيه. إي» (BAe) ومع شخص كويتي رفيع المستوى أكد أن وزير الدفاع الفرنسي، السيد ليوتارد، يرفض أن يأتي إلى الكويت في موعد رحلته المحدد ليوم الخامس من ديسمبر إلا إذا ضمن أن عقد الزوارق سيكون جاهزاً للتوقيع.
هناك جانبان لهذ الأمر. أولاً، هناك العرض الذي قدمه مالكولم ريفكيند (وزير الدفاع) على الطاولة خلال زيارته (للكويت) الذي بموجبه يمكن التوفيق بين مشاكل الموازنة في الكويت وبين حاجاتها البحرية وذلك من خلال اتفاق على المدى القصير لشراء زوارق دورية معاد تأهيلها بعد إخراجها من الخدمة في ايرلندا الشمالية، وبعد ذلك وفي الوقت الملائم تُقدّم طلبية لشراء زوارق دورية من شركة «فوسبرس». هذا سيسمح لهم بتوجيه إشارة للفرنسيين (مفادها) أن الكويتيين يعلمون جيداً بتعاملهم المزدوج في خصوص العراق. لكن هذا الاقتراح كان على الدوام الاقتراح الأقل قابلية للنجاح، ويبدو الآن أن هياكل الزوارق ستذهب بالتأكيد إلى فرنسا.
لكن حتى ولو ذهبت الطلبية لشركة «سي.ام.ان» (الفرنسية)، ما زال هناك الكثير للسعي إليه، فأنا أعرف من كبار المسؤولين أن الكويتيين يفضّلون شراء المحركات من «باكسمان»، وأجهزة الاتصال المختلفة من «راكال»، والصواريخ – «سي سكوا» – من «بي.ايه.إي». إذا ما حصل ذلك، فهذا سيعني أن البريطانيين سيحصلون على 25 في المئة من محتوى العقد، وهذه جائزة تستحق العمل من أجل الظفر بها. لكن يبدو واضحاً أن الفرنسيين مصرون على أن تذهب الطلبية لهم بنسبة 100 في المئة.*
(* جرى هنا حذف جزء من هذه الرسالة ما زالت الرقابة تمنع نشره)
الضغط من وزير الخارجية دوغلاس هيرد على وزير الدفاع الكويتي، ورسالة رئيس الوزراء للشيخ سعد، جاءا بنتيجة واحدة: عقد «شورتس» جرى الآن توقيعه، وهذا أمر محل ترحيب. لكن العقد بحد ذاته، وقيمته 50 مليون جنيه إسترليني، ليس جائزة كافية مقابل كل الجهود التي بذلناها وكل الكلمات القوية التي جرى استخدامها. لقد أجريت نقاشات معمقة مع (مسؤولي شركة) «بي.أيه.إي»، الذين كما تعرفون هم من بين آخرين أقدّم لهم النصائح، والذين لا يودون أن يصرخوا «جاء الذئب» (تعبير إنكليزي يعني طلب المساعدة عندما لا تكون هناك حاجة لها)، لكنهم سيريدون من رئيس الوزراء أن يعلم المصاعب التي سيواجهونها إذا لم تنجح صفقة «سي سكوا». مصنع (الصواريخ) في لوستوك يقع في منطقة حساسة. يشغّل المصنع 500 شخص، ولم يحصلوا على عقد خارجي منذ خمس سنوات. هناك أزمة حقيقية في دفتر طلبياتهم للسنتين أو للسنوات الثلاث المقبلة. واضح أنهم سيعملون بقدر ما يستطيعون من أجل إبقاء العمل مستمراً، لكن إغلاق هذه المنشأة هو احتمال حقيقي. الطلبية الكويتية ستبقيهم مستمرين في العمل بشكل جيد، وستؤمن بدون أدنى شك فرص العمل المتاحة.
سأكون بالغ الامتنان إذا ما اعتذرت لرئيس الوزراء، بالنيابة عني، لازعاجه، لكنني آمل بأنه سيرى هذه المسألة على أنها عاجلة، وحيوية أيضاً لأجزاء عديدة من المملكة المتحدة. أعرف أن الصناعيين ممتنون جداً لتدخل رئيس الوزراء من أجل صفقة «الوريور» (آليات عسكرية)، وإذا ما شعر بأنه قادر على أن يساعدهم مجدداً في هذا الأسبوع من بين كل أسابيع السنة فإنني أعرف أن امتنانهم وتقديرهم لجهوده سيكونان بلا حدود.
الرجاء الاتصال بي إذا كانت هناك حاجة لتوضيح أي من هذه النقاط.
ديفيد ميلور
هوامش :
* ستار بيرست نظام صاروخي أرض – جو محمول على الكتف تصنعه شركة «شورتس ميسيل سيستمز» Shorts Missile Systems في مدينة بلفاست بإيرلندا الشمالية. وصار اسم الشركة «ثيلز إير ديفانس ليميتد» Thales Air Defence Limited منذ عام 2002).
* «سي سكوا» (Sea Skua): صاروخ بريطاني أرض ـ جو قصير المدى مخصص للاستخدام على متن المروحيات لمهاجمة السفن. وعلى رغم انه مخصص للمروحيات، فإن الكويت شغّلت هذا النوع من الصواريخ كبطاريات منصوبة على الساحل وأيضاً على متن طائرة سريعة (أم المرادم).
* «فوسبر ثورني كروفت» (Vosper Thornycroft): شركة لبناء السفن في ساوثهامبتون، بجنوب إنكلترا. صارت الآن جزءاً من شركة دفاعية أميركية (مجموعة في تي VT Group).
* «باكسمان» Paxman Diesels: شركة لتصنيع المحركات مقرها مدينة كولشتر الإنكليزية.
* «راكال» (Racal): شركة بريطانية شهيرة لتصنيع الأجهزة الإلكترونية.
م