يجتهد الإنسان لإنشاء حضارة، ويجتهد في ذات الوقت لوضع خطط إبادتها إذا أراد. حتى لو كانت تلك الخطط تعني أن يكون البشر جميعًا تحت رحمة عدو أكثر شراسةً منهم، مثل الجراثيم والفيروسات مثلًا. عرف الإنسان القتل باستخدام الجراثيم قبل أن يعرف الجراثيم ذاتها، وإذا كنّا اليوم نعرفها باسم الحرب البيولوجية، فإن السابقين لم يعرفوها بهذا الاسم. وإذا كانت الجهة مصدر الجرثومة أو الفيروس تحرص على تطوير ترياق يحميها من الهجمة البيولوجية، فإن السابقين لم يشغلوا بالهم بكيفية صنع ما يقيهم من سلاحهم.
ملاحظة بسيطة وجدها السابقون، وتصرفوا بناءً عليها. هناك بعض الأمراض تنتقل من إنسان لآخر، فلماذا لا يكون الآخر هذا هو جيش العدو! وإذا كانت هناك كائنات تقتلنا سواء كانت كبيرةً مثل الأفاعي السامة والعقارب، أو دقيقةً كالبراغيث، فلماذا لا نتحايل على إدخالها في بلدان أعدائنا كي تسبق سيوفنَا إلى رقابهم، وتصل إليهم أسرع من سهامنا ورماحنا! هكذا عرف الإنسان الاستخدام المُتّعمد للأمراض والأوبئة التي تُحدثها الجراثيم والفيروسات وغيرهما من الكائنات الحية كسلاح حربيّ لإبادة أو إنهاك العدو، وهكذا صار لكلمة الحرب البيولوجية تعريفًا.
في فترة بين أعوام 400 إلى 500 قبل الميلاد سُجلت أقدم حادثة من هذا النوع، المُتهم فيها شاعر ورجل قانون من أثينا يُدعى سولون، قام سولون بتلويث المياه الواصلة إلى مدينة كيراه بنبات الزين السام. في الحقبة ذاتها يحكي المؤرخون عن جيش السكيثيون، شعب بدوي ينحدر من أصول إيرانية. اعتاد جنود الجيش غمس سهامهم في جثث الجنود المتحللة قبل إطلاقها على العدو، وأحيانًا كانوا يغمسونها في بركةٍ من الدماء مخلوطة بالسماد العضوي.
الآشوريون كان لهم نصيب من حرب الجراثيم، لكنّهم كانوا القاتل لا القتيل. إذ وضعوا فطرًا سامًا في آبار المياه الواصلة لأعدائهم. الفطر يُدعى مهمان الجودر يصيب متناوله بالهلوسة، ويشتهر حاليًا كونه مصدر عقار الهلوسة الشهير إل سي دي. عرفت تلك الأفعال طريقها إلى الأدب الفارسي والروماني، فنجد في ثنايا المسرحيّات والآداب القديمة قصصًا عن حيوانات نافقة استُخدمت لتلويث مصادر مياه العدو. كما نرى أن هانبيال قد حقق نصرًا على أوومنيس الثاني من بيرجامون عبر إرسال سفن مليئة بالأواني الفخارية لداخل المدينة، وبداخل الفخار كانت آلاف الأفاعي السامة.
نبذة مختصرة عن تاريخ الحروب البيولوجية
دخلت البشرية عصر القرون الوسطى، خطوة نحو التحضر لكن الحرب البيولوجية أخذت خطوات هائلة نحو التوحش. ففي القرن الثاني العشر الميلادي استخدم القائد بارباروسا جثث جنوده المتحلله لتسميم مياه أعدائه في معركة تورتونا. وفي القرن الثالث عشر جنّد جنكيز خان طاعون الماشية ضمن جنوده التي لا ترحم. فتك الطاعون بحيوانات البلدان التي دخلوها، يُصاب الحيوان بفقدان للشهية ثم الحمى الشديدة ثم الموت بعد فترةٍ لا تتجاوز 10 أيام.
في القرن الرابع عشر، حاصر المغول إحدى مدن شبه جزيرة القرم، وألقوا بداخلها جثثًا مصابة بالطاعون كي يفتك الطاعون بالأعداء نيابةً عن جنود المغول. استسلم السكان بالفعل، لكن الطاعون لم يستسلم وواصل انتشاره في أوروبا ليفتك بالملايين غير مُتقيد بحدود الجغرافيا ولا بأهداف من أطلقوه. ثم في القرن الخامس عشر قدّم الإسباني بَزارو ملابس ملوثة بالجدري أثناء محاولة المستكشفين الإسبان احتلال أمريكا الجنوبية.
تزداد أعداد القرون ويبتعد الإنسان أكثر من حياة الغابة ويقترب من كونه إنسانًا متحضرًا، لكن ظلت الأسلحة البيولوجية شاهدةً أن الإنسان لم يتخلص من وحشيته بعد. عام 1710، الروس يحاصرون القوات السويدية في إستونيا، الحل الذي لجأ له الروس لإنهاء الحصار هو إرسال جثث مصابة بالطاعون لصفوف القوات السويديّة.
في زمانٍ أبعد من تلك الحادثة بـ 53 عامًا، وفي الهند البعيدة دارت حرب بين فرنسا والهند، لكن لجأت بريطانيا العظمى لنفس المبدأ. أرسل قائد القوات البريطانية غطاءين ومنديلاً كهدية لرؤوساء القبائل الهندية. الهدية لم تكن تلك الأقشمة، بل فيروس الجدري الفتاك. وحقق الفيروس مراد مُرسليه ففتك بمعظم السكان الأصليين.
تفرق الهنود في أماكن متفرقة ومتباعدة هربًا من الوباء. خَمل الفيروس فترة لكنه معركته معهم لم تنتهِ، وربما أُطلق عليهم لاحقًا، لا وجود لحقيقة مؤكدة بهذا الصدد. لكن الحقيقة المؤكدة أن الوباء عاد عاماً لينتشر بين عامي 1817 و1840 قاتلًا ما يزيد على نصف السكان الأصليين الذين نجو من هجمته الأولى. ثم هلكت البقية الباقية من السكان بين أعوام 1890 و1910.
معلومات أكثر عن الحروب البيولوجية
لن يكون من التجني الربط بين الوباء والاستعمار، فلم يكن الرجل الأبيض ليكتسح الأراضي الأمريكية التي اكتشفها لتّوه دون استخدام السلاح البيولوجي. فقد أحب الرجل الأبيض هذا السلاح سريع التأثير، مضمون النتيجة، إلى حد أن دعاوى كثيرة ظهرت في الحرب الأهلية الأمريكية عام 1816 تتهم فيها جميع الأطراف بعضها باستخدام الجدري كسلاح ضد بعضهم البعض.
خرجت البشرية من عصورها المظلمة إلى عصور الكهرباء والمضادات الحيوية. لكن ذلك التطور لم يعني التخلي عن استخدام السلاح البيولوجي بل عنى تخليق أسلحة أكثر فتكًا. ففي الحرب العالمية الأولى يقول مؤرخون إن الجيش الألماني استخدم الجمرة الخبيثة والكوليرا. كما تمت الإشارة إلى فطريات القمح كسلاح تم تطويره لتهديد الأمن الغذائي لأعداء ألمانيا النازية. كذلك قيل إن الألمان نشروا الطاعون في روسيا، وواجهت ألمانيا اتهامًا بإرسال قطعان من الماشية مصابة بالحمى القلاعية إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
قائمة التهم شملت أيضًا محاولة إصابة خيول الفرسان الفرنسيين بفيروس جديد، ومحاولة نشر الكوليرا في إيطاليا. قائمة طويلة لم يثبت منها الكثير من التهم، لكن الفكرة باتت مرعبة للرجل الأبيض حين علم أن سلاحه قد ينقلب ضده. هذا الرعب جعل مؤتمر جنيف عام 1925 يصدر قرارًا بحظر استخدام الأسلحة البيولوجية. لكن تبيّن لاحقًا أن هذا القرار لم يكن يهدف إلى منع الأسلحة البيولوجية ككل، بل تجريم استخدام ألمانيا لها فحسب.
فوثائق الحرب العالمية الثانية التي تكشّفت لاحقًا أظهرت سباقاً سرياً بين اليابان والولايات المتحدة لتطوير سلاح بيولوجي فتاك، استمر السباق حتى إلى ما بعد انتهاء الحرب. كُشف أمر اليابان عبر وجود أكثر من 3000 ضحية للطاعون والجمرة الخبيثة والزهري. كذلك تواترت الأقوال عن نشر اليابان للأمراض سالفة الذكر وأكثر منها في الصين عبر قنابل انشطارية أو عبر نقل براغيث ملوثة بالأوبئة إلى الأراضي الصينية.
أما الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، فكان تفكيرهما أكثر ضراوة، فقد كانت لهما خطة، لم تُنفذ، لوضع مرض الجمرة الخبيثة ضمن قنابل بوزن 200 كيلوجرام للقنبلة الواحدة. الهدف المقصود بتلك القنابل كانت قطعان المواشي في البلدان المعادية، كي تتولى تلك القطعان مهمة نقل الوباء إلى أرجاء مختلفة من البلاد.
لا وجود لتفسير حول عدم تنفيذ تلك الخطة، لكن بريطانيا قد أجرت تجربة في أسكتلندا بالفعل. وجزيرة جرونارد، موقع التجربة، لم تزل حتى اليوم مدينةً محرمةً على البشر والحيوان بسبب استوطان الوباء لأرضها. الولايات المتحدة لم تُنهِ مشروعها لكنها أبقت عليه تحت مسمى الحرب الدفاعية.
عام 1952 اتهم عدد من الخبراء الدوليين الولايات المتحدة بأنها تستخدم أسلحة بيولوجية في الحرب ضد كوريا الشمالية. كذلك تكررت الاتهامات عام 1955 بأن الولايات المتحدة تنتج كميات ضخمة من بكتيريا التلريات، التي تصيب القوارض ثم تنتقل منها للإنسان.
المفارقة أن ذك هو نفس العام الذي وضعت الولايات المتحدة قائمة ضمت 17 دولةً متهمة بامتلاك وإنتاج الأسلحة البيولوجية بدأت القائمة بإيران ثم سوريا، أتى بعدهما روسيا وإسرائيل وفيتنام. ثم اسم مصر والعراق وليبيا. في القائمة أيضًا نجد الهند، وكوريا الجنوبية، وتايوان، ولاوس، وكوبا، وبلغاريا، والصين، ثم تُختتم القائمة بكوريا الشمالية. فكأنما وضعت الولايات المتحدة العالم أجمع إلا نفسها.
المكان الذي شملته اتهامات الخبراء الدوليين كان موقعاً بِين بلف في ولاية أركنساس. ثم تجددت الدعوى مرة أخرى عام 1960 بأن الولايات المتحدة تستخدم أسلحة بيولوجية في حربها في فيتنام. الموقع المذكور لتطوير بكتيريا التلريات كان مستودعًا لجميع الأسلحة البيولوجية المعروفة حتى عام 1965، ولم تعلن الولايات المتحدة عن تدميره إلا عام 1972.
أنهت الولايات المتحدة هذا الموقع باختيارها ولم تنتظر أن تصبح مضطرةً لذلك كما حدث مع الروس. من نافلة القول أن روسيا كانت غارقةً حتى النخاع في سباق تطوير السلاح البيولوجي الذي لا يُضاهى. لكن عام 1978 ذاق الروس من كأسهم، وانتشرت الجمرة الخبيثة عبر أحد منشآت الأسلحة الروسية. الحادثة قتلت قرابة 70 روسيًا، وصرحت القيادة حينها بأنهم ماتوا جراء لحوم مصابة بالجمرة الخبيثة. ظل ذلك هو الموقف الرسمي الروسي حتى اعترف بوريس يلتسين عام 1992 أن المنشأة كانت لتطوير أسلحة بيولوجية.
لم تكن تلك هى المرة الأولى التي تعاني فيها روسيا من تفشي سلاح بيولوجي فتاك، فمنذ بدايات عام 1816 وحتى نهاية السبعينيّات اكتوت روسيا بتفشي وباء الكوليرا 7 مرات، راح في مرة واحدة فقط ضحايا يُقدرون بمليون فرد.
العراق يقرر خوض المغامرة
بجانب الجدري والجمرة الخبيثة والطاعون، برزت أسماء أخرى مثل سم البوتولينوم والأفلاتوكسين. الأخيران ارتبطا عام 1985 بالعراق إبان عاصفة الصحراء، إذ تداولت وسائل الإعلام أخباراً عن تطوير العراق لسلاحه البيولوجي الخاص. لاحقًا كشف العراق، في تصريحات رسمية، امتلاكه قذائف صاروخية وقنابل تحتوي على البوتولينوم عديم اللون والرائحة مما يجعل علاجه صعبًا إذ لا يتم اكتشافه إلا بعد حدوث الإصابة بالفعل. كما أُشيع أن العراق طور سلاحًا بيولوجيًا مستخدماً الأفلاتوكسين السام والجمرة الخبيثة.
عند تلك النقطة تلقت القوى العظمى صفعةً كالتي تلقتها من ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، فعادت لتدرك أن تخليق سلاح بيولوجي لم يعد حكرًا على معاملها المتطورة. وأيضًا أدركت أنه لم يعد سلاحًا رسميًا تتحكم به الدولة وحدها، وأنه شأن أي سلاح آخر بات له سوق سوداء غير رسمية يُباع فيها. حينها تحركت الدول الكبرى لتجريم إنتاجها وتخزينها، وتزامنًا معها تحركت جماعات متطرفة في مختلف دول العالم لتحصل على نصيبها من السلاح القوي.
جماعة أوم شينريكيو اليابانية حاولت الحصول على فيروس الإيبولا من زئير عام 1992. ثم حاولوا عام 1994 رش الجمرة الخبيثة من قمم المباني في العاصمة طوكيو، لكنهم فشلوا في الحالتين. ثم اكتوت الولايات المتحدة بالجمرة الخبيثة عام 2001 إذ أرسل مجهولون رسائل بريدية ملوثة لأفراد عشوائيين. كانت تلك أول مرة تتعرض الولايات المتحدة لهجوم من هذا النوع، لكنها تداركته سريعًا بعد وفاة 5 أفراد فقط.
رغم كثرة المواثيق والاتفاقيات التي وقعت عليها الدول لمنع إنتاج وتخزين الأسلحة البيولوجية فإنه لا توجد آلية محددة للتأكد من التزام الدول المُوقعة بهذه المواثيق. حتى أن الجدري الذي أعلنت منظمة الصحة العالمية عام 1980 خلو العالم من الفيروس تمامًا، لا تزال الولايات المتحدة وروسيا تحتفظان بنسخة منه رغم تصنيفه بأنه سلاح فتاك يمتلك قدرةً جبارة على حصد أرواح الملايين.
حول احتمالية أن يكون انتشار فيروس كورونا جزءًا من سلاح بيولوجي
الأمراض المعدية عبر القرن الماضي حصدت أرواح 500 مليون إنسان، مئات الآلاف من تلك الملايين الكثيرة كانت بسبب الإطلاق المتعمد لهذه الأمراض. لذا لا عجب أن تكون الأسلحة البيولوجية مشمولة ضمن مصطلح أسلحة الدمار الشامل، بل على رأس تلك القائمة. خطورتها تأتي من سهولة الحصول عليها، وضآلة حجمها مما يُسهل نقلها من مكان لآخر، كما أن نتائجها التدميرية كارثية.
لكن رغم ذلك لا يبدو أن البشرية تتعلم من أخطائها، فلم يمض الشهر الأول من عام 2020 إلا ومصطلح الحرب البيولوجية يطفو على السطح مرةً أخرى. الحديث تفجر بسبب انتشار فيروس كورونا القاتل في مدينة ووهان الصينية. على الرغم من التأكيدات الرسمية أن الفيروس انتشر لأسبات تتعلق بالعادات الغذائية الصينية الغريبة، إلا أنّه عدة قرائن تجعل من الشرعي أن نشكك في تلك الرواية.
من تلك القرائن أن ووهان الصينية هى موطن المختبر الوحيد المُعترف به رسميًا في الصين والمعلن عنه كمكان للتعامل مع الفيروسات القاتلة. وتواتر أقول الخبراء مؤكدة أن المختبر يرتبط ببرنامج سري صيني للأسلحة البيولوجية. يقع المختبر على بعد عدة كيلو مترات من سوق المأكولات البحرية التي تقول الصين إنه منشأ الفيروس.
الغوص وراء حادثة وباء اليوم لا يكشف سوى عن مأساة لا تختلف كثيرًا عن مآسي الأوبئة السابقة، الانشغال الأكبر يكون لمحاولات إيقاف اتساع رقعة الإصابة به، ثم يكشف الزمن لاحقًا عن الأسباب الحقيقيّة وراء الوباء. لكن إلى أن تأتي تلك اللحظة تبقى الحقيقة الثابتة أن أرواح الآلاف تُحصد وينضم لهم آلاف المصابين يومًا بعد الآخر حتى ينقشع الوباء فجأةً كما ظهر فجأة، أو تكتشف له الهيئات المتخصصة لقاحًا.
مصدر