كيف نترجم لاءات الملك الثلاثة عملياً؟
*حسين المجالي ود. محمد أبو رمان
ليس غريباً أن تصبح “صفقة القرن” حديث النخب السياسية والمثقفة وحتى الأوساط الشعبية الأردنية والفلسطينية، منذ أن أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب (في نهاية كانون الثاني من هذا العام، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو) وتمّت تسميتها بـ”الخطة الأميركية “السلام من أجل الإزدهار: رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي”.
هذا الاهتمام الشديد، رسمياً وشعبياً، بموضوع الصفقة يعكس الشعور العميق بخطورتها وتأثيرها المحتمل على القضية الفلسطينية بطبيعة الحال (البعض اعتبرها بمثابة وعد بلفور 2، وآخرون عدّوا نتائجها أخطر من حرب الأيام الستة الـ67)، وعلى حق الفلسطينيين بتقرير المصير، وحق العودة، والحلم بإقامة دولة فلسطينية حقيقية، والقدس بما لها من مكانة دينية وتاريخية ورمزية لدى العرب المسلمين والمسيحيين على السواء.
فوق هذا وذاك فإنّ “الخطة المعلنة” تمسّ أيضاً الأمن الوطني الأردني، على أكثر من جانب ومستوى؛ ولها تأثير مباشر على الأردن ومصالحه الحيوية الاستراتيجية، بما يتجاوز الشقّ الإقليمي إلى الداخل الأردني.
-1-
منذ مجيء الملك عبدالله الثاني إلى الحكم قبل قرابة عقدين من الزمن، عزز توجه الملك الراحل الحسين بن طلال منذ قرار فك الارتباط (1988)، وكرّس قاعدة مهمة في العلاقات الأردنية- الفلسطينية، إذ أعلن أنّ إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود العام 1967 هو مصلحة استراتيجية لكلا الشعبين الأردني والفلسطيني.
التزمت القيادتان الأردنية والفلسطينية بهذا الخط الاستراتيجي المهم، وأوضح الملك بأنّه لا يوجد أي أجندة أردنية باستعادة الضفة الغربية أو القيام بأيّ دور في الأراضي الفلسطينية، وكرر مراراً أيضاً مقولته المعروفة “الأردن هي الأردن، وفلسطين هي فلسطين”. أكثر من ذلك كان له تصريحات واضحة بأنّ أي علاقة مستقبلية أردنية- فلسطينية مشروطة بإقامة الدولة الفلسطينية أولاً، وبموافقة الشعبين ثانياً.
وموقف الملك لا ينفك بتاتاً عن القناعة الراسخة لدى مؤسسات الدولة الأردنية العسكرية والأمنية بأنّ إقامة الدولة الفلسطينية يمس الهوية الوطنية الأردنية والمصالح الأردنية بدرجة قريبة من المصالح الوطنية الفلسطينية.
بالرغم من ذلك أوضحت القيادة الأردنية مراراً وتكراراً للولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين بأنّ الأردن لا بد أن يكون موجوداً وحاضراً وطرفاً في أوقات معينة، عندما تتم مناقشة ملفات الحلّ النهائي، لأنّها على تماس مع موضوعات الأمن الوطني الأردني، سواء تحدثنا عن اللاجئين وحق العودة، أو القدس أو الحدود والسيادة للدولة الفلسطينية.
ما سبق بمثابة مدخل مهم ورئيس لإدراك الموقف الأردني، وأبعاد اللاءات التي أطلقها جلالة الملك بوضوح مستبقاً الإعلان عن صفقة القرن، ومطمئناً “الداخل الأردني” نحو موقف الدولة، ومزيلاً الهواجس التي بدأ يطرحها البعض حول صلابة هذا الموقف، واللاءات كانت ضد الوطن البديل (بمعنى اعتبار الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين، من خلال إما دور سياسي أردني في الضفة أو تغيير في المعادلة الديمغرافية الأردنية الداخلية أو أي صيغة مشبوهة لوحدة أردنية – فلسطينية شكلية) وضد التوطين (لأنّ حق الأردنيين من أصول فلسطينية في العودة إلى بلادهم، وممن يقيمون في الأردن ولا يملكون أرقاماً وطنية في أن يحملوا جنسية بلدهم ويمتلكون الحق في العودة إليها)، والثالثة ضد التنازل عن القدس بوصفها عاصمة لدولة فلسطين، فلا يمكن تصوّر عاصمة لفلسطين غير القدس، ولأنّ الوصاية الهاشمية على المقدسات لها أبعاد رمزية وتاريخية ووجدانية، لا يقبل الهاشميون استبدالها بصيغة أخرى هزيلة، بينما تحتفظ إسرائيل في الحق الفعلي بالسيطرة على القدس وعلى المقدسات الإسلامية والمسيحية.
المفارقة تكمن في أنّه الخطة الأميركية تعلن، منذ الصفحات الأولى أنّ الكيان الفلسطيني، الذي يتم الحديث عنه، هو “ما دون الدولة”، وأنّه لا حق في عودة اللاجئين إلى “دولة إسرائيل”، وأنّ “دولة إسرائيل” هي من يسيطر على الحدود، وأن الكيان الفلسطيني منزوع السلاح، وأن المستوطنات ستبقى ولا يوجد تهجير ولا ترحيل منها، وأنّ القدس ستكون موحدة وعاصمة لـ”دولة إسرائيل”، بينما تأخذ “الدولة الفلسطينية” أجزاء من القدس الشرقية ويطلق عليها اسم القدس أو أي اسم آخر (وفقاً لنص الخطة).
بمعنى أنّ الخطة الأميركية جيّرت ملفات الحل النهائي بالكامل (القدس، الحدود، المستوطنات، اللاجئين وحق العودة) لصالح الطرف الآخر الإسرائيلي، وهذا ليس غريباً، فمن يقرأ الوثيقة بعناية لا يعجز أن يشعر بأنّ القيمة الرئيسة فيها هي توفير متطلبات الأمن الإسرائيلي أولاً، وثانياً وثالثاً، ولعلّها كما وصفها أحد الخبراء هي أول خطة تقدّم للسلام تقدم حلاً أسوأ من الأمر الواقع!
إعلان الرئيس ترامب عن الخطة بوجود فقط الطرف الإسرائيلي يكفي للتأشير على أنّها – أي الخطة- في الإعداد والمضمون والإخراج والأهداف، لغة ومضموناً ودلالات، تعكس انحيازاً سافراً للطرف الإسرائيلي على حساب الفلسطيني، وأنّها بتجريد الدولة الفلسطينية من أي مقومات سيادية واستراتيجية تتضارب مع المصالح الوطنية الفلسطينية والأردنية على السواء.
النقطة الثانية المهمة أنّ الإدارة الأميركية بقيت متسترة على عملية إعداد الخطة، خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ولم تُشرك فيها الجانب الفلسطيني ولا الأردني، بينما كان الإسرائيليون (كما هو واضح في النصّ) شريكاً رئيساً في الإعداد، مما يعكس بالنسبة لصانع القرار الأردني حجم الفجوة التي باتت تفصل بين رؤيته ورؤية “البيت الأبيض”، خلال حقبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وقد يكون ذلك عائداً بالدرجة الرئيسة لموقف الملك من العروض الأميركية المسربّة مسبقاً عن الصفقة، وقبل ذلك موقفه من الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل.
واستبعاد الأردن بالكلية من الإعداد لصفقة القرن، ومحاولة استبدال أطراف عربية أخرى به، وهو ما نجده بوضوح في تأكيد الخطة الأميركية على أهمية التطبيع كمدخل للسلام بين دول عربية وإسرائيل، كل ذلك يضيف بنداً مهماً ورئيساً على بنود إعادة تعريف مفهوم الأمن الوطني الأردني في ضوء صفقة القرن، والمقصود هنا مكانة الأردن والدور السياسي والاستراتيجي الذي كان يقوم به على صعيد العلاقات الأميركية- العربية أو حتى التسوية السلمية، فيما إذا كان هنالك تيار نافذ من اليمين الإسرائيلي ومعه الأميركي ليست لديه مشكلة في أن يطيح بمكانة الأردن ودوره ومصالحه وقيمته الجيو- استراتيجية في سبيل حلّ مشكلات إسرائيل الأمنية والديمغرافية؟!
مثل هذا التيار، بصورة واضحة في اليمين الإسرائيلي، لم يعد يخفي هذا الخطاب، وإن كان نصّ الخطة لا يذهب إلى أي سيناريو ملتبس حول الدور الأردني (باستثناءات بسيطة لا ترقى إلى مستوى استراتيجي، بل تحدثت الوثيقة عن دولة فلسطينية قومية للفلسطينيين، وإن كانت طبعاً بالمعنى المعروف ليست دولة حقيقية)، إلاّ أنّ حيثيات الصفقة والعديد من مضامينها ودلالاتها تؤكّد على أنّ هنالك من لا يرى ضيراً في التضحية بالأردن ومصالحه من الأميركيين والإسرائيليين، في سبيل المصالح الإسرائيلية.
-2-
على صعيد بنود الخطة أصبحت النقاط التي يتحفّظ عليها الفلسطينيون والأردنيون معروفة وواضحة للجميع، ومرتبطة بالقدس واللاجئين والحدود ومفهوم الدولة الفلسطينية ذاته. على صعيد الأمن الوطني الأردني، فإنّ الملاحظات هي كالتالي:
أولاً- ما هو مطروح “أقل من دولة” وليست دولة كاملة، ونص الخطة يتحدث بوضوح عن إلغاء حق العودة للاجئين بالمطلق، وحتى التعويض، وهذا يعني كلمة واحدة “التوطين”، وبالرغم من أن الخطة امتدحت الأردن لأنّه وفّر ظروفاً إنسانية وحياة طبيعية للفلسطينيين في الأردن، إلاّ أنّها تحدثت بوضوح عن إلغاء حق العودة، وطرحت ثلاثة بدائل (العودة إلى مناطق السلطة الفلسطينية بشروط، أو التوطين في البلاد التي هم فيها بموافقة السلطات هناك، أو التوطين بدولة أخرى بالتدريج)، ومثل هذا البند يمسّ المعادلة الداخلية الأردنية على أكثر من مستوى؟
المستوى الأول أنّ هنالك تقديرات بوجود قرابة مليون لاجيء فلسطيني، مقيمين في الأردن، لا يملكون الأرقام والهويات الوطنية الأردنية، فالتعامل معهم سيصبح في ضوء صفقة القرن بمثابة مشكلة أردنية محضة، طالما أنّ الصفقة ألغت حق العودة، من دون وجود إطار واضح يشملهم في الخطة يأخذ الموضوع ضمن إطار دولي أو إقليمي، مثلاً أن يتم تخييرهم بين الهجرة إلى دولة ثانية أو العودة إلى المناطق الفلسطينية أو أي صيغة توافقية مناسبة لهم.
المستوى الثاني إلغاء حق العودة وحتى التعويض ورمي الكرة في ملعب الدول المضيفة للاجئين، مع غياب إطار قانوني وسياسي واقتصادي ودولي معتبر، بمثابة رسالة للأردن تحديداً بأنّ هذه مشكلتكم وحلوّها بأنفسكم، وللأردنيين ذوي الأصول الفلسطينية بأنّ مشكلتكم وقضيتكم هي مع الأردن، وليست مع “الإسرائيليين”، ما يعني تهديداً للهوية الوطنية الأردنية وهوية الدولة ونقل الكرة الملتهبة إلى الأردن.
بالطبع فإنّ الأردنيين من أصول فلسطينية هم أردنيون كاملو الدسم يمتلكون أرقاماً وطنية، لكنّ نسبة كبيرة منهم أيضاً تملك حق العودة ولديها ارتباط وثيق بهويتها الفلسطينية، وأي بناء للمعادلة الداخلية الوطنية من الضروري أن يكون مرتبطاً بتوافقات إقليمية ودولية وداخلية، وليس فرضاً للحل من طرف واحد.
ثانياً- إن قضية الحدود مسألة مهمة جداً للأردن، وضم غور الأردن للإسرائيليين، يعني أن يكونوا على الطرف الآخر الممتد لمئات الكيلومترات، ما يعني – بالضرورة- نقل العبء الأمني على الكاهل الأردني للتعامل مع هذا التحدّي، في ظل عدم وجود دولة فلسطينية ذات سيادة وحدود، وفي ظل أيضاً عدم قبول الرأي العام الأردني بهذه الصيغة، وفي ضوء الموقف من القدس، فإنّ هذه الحدود ستكون بمثابة حزام ناري على خاصرة الأردن الغربية، وسترتب أعباء كبيرة على الأمن الوطني الأردني، وأثقالا أكبر في التعامل مع استحقاقات لوصفة الأردن رفضها رسمياً وشعبياً، مفروضة عليه، وتضعه أمام الأمر الواقع!
ثالثاً- موضوع القدس له مكانة رمزية وتاريخية ووجدانية لدى الهاشميين، وكذلك الحال لدى العرب جميعاً، والمسلمين، والموقف الأميركي يعني عملياً إشعال نار الراديكالية في المنطقة العربية، وليس غريباً أبداً أن يعلن المتحدث باسم تنظيم داعش المتطرف عشية إعلان الصفقة أنّ “أمير التنظيم” قرّر إعطاء الأولوية في الصراع ضد إسرائيل، وهو تحوّل كبير في خطاب واستراتيجية التنظيم، إن لم يكن له على المدى القريب أثار واقعية، فعلى أكثر من صعيد يعني توفير بيئة خصبة لإشعال المنطقة العربية.
ما سبق يفسّر – بالمناسبة- تأكيد الملك مراراً وتكراراً على خطورة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، على صعيد الشارع العربي، فلم يكن جلالته يقصد المظاهرات والمسيرات الآنية الانفعالية، لكنّه بالضرورة كان يعني إضعاف معسكر الاعتدال وتقوية معسكر الراديكالية والتطرف، ومنح التنظيمات المتطرفة والإرهابية مساحة واسعة للتجنيد والدعاية.
-3-
الموقف الأردني وبرنامج المرحلة القادمة
الموقف الأردني اتّسم بالوضوح الشديد وأبعد أي التباس أو تخرّصات، وقطع الطريق مسبقاً، ولاحقاً، على المشككين به، وإذا كانت هنالك مصالح وأهداف لأطراف خارجية بالتشكيك في هذا الموقف الصلب، فإنّ الغريب والعجيب أن تكون هنالك أصوات وهمهمات داخل البيت الأردني تسير مع هذه الموجة، ومثل هذه الأصوات خطيرة لأنّها تخلق حالة كبيرة من انعدام الثقة في موقف الملك والدولة، وتساعد على إضعاف الجبهة الداخلية ونشر البلبلة في وقت يحتاج الوطن فيه إلى الوحدة والثقة الداخلية.
السؤال المهم أردنيّاً: هو كيف نترجم لاءات الملك على أرض الواقع بما يحمي المصالح الوطنية الأردنية، ويعزز من المصالح الأردنية- الفلسطينية، ويضعف إمكانية تطبيق بنود الصفقة، أو يجبر الإدارة الأميركية الحالية أو القادمة على إعادة النظر في كثير من البنود؟
يسبق هذا السؤال تساؤل آخر عن المرحلة القادمة على صعيد خطة تنفيذ الخطة الأميركية؟ ومن المعروف أنّ الإدارة الأميركية حالياً، كما هي حال أغلب المؤسسات الأميركية دخلت في مناخ الانتخابات، وبالتالي لا يُتوقع أن يكون هنالك سياسات عاجلة، على الأقل أميركياً، في الضغط على الأردنيين والفلسطينيين لتمرير الصفقة وقبولها، ما يمنح الجانبان وقتاً مهماً لترتيب الأمور وإعداد برنامج للتعامل مع الخطة الأميركية.
مع ذلك من الضروري الإشارة هنا إلى أنّ “عامل الوقت” عموماً، لم يعد في صالح الفلسطينيين والأردنيين على السواء، لأنّ الجانب الإسرائيلي سيستثمر الخطة لتنفيذ بنود منها، مباشرة، مرتبطة بضم غور الأردن، وربما إحداث تغييرات في الوضع القائم في القدس، والأهم من هذا وذاك فإنّ صفقة القرن هي في المحصلة بمثابة ترسيخ وتسريع وشرعنة لسيناريو الأمر الواقع؛ الذي يجري من قبل الطرف الإسرائيلي ويؤدي في النهاية إلى إلغاء أيّة إمكانيات لإقامة الدولة الفلسطينية.
إذاً، إلى حين الانتهاء من موسم الانتخابات الأميركية، فإنّ بقاء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يعني إمكانية المضي قدماً من قبل الإدارة الأميركية في الخطة، وفي حال فاز الديمقراطيون فإنّ الوضع سيكون بالتأكيد أقلّ وطأة، لكن عامل الوقت – كما ذكرنا سابقاً- يخدم الطرف الإسرائيلي، وليس الفلسطيني، فذلك لا يعني بالضرورة الاسترخاء أو القول بأنّ الصفقة فشلت، لأنّها عملياً تطبق؛ بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وضم الغور، وإبقاء المستوطنات، بمعنى أيّا كانت الاحتمالات المنبثقة عن الانتخابات الأميركية فإنّنا أمام النتيجة نفسها، وإن اختلفت الحيثيات والتكيتكات والخطابات، أو حجم الضغوط.
ثمّة أكثر من مستوى من الضروري أن نقرأ من خلاله موضوع الصفقة وبرنامج العمل الأردني المطلوب، وهذا يستدعي – منطقياً وواقعياً- التمييز بين نوعين من المتغيرات؛ الأول هو ما يمكن التحكم فيه، ويرتبط بالموقف الأردني الوطني، والثاني ما يخرج عن إطار قدراتنا وإمكانياتنا، والمقصود الأجندات الأميركية والإسرائيلية والمحيط الاستراتيجي الإقليمي.
المستوى الأول يتمثل – في حال بقي الرئيس ترامب- يتمثّل بالضغوط الممكنة أو المتوقعة على الأردن للموافقة على تنفيذ الصفقة، أو الشق الأردني المتعلق بها، سياسياً واقتصادياً، ومن المعروف أنّ الأردن يمرّ حالياً بأزمة اقتصادية ومالية كبيرة، بالإضافة إلى الانكشاف الاستراتيجي العربي، وحجم المساعدات الأميركية الكبير للأردن، اقتصادياً وعسكرياً، وارتباط الأردن ببرنامج صندوق النقد الدولي، الذي يسهل الحصول على القروض بفوائد محدودة..الخ. فهذه جميعاً عوامل مزعجة تؤشر إلى أنّه إذا قررت إدارة الرئيس الأميركي ممارسة ضغوط شديدة على الأردن، فإنّ علينا أن نكون مستعدين لها، وهذا الموقف السياسي الرسمي والشعبي قد يكون له ثمن كبير، في ظل الظروف الإقليمية والمحلية الراهنة، وقد يؤدي إلى توتر شديد في العلاقة بين الدولتين.
بالضرورة ما تزال أغلب المؤسسات الأميركية تقف إلى جوار الأردن، وستؤكد على خطورة خسارة العلاقة مع الأردن، وهو أمر يمكن أن يوازن بين رغبة الرئيس ترامب بتمرير الصفقة مع اليمين الأميركي- الإسرائيلي من جهة ووجود اتجاه يرى بأنّ ذلك لا يجوز أن يؤدي إلى خسارة الأردن والاستقرار السياسي فيه.
مع ذلك، فإنّ التعامل المستقبل يقتضي وضع السيناريو الأسوأ في الحسبان، وهو ضغوط أميركية، وربما عربية، على الأردن ليس فقط لتخفيف حدة الموقف من الخطة، ولا المضي في خطوات تنفيذية فيها، ولكن أيضاً لإضعاف الموقف الفلسطيني، الذي أصبح يرى في الموقف الأردن بمثابة الجدار الصلب الذي يستند عليه.
في مواجهة هذا السيناريو المحتمل، من الواجب على الحكومة ومؤسسات الدولة والإعلام الوطني إعداد الشارع الأردني وتحضيره لمثل هذه الأثمان السياسية والاقتصادية المتوقعة، ذلك يقتضي أيضاً تفاهمات وطنية وحوارات داخلية عميقة لإيجاد صف داخلي قوي صلب وراء الملك والدولة في هذه المواجهة إن وقعت، ولبناء ثقافة التحمل والصمود لعبور هذه المنعرج التاريخي.
المستوى الثاني يتمثل في خياراتنا وخطواتنا وإمكانياتنا للتعامل والتكيّف مع القفزة الخطيرة التي حدثت مع الخطة الأميركية الجديدة للسلام، وسيناريو الأمر الواقع، الذي ينهي بدرجة كبيرة الحلم الوطني الفلسطيني (بإقامة دولة ذات سيادة وحدود عاصمتها القدس)، ضمن مشروع التسوية الأميركي، ومع تفشّي أيديولوجيا اليمين الإسرائيلي، وانحسار اليسار الإسرائيلي إلى مستوى محدود جداً غير مؤثر.
بمعنى المطلوب اليوم التحضير لخطة (ب)، Plan B، ما هي خياراتنا البديلة لحل الدولتين في المرحلة الحالية، وهل سنقف بصورة مبدئية ضد صفقة القرن؟ أم نقدم تصوّراً لإيجابياتها وسلبياتها ونستدرج الطرف الآخر للحوار حول القضايا النهائية، الأفضل هو أن يكون هنالك رفض مبدئي للخطة كي لا تصبح – بدايةً- من الوثائق المرجعية بدلاً من قرارات الأمم المتحدة أو الحلول التوافقية السابقة، وكي لا يتم خفض السقف التفاوضي الفلسطيني، بدايةً.
في المقابل المطلوب اليوم هو بناء سردية فلسطينية متماسكة وقوية في الرد على الخطة الأميركية، ورفض القبول بها، وتقديم الطرح البديل لها، ودعم هذا الطرح وترويجه أردنياً وفلسطينياً وعربياً، بمعنى لماذا نرفض هذه الصفقة قانونياً وإنسانياً وسياسياً؟ ولماذا لا يمكن أن تخدم بصيغتها الراهنة السلم الدولي والإقليمي ولا المصالح الدولية، فضلاً عن توفير الحدّ الأدنى من العدالة.
ذلك يقودنا إلى الإشارة في الخطة الأميركية لوجود “بديل عن السلطة الفلسطينية” يمكن التوافق معه، بحاجة إلى توضيح وإيضاح، لأنّ ذلك يستبطن تهديداً أو تلويحاً بوجود خطة أخرى بديلة عن السلطة، ومن الضروري إدراك ذلك والتعامل معه.
مثل هذا الطرح والخطاب العقلاني مهم جداً حالياً، والأهم ترويجه وتسويقه ديبلوماسياً وإعلامياً في الأوساط الأميركية والأوروبية والدولية، وبناء توافق وتبنّي رسمي عربي له، بخاصة خلال الشهور القليلة القادمة، لأنّ الأوساط الأميركية ستكون مشغولة بالانتخابات، وسيكون هذا الطرح غداة الانتخابات قد أصبح متداولاً معبّراً عن موقف بديل وخطاب مقابل لماكينة الخطة ومروّيجيها.
إذا تجاوزنا هذا المستوى، أي الخطاب الفلسطيني البديل، وانتقلنا إلى مستوى أخطر، يتمثّل في التفكير في السيناريوهات والخيارات والبدائل الواقعية لإفشال حلّ الدولتين، ما هي الخطة العملية في مواجهة سيناريو الأمر الواقع؟..
هذا المستوى يدخل ضمن المتغيرات التي لا يمتلك الأردن وحده التحكّم بها، لكنّها تؤثر عليه وعلى أمنه الوطني بشدة، كما أوضحنا سابقاً، لذلك من الضروري الانتقال في التنسيق مع الفلسطينيين إلى بناء تصوّر عميق وإطار توافقي وجدول أعمال لتنفيذه والتعامل مع هذه السيناريوهات، فالتشابك بين المصالح الأردنية والفلسطينية اليوم عميق إلى درجة لا يمكن الفصل بين الخطوات الفلسطينية والموقف الأردني، وهو أمر يتطلب بناء وتطوير رؤية واضحة ودقيقة لهذه السيناريوهات والبدائل، والخيارات التي قد لا تكون تقليدية ضمن الوضع الحالي، مثل إعادة النظر في الدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية مثلاً، أو تحفيز المقاومة السلمية، أو الانتقال إلى منظور الحقوق الإنسانية والسياسية للشعب الفلسطيني، وربط الوضع الإسرائيلي بنظام الفصل العنصري- الأبارتايد The Apartheid.. الخ.
ضمن المستوى نفسه، وفي ضوء الانكشاف الاستراتيجي في العمق العربي، وتراجع الأدوار العربية المساندة، فمن الضروري في المرحلة الحالية، كحدّ أدنى، التركيز على “دول الطوق” (الأردن، فلسطين، سورية، لبنان، مصر) بوصفها الأكثر التصاقاً وتأثراً بالقضية الفلسطينية، والعمل على ترميم هذه الجبهة العربية، وتفعيلها ديبلوماسياً، لتكون هي نواة العمل العربي المحيط بالقضية الفلسطينية وللحيلولة دون إحداث اختراقات إسرائيلية أو أميركية للوضع العربي، عبر الضغوط من أجل التطبيع والإيحاء بقبول رسمي عربي، ضمني، للخطة الأميركية.
الخلاصة
رّبّ صدفة أقوى من ميعاد، قد يكون هذا لسان حال الأردن في التعامل مع الخطة الأميركية التي تأتي على أبواب المئوية الأولى للدولة الأردنية، وهي الدولة التي راهن كثيرون وفي أوقات مختلفة على انهيارها، واعتبرها آخرون “كيان وظيفي” مهمته الفصل بين إسرائيل والدول العربية الأخرى، وربما رآه إسرائيليون دولة فلسطينية بديلة، (الوطن البديل).
وبالفعل مرّات لحظات تاريخية حاسمة ومفصلية وخطيرة في مسيرة الأردن، لكن في كل مرحلة كان يخرج أكثر قوة وصلابة، ولعلّ المحطة الحالية لا تقل خطورة وأهمية عن المراحل السابقة، وبقدر ما تمثّل تحدّياً للأمن الوطني الأردني ولصانع القرار بقدر ما تشكّل فرصة للانتقال إلى مرحلة جديدة في تاريخ الدولة وفي بناء مسيرة الاعتماد على الذات وترسيخ الهوية الوطنية والتأكيد عليها، والتحلل من تلك الصور النمطية أو حتى التصورات الدولية والإقليمية التي تستخف بالدولة وبقدراتها على الصمود والاستمرار والحفاظ على المصالح الوطنية.
من هنا، فإنّ الإعلان عن الخطة الأميركية يتزامن مع تحولات إقليمية جوهرية في بنية النظام الإقليمي وفي الديناميكيات التي تحكم سياسات المنطقة الأمنية، وفي التحولات الداخلية التي تعيد تأطير العلاقات الاقتصادية- السياسية الوطنية على أسس جديدة أقرب إلى منطق الدولة والمواطنة والواقعية، وتقلل من الاعتماد على الآخرين، ومن ثم اليوم المواجهة الديبلوماسية – إن جاز التعبير- على خلفية “صفقة القرن” أيضاً تهزّ التحالفات التقليدية للأردن، وفي الوقت نفسه تؤكّد على أنّ الفرضيات التي لُبّست للسياسات الأردنية سابقاً مختزلة ومجحفة وغير صحيحة، والدليل الأكبر على ذلك موقف الملك والدولة الأكثر وضوحاً وجلاء وصراحة، على الصعيد العربي، في الحفاظ على الدولة والحقوق الفلسطينية وفي التأكيد على الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية.
باختصار؛ المطلوب اليوم، حكومة ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني والإعلام والقوى السياسية، ترجمة “لاءات الملك” إلى خطط وسيناريوهات وخيارات وبرنامج أعمال وطني وإقليمي، ديبلوماسي وداخلي، سياسي وإعلامي، والإعداد لمواجهة مرحلة جديدة مختلفة عمّا سبق.
* حسين المجالي وزير الداخلية الأسبق، محمد أبو رمان باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية.
مصدر