في تاريخ الممالك والسلاطين حكايات كثيرة وكواليس تخفي مؤامرات وتحالفات، والعثمانيون حالهم كحال الإمبراطوريات السحيقة دارت في قصورهم مكائد وضغائن عديدة، من أبرزها كانت مكيدة التخلص من الأمير مصطفى، نجل السلطان العثماني سليمان القانوني، في مؤامرة اشترك فيها كثر من أصحاب النفوذ في بلاط القصر الحاكم.
لم تكن الأحقاد ضد الأمير الشاب وليدة الصدفة، فجذورها كانت تعود إلى أعوام طويلة حتى حانت "الفرصة الذهبية" متمثلة بالحرب على الصفويين، فلم يجد أعداء الأمير مصطفى أفضل منها لإقناع والده بأن ابنه تحالف مع "أعداء السلطنة" (الصفويين) حتى يعتلي عرش أبيه، فكانت النهاية المأساوية.
كان القانوني سلطان الدولة العثمانية الأشهر في تاريخها، حتى عُرف في أوروبا بـ"سليمان العظيم". وصله إرث أجداده مبكراً، فلم يكن يتعدى السادسة والعشرين من عمره حين استلم الحكم، ولم يتوقع أحد لهذا الشاب حينها أن يستمر ملكه 46 عاماً، أي ما يقرب النصف قرن.
حقق سليمان خلال عهده ما لم يسبقه أو يعقبه من سلاطين بني عثمان، وذلك بشهادة مؤرخين كثر على اختلاف جنسياتهم، فقد توسع في فتوحاته في مطلع القرن السادس عشر في قلب أوروبا ليضم تحت إمارته أغلب أراضي المجر، واتجه جنوباً فأحكم قبضته على الغالبية العظمى من منطقة الشرق الأوسط، من شمال إفريقيا غرباً وحتى مشارف إيران شرقاً، حتى بسط سلطانه على رقعات واسعة من الأرض ليصبح أكثر الحكام نفوذاً ومهابة في زمانه.
ورغم اصطدامه بأربع حركات تمرد في بداية ولايته، لكنه تمكن من القضاء عليها سريعاً بدهاء فاق بمراحل عمره الصغير آنذاك، وفقاً لأيزن أتل في كتاب العصر الذهبي للفن العثماني "The Golden Age of Ottoman Art".
يضم تاريخ سليمان القانوني انتصارات عدة على المستوى العسكري، جعلته الأشهر بين سلاطين بني عثمان، لكن رغم هذا السجل الحافل بالتوسعات والإنجازات، تظل واقعة مقتل نجله الأمير مصطفى نقطة داكنة في تاريخه، ولو اختلف المؤرخون حول أسبابها ودوافعها.
دارت مسألة الصراع على السلطة العثمانية داخل القصر السلطاني في المرحلة الأولى، وكانت قد بدأت بتعيين الأمير مصطفى ابن القانوني خلفاً لأخيه الأمير محمود. وقتها تدخّلت زوجة القانوني (خرم سلطانة) لتخلق من الموضوع أزمة حادة للأسرة والدولة العثمانية، راح ضحيتها معظم أبناء القانوني، إذ حصدت الأزمة كافة أبناء القانوني باستثناء الأمير سليم، وعدداً من زوجاته ومن السياسيين كان على رأسهم الصدر الأعظم إبراهيم باشا.
انتهت تلك المرحلة بشكل دموي، بعد قتل ولي العهد (الأمير مصطفى) بموافقة السلطان نفسه وأمام ناظريه، وفقاً لأحمد صدقي شقيرات في كتاب "الزعامات المحلية والعشائرية في بلاد الشام".
ولد الأمير مصطفى في 6 آب/ أغسطس من عام 1515 في تركيا، ويُعرف عنه أنه كان محبوباً لدى الجيش والشعب، لا سيما وأنه عُرف كنموذج مطابق لجده السلطان ياوز سليم.
شبهه الشديد بجده في الملامح زاد من محبته لدى المحيطين به من الأتراك، ثم كان شاعراً وخطاطاً، وأصبح ولياً للعهد في الثانية والثلاثين من عمره. بعد ست سنوات على تعيينه، قُتل الأمير مصطفى ودُفن في بورصة، بينما يُقال إن أخيه الأصغر جهانكير توفي من شدة حزنه عليه وتأثره بالحادث، وكان آنذاك في الثانية والعشرين من عمره.
وبوفاة الأمير مصطفى، بدأ الصراع يشتعل بين أبناء السلطان، ومنهم بايزيد وسليم، بحسب كتاب "تاريخ الدولة العثمانية" للكاتب يلماز أوزتونا.
طوال مسيرته العسكرية في الحكم، شكّل الصفويون صخرة كبيرة عصية على القانوني الذي أغار عليهم في ثلاث حملات عسكرية لم تنجح في القضاء على دولتهم.
بدأ السلطان الاهتمام بتطورات الأوضاع على حدود دولته الشرقية، والتي كانت تؤرق ذهنه منذ فترة طويلة، وذلك بعد أن أرسى دعائم لحلول جذرية للقضايا التي كانت تشغل باله على الحدود الغربية.
وكان القانوني يأمل في القضاء بشكل نهائي على الدولة الصفوية التي تحولت الى قضية الشرق بالنسبة للدولة العثمانية، إبان عهد والده السلطان سليم الأول، وكانت تُوجَّه إليها أصابع الاتهام في حركات التمرد التي حدثت في الآونة الأخيرة.
وفي الواقع، فإن السلطان كان قد أحيى الغزوات الجهادية ضد الغرب الذي لم تنظم ضده حملات عسكرية بمعنى الكلمة منذ فترة طويلة، ثم حان الدور لـ"حماية الكيان الإسلامي" في مواجهة تهديدات الصفويين، وفقاً لفريدون أمجان في كتابه "سليمان القانوني سلطان البرين والبحرين".
توالت هجمات الصفويين على مدن شرق الأناضول على مدار ثمانية أشهر متواصلة في عام 1553، الأمر الذي أحدث حالة من الغضب العارم في عاصمة الدولة العثمانية، لا سيما وأن قوات الصفويين انتشرت على مشارف ولاية أرضروم، ما يعني أنه لم يكن هناك أي حاجز أمام نشوب حرب جديدة بين العثمانيين والصفويين.
أرسل السلطان سليمان جنود ولاية الروملي إلى الأناضول، بقيادة سكولو محمد باشا، وذلك للرد على الهجمات المتكررة للصفويين في شرق الأناضول.
ولما انتشرت مناقشات بين أركان الدولة حول ضرورة إرسال قائد مشهور يتحلى بالحنكة على رأس القوات المتجهة صوب الأناضول، أصدر السلطان سليمان أوامره بتنصيب الصدر الأعظم رستم باشا قائداً على القوات العسكرية المتجهة إلى الشرق. وبالفعل، عبر رستم باشا مضيق البوسفور نحو منطقة أوسكو دار، الواقعة على الجانب الآسيوي من إسطنبول، ثم تحرك نحو ولاية قونيا في الشرق، وفقاً لكتاب "سليمان القانوني سلطان البرين والبحرين".
اختلف المؤرخون حول أسباب ودوافع قتل الأمير مصطفى على يد والده، لكن ظل القاسم الأكبر بينها متعلقاً بمكيدة السلطانة خرم شاه وصهرها، للتخلص من الأمير الشاب الذي كان يحلم باعتلاء عرش أبيه باعتباره الابن الأكبر له وهو الأمر الذي لم يرق لها، حيث كانت ترى أن أبناءها هم الأولى بخلافة الأب.
كانت خرم قد حصلت على نفوذ متزايد لدى السلطان سليمان وأصبحت كأنها زوجته الوحيدة، وكانت هي والدة الأولاد، عدا "الشهزاده الكبير" (ولي العهد). ولذلك، كان عليها أن تنحي ولي عهده لتضمن العرش لأحد أبنائها ، فبدأت باتباع سياسة تتسم بالصبر والدقة والمؤامرات استمرت سنوات طويلة، ونذرت نفسها لتحقيق هذا الهدف، وفقاً لكتاب "تاريخ الدولة العثمانية".
عبَرَ رستم باشا مضيق البوسفور نحو منطقة أوسكو دار الواقعة في الجنوب الآسيوي من إسطنبول، ثم تحرك نحو ولاية قونيا في الشرق. كان السلطان سليمان يبلغ من العمر 58 عاماً في ذلك الوقت، وكانت قد أنهكته الإحدى عشر غزوة التي قام بها طيلة فترة حكمه، لكنه بالرغم من ذلك رأى ضرورة في وقف زحف الصفويين نحو شرق الأناضول، ليبرهن أنه ما زال قوياً وبإمكانه الدفاع عن إمبراطوريته، بعدما شعر أن أمن دولته وسلامة عرشه أصبحا على المحك.
أقام الصدر الأعظم رستم باشا الذي أرسله السلطان في مقدمة الجيش فترة في أنقرة ثم وصل إلى قونيا وآقصراي.
وفي تلك الأثناء، توقفت حملة الجيش ولجأ رستم باشا إلى تأليب السلطان سليمان على ابنه، من خلال رسائل تتضمن معلومات حول تحريض كان يتلقاه الأمير مصطفى من الصفويين، ومنها "لقد شاب والدك المجاهد، وصار عاجزاً عن الخروج إلى الغزوات. ولقد أسند مهمة غزو إيران هذه المرة إلى الصدر الأعظم. فلا غرو أن السلطان كان يريد تنصيبك على رأس هذه الغزوة، إلا أن رستم باشا حال دون تنفيذ هذا الأمر. فإذا ذهبت واعترضت طريق الجيش، فإن أغلب الجنود سيختارونك ويفضلونك على رستم باشا. وليبق السلطان الأعظم في قصوره يتعبّد بقية عمره، وتقوم أنت بإدارة شؤون الدولة وتسيير أمورها ليستتب الأمن ويتحقق الاستقرار".
لما قرأ السلطان سليمان هذه الرسالة لم يرغب في تصديق محتواها وربما حذر الصدر الأعظم بقوله: "أخشى أن يكون ابني الأمير مصطفى قد تجرأ على وقاحة كهذه، وأنا لم أره يرتكب فعلاً كهذا طوال حياتي. هناك بعض المفسدين الذين يفترون الكذب على الأمير مصطفى بإشاعة أنه يرغب بانتزاع السلطة مني. وإياكم أن تتحدثوا عن هذه الأكاذيب مرة أخرى".
يرى البعض أن المؤرخين العثمانيين اختلقوا هذه الرسالة من أجل إضفاء الشرعية على واقعة مقتل الأمير مصطفى، لا سيما وأن عدداً من المؤرخين أكد أن قتل الأمير مصطفى كان الهدف الرئيسي على الإغارة على الصفويين، أي أن الغزوة برمتها كانت بمثابة مسرحية للتخلص من الأمير الشاب.
في تلك الفترة، تلقى السلطان رسائل من أعدائه الصفويين يطلبون منه التهدئة والسلام، لكنه كان قد عقد العزم على الخروج إلى حملة شرق الأناضول، لكن هذه المرة ليست لملاقاة الصفويين لكن للتخلص من ابنه الأمير مصطفى، في ما يقول مؤرخون.
حاول المحيطون بالسلطان أن يملأوا أذنيه بالأكاذيب والشائعات حول ابنه أثناء طريقه إلى آقتبة، وكان قد ضمّ إليه في رحلته ابنه الأمير سليم. وفي مدينة آقتبة، القريبة من مدينة قونيا، أمر بنصب خيمته واستدعاء ابنه الأكبر.
تحرك الأمير مصطفى من منطقة إيرلي في قونيا ووصل إلى آقتبة حيث كان يعسكر والده السلطان، ولم يكن يدري بما كان ينتظره، فأمر بنصب خيمته إلى جانب خيمة والده. وصل الأمير إلى خيمة والده، ونزل عن جواده أمام خيمة الديوان الوزاري، فصافحه الوزراء في المقدمة ورافقوه حتى خيمة السلطان.
كان رستم باشا قد استطاع أن يملأ قلب والده بالكره نحو ولده الأكبر، بعدما تزوج ابنة القانوني الوحيدة التي يحبها السلطان كثيراً وهي ابنة السلطانة خرم، وقد تعاونا معاً على تنفيذ مخطط الخلاص من الأمير مصطفى.
تطورت مؤامرة رستم باشا بإعداد رسائل مزورة تدعي أن الأمير مصطفى اتفق مع الشاه الصفوي طحمسب على أن يصاهره مقابل مساعدته على الجلوس على عرش أبيه، ونتيجة لذلك اقتنع السلطان سليمان بعصيان ابنه وتمرده عليه، وهنا شعر بأن السلطنة في شر مقبل ولا مفر من الخلاص من ابنه.
دخل الأمير مصطفى إلى خيمة والده وانحنى لتقبيل يده، لكن السلطان صاح في وجه، قائلاً: "بأي وجه تصافحني وتقبل يدي؟"، ثم أدار وجهه إلى قائد الحرس الذي هرول نحو الأمير مطالباً إياه بعدم المقاومة "أنا أنفذ أوامر السطان الأعظم". اشتبك معه مصطفى واستطاع الإفلات منه فاندفع إليه ثلاثة حراس، كان يُطلق عليهم "الخرس"، واستطاعوا تقييده وخنقه بخيط حرير حتى لفظ أنفاسه بعد مقاومة شرسة كونه عُرف بـ"الأمير الأشجع" في السلالة الحاكمة.
"كل ذلك كان تحت بصر السلطان سليمان الذي رأى ابنه وهو يُعدم أمامه"، كما ورد في الكتاب المنشور لأمجان عن "سليمان القانوني سلطان البرين والبحرين".
مصدر