اعتمد البرلمان الفرنسي في شهر يوليو 2023 مشروع قانون «البرمجة العسكرية» الجديد، وذلك بزيادة قياسية في ميزانية وزارة الدفاع تصل إلى 413 مليار يورو في الفترة ما بين 2024 – 2030. وذلك بالوتيرة التالية: في عام 2024، ستزيد الميزانية بمقدار 3.1 مليار، ثم ستضاف إليها 3 مليارات كل سنة حتى عام 2027. واعتباراً من عام 2028، يجب أن تتلقى وزارة الدفاع الفرنسية 4.3 مليار يورو أخرى سنوياً. من تلك الزيادة، خصص قانون البرمجة الجديد مبلغ 13 مليار يورو للقوات المسلحة الفرنسية لتعزيز حماية الأراضي الفرنسية والتعاون العملياتي مع الحلفاء، وتحسين قدرات التدخل السريع خصوصاً على مستوى القوات البرية.
يرتكز قانون البرمجة العسكرية الجديد على منطق تحول الجيوش، ويتضمن ذلك تزويد الجيش الفرنسي بالوسائل اللازمة للتعامل مع تدهور السياق الاستراتيجي، وعودة الحرب إلى أبواب أوروبا، وتسارع الاضطراب التكنولوجي.ويحدد قانون البرمجة الجديد سياسة فرنسا الدفاعية للسنوات المقبلة على استراتيجية من خمسة محاور رئيسية:
- تكيف الاستراتيجية الدفاعية الفرنسية مع التهديدات الحالية والمستقبلية.
- تعزيز أسس الدفاع الفرنسي.
- تكييف أداتنا العسكرية مع التهديدات المتطورة.
- تحقيق قفزات تكنولوجية في مجال الدفاع.
- ترسيخ الصورة الأخلاقية للجيش الفرنسي.
وذلك بهدف تمكين الجيش الفرنسي من نشر قواته في جميع أنحاء العالم، قوات قادرة على رد العدوان على فرنسا ومصالحها ومواجهة التهديدات المتعددة، ومن أهمها:
- الكوارث الطبيعية التي من المتوقع أن تزيد وتيرتها في المستقبل.
- القوى المناوئة للقانون الدولي.
- المتلاعبون بالمعلومات.
هدف هذه الدراسة هو تحليل تداعيات قانون البرمجة العسكرية الجديدة على القوات البرية.
- عدد القوات البرية الفرنسية ومكانتها: سيؤدي قانون البرمجة العسكرية الجديد إلى خفض عدد القوات البرية بحوالي 10 آلاف، وذلك للأسباب التالية:
العديد من الجنود سيتلقون التدريب على مهام جديدة في مجال الروبوتات والتحكم في الطائرات من دون طيار والحرب الإلكترونية والإنترنت داخل كل فوج.
ينص قانون البرمجة العسكرية أنه لكي تلحق فرنسا بالرَّكْب «في مجال المسيّرات»، يجب تطوير نوع فرنسي من الذخيرة يتم تشغيلها عن بُعد بحلول عام 2030، وتحقيق القدرة على الطيران في أسراب، وهو ما سيؤثر بالسلب أيضاً على أعداد جنود المشاة.
رغم أن القنبلة النووية ظلت الركيزة الأساسية لاستراتيجية الدفاع الفرنسية منذ عهد الجنرال ديغول، فإن الحكومات السابقة لم تقم بشيء يذكر لصيانة وتحسين الأسلحة النووية والناقلات القادرة على حملها، إلا أن البرمجة العسكرية الجديدة ستخصص نحو 54 مليار يورو لذلك، مما يمكن فهمه بأن زيادة قوة الردع على حساب قوة الاشتباك البري التقليدي.
تحول ساحات الحروب رويداً رويداً من الأرض إلى الفضاء، قاع البحر، مجال المعلومات، الفضاء السيبراني، لذا ينص قانون البرمجة الجديد على أن السيطرة على مجالات الصراع الجديدة هذه هي إحدى أولوياته.
- القوات البرية الفرنسية في مقاطعات وأقاليم ما وراء البحار الفرنسية: في وقت أصبحت التهديدات الهجينة والتأثيرات السلبية لتغير المناخ والتجرؤ على القانون الدولي أكثر انتشاراً من أي وقت مضى، رأى قانون البرمجة الجديد أنه من الضروري بالنسبة لفرنسا أن تؤكد من جديد قدراتها الدفاعية وسيادتها على إداراتها ومناطقها في الخارج خصوصاً حين ينشر منافسو فرنسا قدراتهم العسكرية بشكل صريح في أماكن قريبة منها. لذا فإن تعزيز القوات السيادية الفرنسية في هذه الأراضي هو إحدى أولويات مشروع قانون البرمجة العسكرية،
ولتمكين القوات الفرنسية المتمركزة في الخارج من تنفيذ مهامها المتعلقة بالسيادة وحماية السكان وأيضاً ترسيخ تحالفاتها، يتوجب زيادة عددها والتحديث المستمر لمعداتها، والاستثمار في البنية التحتية.. إلخ. لذا استهدفت البرمجة تدعيم القوات البرية الفرنسية الموجودة في أقاليم ما وراء البحار بـ 619 جندياً مقاتلاً إضافياً، وسيتم زيادة الاحتياطي التشغيلي، وسيتم تحديث البنية التحتية بتكلفة تزيد على 800 مليون يورو وتجنيد 800 فرد لتحديث البنية التحتية العسكرية للأقاليم والمقاطعات الفرنسية ما وراء البحار.
- مخابرات القوات البرية الفرنسية: الحصول على المعلومات أمر حيوي بالنسبة للقوات المسلحة. سواء على المستوى السياسي أو العسكري أو التكتيكي، فهو ضروري للتخطيط وتنفيذ العمليات وصنع القرار. وفي هذا السياق، يقوم 8000 متخصص من جميع أفرع القوات المسلحة الفرنسية بما فيها القوات البرية بجمع وفرز وتحليل وتفسير ملايين البيانات التي تنتشر حول العالم كل يوم.
وستستفيد المخابرات العسكرية، ومن بينها المخابرات التابعة للقوات البرية، من قانون البرمجة الذي سيضاعف ميزانيتها، لتتمكن فروعها المختلفة من تجنيد آلاف الموظفين، فضلاً عن تخصيص موارد إضافية لأقمار المراقبة الجديدة، وترسيخ الأمن السيبراني، واقتناء خوادم جديدة واستخدام الذكاء الاصطناعي لتسريع معالجة البيانات، وذلك لضمان التفوق التشغيلي على الخصوم.
ويضمن قانون البرمجة الجديد، أن ميزانية المخابرات العسكرية قد تضاعفت مرتين بين عامي 2017 و2030، ما سينعكس بالإيجاب على مخابرات القوات البرية.
وفي مجال التوظيف، سيخلق قانون البرمجة العسكرية 2024 – 2030 ما يقرب من 600 فرصة عمل خلال تلك الفترة، والاحتفاظ بموظفيه الحاليين، الذين يغريهم أحياناً القطاع الخاص. وللاستجابة لكل هذه التحديات، تم تخصيص ميزانية كبيرة تبلغ خمسة مليارات يورو للعنصر الاستخباراتي في مشروع قانون البرمجة العسكرية، بما فيها عناصر المخابرات البرية.
- تجهيزات ومعدات القوات البرية التقليدية: يركز مشروع القانون على تحديث الجيش الفرنسي، لا سيما فيما يتعلق بالردع النووي، وتحسين ظروف العسكريين، حيث سيتم تخصيص 10 مليارات يورو لذلك، وكذلك تحديث المعدات، وزيادة الاستثمارات في الحماية السيبرانية والفضاء والبحرية. ولكن في المقابل سيتم تقليص المعدات الثقيلة من الدبابات وناقلات الجنود القتالية. فعلى سبيل المثال، سيحصل الجيش الفرنسي بحلول عام 2030، على 2.3 ألف مركبة مصفحة من طراز سكربيون أي أقل بـ30 % مما كان مخططاً له سابقاً. وسيستلم سلاح الجو 137 مقاتلة من طراز رافال بدلاً من 185 و35 طائرة نقل من طراز A400M بدلاً من 50، وستستلم البحرية الفرنسية 3 فرقاطات بدلاً من 5 فقط.
- جنود الاحتياط: يؤكد السياق الحالي أهمية نموذج الجيش الاحترافي الذي تم ترسيخه منذ منتصف التسعينات. ولكن في ضوء التهديدات الحالية، يرى قانون البرمجة الجديد أنه لا بد من تعزيز الاحتياطي التشغيلي للجيش الفرنسي والذي يُعتبر الأسمنت الذي يربط بين الأمة والجيش، وذلك بزيادة عدده. الهدف هو تحقيق نسبة جندي احتياطي عملياتي واحد لكل جنديين بحلول عام 2035. وتدريبهم على القيام بإنجاز نفس المهام التي ينجزها نظراؤهم العاملون، مما سيجعل منهم لاعبين مهمين في قضايا الدفاع والأمن.
وبناء على ذلك، سيرتفع عدد جنود الاحتياط من قرابة 40 ألفاً إلى نحو 80 ألفاً، وتخطط القوات البحرية والجوية والبرية والاستخبارات لتجنيد الجنود السابقين والمدنيين، مع البحث بشكل خاص عن المزيد من علماء الحاسوب واللغويين والفنيين ذوي المهارات النادرة. كما سيتضاعف عدد جنود الاحتياط في أقاليم ما وراء البحار إلى أكثر من 4200 بحلول عام 2030.
- التطور التكنولوجي المتصل بالقوات البرية: يرى قانون البرمجة العسكرية الجديد أن القفزات التكنولوجية الحالية أصبحت سريعة على نحو متزايد، إلى حد تهديد استقلال الدول، لذلك يتعين على فرنسا أن تعمل على تجديد قدراتها التشغيلية وتصنيع أدوات التحقق الرقمي الخاصة بها دون الحاجة إلى الاعتماد حتى على حلفائها. وفي هذا السياق يسعى قانون البرمجة العسكرية لتحقيق قفزات تكنولوجية في المجال الدفاع. ما سينعكس ذلك بالإيجاب على مشروع BattleLab Terre الذي تم إنشاؤه عام 2018 والذي يهدف إلى تعزيز روابطه بين مختلف الجهات الفاعلة في مجال الابتكار التكنولوجي: الوزارات، والمصنعين، والشركات الناشئة، ومراكز البحوث، والمدارس الكبرى، والجامعات، وما إلى ذلك لمواجهة التحديات التكنولوجية وتوقع التحديات المستقبلية.
ومن أهم الجوانب التي سيدعمها قانون البرمجة الجديد، من خلال ميزانية مخصصة تبلغ 10 مليارات يورو لدعم الابتكار، مجال إحلال الروبوتات محل البشر في مهام برية معينة. والهدف ليس استبدال البشر، بل إعفاؤهم من بعض المهام المتكررة أو الخطيرة أو التي تكون الروبوتات أكثر كفاءة في أدائها. حيث يعتبر قانون البرمجة الجديد أن هذا النهج يعد أساسياً لإيجاد أفضل تآزر بين البشر في القوات البرية والأنظمة الآلية.
سيسمح قانون البرمجة الجديد لمشروع VULCAIN بتحقيق هدفه الرئيسي وهو ضمان وصول الجيش الفرنسي إلى الأنظمة الآلية التي اختارها للحفاظ على تفوقه التشغيلي في ساحة المعركة والتحكم فيها. شعار البرنامج هو: يمكننا أتمتة كل شيء، ولكن ما الذي نحتاجه حقاً؟ يجيب قانون البرمجة الجديد بأن فرنسا تتمتع بقدرة دفاعية شاملة للغاية. لذا، يتعين عليها أن ترى ما إذا كانت مساهمات الروبوتات ستثير الشكوك حول بعض أنظمتها الحالية أم ستكملها، بمعنى آخر، هل تعتبر الروبوتات ثورة أم مجرد تطور؟
- الخدمات المقدمة للقوات البرية: وفي مواجهة عودة الحرب إلى أوروبا، يؤكد قانون البرمجة العسكرية الجديد أنه يتعين على فرنسا أن تتبنى سياسة دفاعية تتجاوز القوات المسلحة، وذلك بإشراك المجتمع المدني في حماية فرنسا وذلك من خلال محاور:
- زيادة الاحتياطي التشغيلي.
- تحسين الظروف المعيشية للجنود وذويهم.
- تحديث الخدمة الصحية للعاملين في الجيش وذويهم. مما يسهم في تعزيز الترابط بين الأمة الفرنسية وجيشها.
على مستوى تحسين الظروف المعيشية للجنود وذويهم: يستهدف قانون البرمجة الجديد بناء مساكن جديدة لهم، ودعم الوالدين، والتعويض بشكل أفضل عن حالات الغياب، ودعم حركة الجنود وتحسين الحياة اليومية للعائلات. ولتحقيق تلك الأهداف تم تخصيص ما لا يقل عن 750 مليون يورو. ويأتي كل ذلك لتحقيق أحد أهم أهداف قانون البرمجة الجديد وهو ترسيخ الصورة الأخلاقية للجيش الفرنسي.
- التفوق التشغيلي للقوات البرية الفرنسية: سيساهم قانون البرمجة العسكرية الجديد في الحفاظ على قوات برية فرنسية متمرّسة في القتال وقادرة على المشاركة في جميع الصراعات وحتى المواجهة الكبرى وذلك من خلال الاستراتيجيات التالية:
- جنود قوات برية جاهزون لمواجهة التحديات المستقبلية وذلك من خلال المبادرات والأليات التالية:
- مشروع ATHOS وهو خطة شاملة لتحسين رعاية الجنود المصابين.
- جيش يستثمر في الشباب.
- إنشاء مدرسة فنية جديدة.
- تجديد قوات الاحتياط.
- ترسيخ مجتمع الجيش. وذلك بهدف تحقيق هدف قانون البرمجة الجديد في ترسيخ الصورة الأخلاقية للجيش الفرنسي.
- قوات برية مستعدة لحرب مستقبلية عالية الكثافة من خلال مشروع Titan، وذلك بتصميم شبكة معلومات عالية السعة لدخول الخدمة بعد عام 2040. وينظر إلى Titan على أنه يغير قواعد اللعبة، استناداً إلى مفهوم «استراتيجية التزامن»، وهو المصطلح الذي استخدمه العقيد في الجيش Arnaud Goujon في مؤتمر الحادي والثلاثين من مايو حول الأسلحة البرية الذي نظمته مؤسسة البحث الاستراتيجي الفرنسية.
ويسعى المشروع إلى توسيع نطاق «السحابة القتالية» للقوات البرية، وهو البرنامج الذي سيحل محل برنامج سكوربيون والذي بلغت تكلفته 10 مليارات يورو لتحديث مركبات مدرعة متوسطة الحجم، ولا سيما حاملة القوات متعددة المهام «Griffon»، ومركبة Jaguar القتالية والاستطلاعية، ومركبة «Serval» الخفيفة متعددة المهام، وهكذا إنشاء شبكة قيادة وتحكم تعتمد على نظام إدارة المعركة Atos SICS، وتقنية الراديو المحددة ببرمجيات Thales Contact.
كما يضمن برنامج Titan قتالاً برياً-جوياً مستقبلياً وتعاوناً معلوماتياً في المستقبل، يسمح بتوصيل المعلومات في الوقت الحقيقي بين جميع الوحدات بهدف تحسين فهم مسرح العمليات لضمان التفوق التشغيلي.
- شمولية التدريب، وذلك بإدماج أكبر عدد ممكن في التدريب والاعداد وإعادة التأهيل وصقل المهارات في تدريبات عسكرية مثل تدريب ORION 2023.
- أداء أكثر عملية للقوات البرية وذلك من خلال:
- تبسيط النظام وتشجيع الناس على تحمل المزيد من المسؤولية.
- التآزر مع أنظمة الدعم المشتركة.
- قوة التكنولوجيا الرقمية.
- الاستجابة التشغيلية السريعة والمتقنة.
الخاتمة
من أهم الانتقادات التي وجهها الباحثون لقانون البرمجة الجديد، أن فرنسا بذلك لن تسلك طريق بولندا ولا حتى ألمانيا التي خططت لتضخيم أعداد جيشها وشراء عشرات الدبابات والطائرات المقاتلة، بل سيبقى الجيش الفرنسي حتى عام 2030 تقريباً بالحجم الذي هو عليه اليوم. ويقول البعض الآخر إن قانون البرمجة العسكرية الجديد هو مفارقة في حد ذاته، حيث إنه يسمح من جانب بميزانية تاريخية، ولكن بمعدات وقوة بشرية أقل من جانب آخر. أي أن القانون سينتج في نهاية الأمر جيشاً أكثر حداثة، ولكن بقوة بشرية ومعدات محدودة.
وهناك من يقول إن القانون يجعل الجيش الفرنسي يقوم تقريباً بكل شيء، ولكن ليس بما يكفي ليكون مستقلاً، ومن ثم لن يتمكن غداً، كما الحال اليوم، من شن حرب واسعة النطاق وشرسة من دون حلفائه. في المقابل، يرى البعض الآخر أنه لم يكن لفرنسا أن تفعل أفضل من ذلك في ظل السياق الجيواستراتيجي والاقتصادي الحالي لفرنسا وأوروبا، فلا يجب أن ننسى أن البطل الحقيقي هو السياق.
» الأستاذ الدكتور وائل صالح (خبير بمركز تريندز للبحوث والاستشارات)