mi-17
المدير وزيــر الدفــاع
الـبلد : المزاج : الحمد لله التسجيل : 23/02/2013 عدد المساهمات : 43829 معدل النشاط : 58579 التقييم : 2418 الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
| موضوع: مذكرات مضر بدران الإثنين 17 أغسطس 2020 - 23:37 | | | بدأت صحيفة الشرق الأوسط، بنشر حلقات من مذكرات رئيس الوزراء الأردني الأسبق مضر بدران، قبل نشرها في كتاب بعنوان «القرار»، سيحتفل بصدوره اليوم الاثنين في منتدى عبد الحميد شومان الثقافي في عمان. وتزخر مذكرات بدران بالأحداث والمواقف التي يكشف عنها لأول مرة، وتوثق لمراحل مهمة مر بها الأردن خلال النصف الأخير من القرن الماضي. وسبق لمضر بدران أن أسس وترأس جهاز المخابرات العامة الأردني في نهاية ستينات القرن الماضي، ورئاسة الديوان الملكي على فترات، وكان قريباً من الملك حسين ومطلعاً على جوانب مهمة من صياغة القرار الأردني. وفي هذه الحلقة الأولى يروي بدران تفاصيل عن الجهود التي بذلها الأردن لمنع العمل العسكري العراقي ضد الكويت ويقول إن المساعي الأردنية كانت تهدف إلى إيجاد حل عربي – عربي لتأمين انسحاب العراق من الكويت. كما يتطرق إلى تفاصيل عن اتصالات الملك حسين مع الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في الفترة التي سبقت حرب تحرير الكويت.
في 2 مايو (أيار) 1990 انعقدت القمة العربية في بغداد، وفي اجتماع مغلق مع القادة، خاطب صدام كلاً من الإمارات والكويت… كان الاجتماع متوتراً، وكانت قمة تتحدث صراحة عن الخلافات العراقية الكويتية.
وتحدث إلى العراقيين في إحدى الزيارات الرسمية لبغداد، بأن الكويتيين حفروا على حدودهم مع العراق، وسحبوا نفطاً خاماً من حوض مشترك مع العراقيين على الحدود (حقل الرميلة)، وذلك خلال انشغال العراق بحربها مع إيران. أثار ذلك استغرابي، وقدرت أنه سيسبب أزمة كبيرة بين البلدين.
كنا قريبين من العراقيين، تعبنا ونحن نحاول إقناعهم بأهمية ألا تصل الأمور بينهم وبين الكويتيين للعمل العسكري، ورغم أننا اتهمنا بأننا كنا نعرف عن احتلال العراق للكويت، لكنْ قطعاً لم نكن نعلم بذلك.
صحيح أن المؤشرات كانت واضحة لنا، وفكرنا بصوتٍ عالٍ في الأمر مع الراحل الحسين، وحاولنا أن نحذر صدام حسين من أي تهور على هذه الجبهة، لكن لم يكن لدينا أي علم بنية صدام اجتياح الكويت، أو بموعد ذلك الحدث الذي غير ملامح منطقتنا. وذهب فينا الظن إلى أن ما يقوم به صدام مجرد مناورات سياسية، عطفاً على مطالبة عبد الكريم قاسم سابقاً، بأن الكويت أرض عراقية، وهدد باسترجاعها، وقامت جامعة الدول العربية في حينها بإرسال قوات عسكرية للكويت.
كنت أعي أن صدام حسين الذي عرفته جيداً لديه نقاط حساسة لا يساوم عليها، فقد درست شخصية صدام، وأمعنت النظر طويلاً في تحليلها، وبقيت في الأشهر الثلاثة الأولى لمعرفتي به، أجلس في الاجتماعات صامتاً، فقط أريد أن أحلل شخصيته، فهو رجل يتعامل بانفعال شديد، إذا ما تعلق الأمر بالكرامة أو النخوة أو الشهامة. خلال زيارتنا الأخيرة لبغداد، وقبل احتلال الكويت، كان صدام قد أرسل رئيس وزرائه سعدون حمادي للكويت، حيث انتظر الأخير ليومين لمقابلة أمير الكويت، وهذا ما زاد (الطين بلة). بقيت الأمور تتطور، وحاولنا رأب الصدع بين الأشقاء، لكن محاولاتنا جاءت بعد أن ساءت الأمور كثيراً.
وقبل احتلال الكويت بأيام، كانت العواصم العربية تعج بالزيارات الثنائية والاجتماعات، وأذكر جيداً أنه في 29 و30 يوليو (تموز) 1990 وقبل احتلال العراق للكويت عقد اجتماعان منفصلان، الأول في السعودية بين ولي العهد الكويتي سعد العبد الله الصباح، ونائب الرئيس العراقي عزت إبراهيم الدوري، وكانت تعليمات صدام للدوري واضحة: «في حال وافقت الكويت على المطالب العراقية (خير وزين)، وإنْ لم توافق ارجعْ فوراً».
أما الاجتماع الثاني، فكان بين الملك الحسين والرئيس العراقي صدام حسين في بغداد، وتأخرت يومها عن اللحاق بالاجتماع بسبب قدوم رئيس الوزراء المصري عاطف صدقي لعمان في زيارة رسمية. غادر صدقي للقاهرة، وغادرت أنا إلى بغداد حيث وصلت الساعة العاشرة ليلاً، وكان العشاء الرسمي قد انتهى، وجلست مع الراحل الحسين، الذي أبلغني عن توتر الوضع بين صدام والكويت.
طلبت أن أقابل صدام لأحذره من التهور والاستعجال، وبالفعل وقبل مغادرتنا – جلالة الملك وأنا – بغداد باتجاه الكويت حيث كانت وجهتنا مقررة سلفاً، قابلته وحاولت إقناع صدام بذلك.
لاحقاً، وبينما نحن في السيارة مغادرين إلى المطار، قلت لطه ياسين رمضان الذي كان النائب الأول لرئيس الوزراء العراقي آنذاك، إنني لم أر صدام غاضباً لهذه الدرجة من قبل، وأضفت أن عليهم إقناعه بعدم التهور، فهذا سيضر بمصالحنا جميعاً.
في زيارة لاحقة خلال أيام احتلال الكويت، قال لي صدام حسين على ضوء حواري السابق مع رمضان: «بدك أبو نادية (طـه ياسين رمضان) يهدي علي، أنا من يهدي عليه خلال اجتماعات مجلس قيادة الثورة». لقد كان طارق عزيز هو الوحيد في القيادة العراقية الذي اتخذ موقفاً ضد حرب صدام على الكويت.
بعد ذلك وصلنا إلى الكويت، حيث بقينا في المطار والتقى الحسين بالشيخ جابر الأحمد الصباح، وبدا لي أن الأمور تتجه إلى مزيد من التوتر، وأن هناك نية لدى صدام لدخول الكويت التي كانت متمسكة برأيها، وكان العراقيون متشددين بموقفهم. أنا لم أحضر اجتماع الراحل الحسين بأمير الكويت، لكن بقيت ووزير الخارجية الكويتي وقتها، الشيخ صباح الأحمد الصباح، واقفين بانتظار انتهاء اجتماع الملك والأمير.
هناك سألت الصباح، عن صحة ما يقوله العراقيون، عن الحوض النفطي المشترك بين البلدين، وسحْب الكويت النفط الموجود فيه، وأجابني بقوله إن هذا صحيح، وإنهم على استعداد للتفاهم على هذا الأمر، وإنهم أنتجوا من البئر 1700 برميل يومياً، وإن صدام يقول إن إنتاجهم تجاوز 2000 برميل نفط وأكثر. وعندها تأكدت أن صدام لن يتركها هكذا، لأن الموقف كله حدث وصدام مشتبك عسكرياً على الجبهة الإيرانية.
بعد عودتنا من الكويت طلبت مجلس النواب للاجتماع في جلسة سرية، وقلت في تلك الجلسة، إنني لن أتفاجأ إذا قام العراق باحتلال الكويت. كانت تلك الجلسة مساء يوم الأربعاء، وفي صباح اليوم التالي، الخميس 2 أغسطس (آب) 1990 دخل صدام الكويت، واستولى عليها كاملة في غضون أربعة أيام.
بعد أن احتل العراق الكويت واصلنا العمل للضغط على صدام للانسحاب، ولم نهدأ، ونحن نحاول الضغط عليه، تجنباً لأي عمل عسكري ضده تقوده أميركا وحلفاؤها.
وفي أحد الاجتماعات استطعت أن أحرج صدام حسين، وأضغط عليه بفكرة الانسحاب، قلت له: «أنت لم تكن تنوي أن تجتاح الكويت». لم يعجبه كلامي، لكنه اعترف بصحته، وقال إن قائد الكتيبة الذي ذهب إلى الحدود العراقية الكويتية، أبلغه أنه لا وجود لقوات كويتية على الحدود، وإنه سأل صدام: «هل أكمل الطريق نحو العاصمة؟»، فأجابه: «نعم»، وهذا ما جرى. استغربت أن من جملة الأسباب التي أدت إلى تلك الكارثة، اجتهاد قائد كتيبة عراقي، بطريقة غير صحيحة، عندما عاد إلى صدام لأخْذ رأيه، والأصل ألا يعود له ويكتفي بتنفيذ الأوامر الموجودة عنده.
وساطة أردنية لحل الأزمة
استمرت مساعي الحسين للضغط على صدام للانسحاب من الكويت، فقد أعلن الراحل الحسين أنه أخذ وعداً من الرئيس المصري حسني مبارك والملك فهد بن عبد العزيز، بقبول وساطته للضغط على صدام للانسحاب من الكويت، مقابل عقد قمة مصغرة في جدة. حيث طار الملك الحسين إلى بغداد في اليوم التالي لإتمام الاتفاق، وكان الاتفاق على عقد اجتماع قمة مصغر، إذا ما أخذت القيادة العراقية قراراً بالانسحاب السريع المحدد من الكويت.
القضية عند هذا الحد كانت في طريقها إلى الحل الكامل. والراحل الحسين أخذ موافقة العراقيين على الاجتماع في جدة، وطلب صدام حسين الرجوع لقيادة الحزب، لأخذ قرار الانسحاب من الكويت، وكان ذلك في تمام الساعة الرابعة عصراً، وقال صدام إن عزت إبراهيم سيتصل للإبلاغ بخبر الانسحاب.
فهمنا أن العراقيين مرنون بالتفاوض على مبدأ الانسحاب. ووصلنا مطار ماركا في الساعة 5:15 مساء.
وقد أدلى الراحل الحسين بتصريحات لشبكة CNN، وبعد أن صدرت التصريحات عادت مصر والسعودية عن موافقتهما لحضور القمة المصغرة والقمة الموسعة، وقال صدام للحسين: «إذا صدر قرار مجلس الجامعة بإدانة العراق، ترى يا أبو عبد الله كل واحد بأرضه».
وكان الاتفاق مع حسني مبارك على تأجيل اجتماع مجلس الجامعة، لتنجح الوساطة، إلا أنه في تمام الساعة 11 ليلاً، صدر قرار مجلس الجامعة العربية، وقد كنا أبلغنا وزير خارجيتنا مروان القاسم، أن على اجتماع الجامعة أنْ يستمع لخبر مهم عند الساعة العاشرة ليلاً، يتضمن موافقة مجلس قيادة الثورة العراقية على الانسحاب من الكويت، وحضور القمة المصغرة في جدة. بعد صدور قرار مجلس الجامعة، عرفنا أن الأمور أكبر من تحركاتنا الدبلوماسية، عندها أرسل سفيرنا في القاهرة مشروع قرار مجلس جامعة الدول العربية، الذي سيبحث في قمة القاهرة، يوم 5 أغسطس.
انعقدت قمة القاهرة وكانت مليئة بالمفارقات لأن المصريين قبل القمة كانوا قد أعلنوا موقفهم بإرسال قواتهم إلى حفر الباطن، وبالتالي موقفهم كان محسوماً في الأزمة، ولم يعد هناك أي مبرر للقمة. لم تأخذ القمة القرارات بالإجماع العربي، بل كان قرارها قرار مجموعة عربية.
كان وزير الخارجية مروان القاسم يحضر اجتماعات وزراء الخارجية العرب قبل القمة، وبعث للراحل الحسين بأن موقف القمة يذهب باتجاه «شجب وإدانة» اجتياح العراق للكويت، بشكل يحاكي قرار مجلس الأمن.
كنا في قصر الندوة صباحاً، أنا وزيد بن شاكر وعدنان أبو عودة، ولدى سماع الملك الحسين بالقرار غضب كثيراً، وقال: «الله أكبر، شو تركوا للوساطة»، وقال لنا أنْ نبلغ القاسم أن قرار الأردن التحفظ على القرار العربي.
بالنسبة للأردن، كنا لا نزال فاعلين على خط الوساطة مع صدام، لدفعِه للخروج من الكويت… وكان موقفنا في قمة القاهرة هو مع تشكيل لجنة عربية مصغرة، تقدم تقريرها خلال مدة محدودة، وأردنا من القرار أن نستفيد من الوقت، لصالح جهود الوساطة، كما أردنا من التقرير أن يسند الموقف العراقي، ويبين جوهر الخلاف بين العراق والكويت.
لم تتوقف مساعي الأردن لإيجاد حل عربي عربي لتأمين انسحاب العراق من الكويت، ولذلك قدمنا اقتراحاً بأن ننشر نصف جيشنا العربي على الحدود السعودية العراقية، وأن يكون جيشنا تحت تصرف السعوديين بالإضافة إلى الجيشين المصري والجزائري، فقد كنا على يقين بأن صدام حسين لن يضرب جيشاً عربياً، لكنه سيدمر أي جيش أجنبي، وسيشتبك معه.
لكن مقترحاتنا لم تتوافق مع التصورات الخليجية حول ما يجري، وهذا ما عقد من نجاح مبادرتنا للحل العربي العربي، إذْ بات جلياً أن التصور الخليجي استند إلى أن الاجتياح العراقي للكويت ناتج عن تنسيق أردني عراقي يمني فلسطيني، وأن الملك الحسين يعرف بالاجتياح… وأمام كل تلك الإشاعات والمعلومات الخاطئة، أخذ الخليج موقفه من وقف المساعدات للأردن.
وقال الملك حسين في أحد اجتماعاته بمجلس الوزراء، نهاية العام 1990 إنه اكتشف مؤخراً أن هناك حملة مركزة تجاه قيادات في الخليج العربي والمملكة العربية السعودية مستمرة منذ ما لا يقل عن سنتين، سعت لأن تعطي انطباعاً لهم بأن هناك تآمراً يستهدف الخليج والسعودية، وأن هذا الانطباع يؤكد وجود أهداف مرسومة عند العراق والأردن واليمن، وهو ما فسره الراحل الحسين على أنه السبب وراء معاناتنا خلال الفترة الماضية، وكيف كانت الوعود بالمساعدات لا تنفذ.
رحم الله الحسين، كان ينظر للعراق على أنه أمل جديد، وظاهرة عربية جديدة، وكان حريصاً على الخروج من المحنة قوياً صلباً معافى… لكن الملك كان يريد فعلاً الربط بين انسحاب العراق من الكويت، وانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية والقدس، حتى مع الرفض الأميركي والبريطاني لذلك، حيث كان يجد في الأمر فرجاً لحل القضية الفلسطينية. وقد دعم الراحل الحسين صدام في المبادرة التي أعلنها في 12 أغسطس 1990 حيث وضع القضايا العربية في سلة واحدة.
مساعي منْع العمل العسكري
رغم التوتر في العلاقات مع الولايات المتحدة، كان الحسين يسعى من خلال الجهود الدبلوماسية لمنع العمل العسكري، وزرنا بالفعل واشنطن، والتقينا بالرئيس الأميركي جورج بوش، وقال بوش للحسين: «لن أسمح للعراق ولا لصدام ولا لأي أحد آخر، أن يتحكم بالنفط، لأنه مستقبل الأجيال في الولايات المتحدة والغرب، وصدام يريد الاستحواذ على 20 في المائة من احتياطي النفط في العالم، وهذا بالنسبة لنا أمن قومي، ولن نسمح لصدام بانتهاكه».
الحسين شرح في تلك الزيارة حيثيات الأزمة بين العراق والكويت، وأن فرص الحل العربي قد تؤجل الحرب في المنطقة. وأشار الحسين إلى أن حماية السعودية من أي تهديد عراقي تكون بوضع قوات عربية على الحدود العراقية السعودية. وجدد الحسين مطالبه بوقف حملات التصعيد ضد العراق، وحذر من أن العراق سيبادر برد الفعل على كل فعل أميركي.
الحركة الدبلوماسية للراحل الحسين لم تقتصر على واشنطن، ورافقناه في العديد من الجولات. قمنا بزيارات لشمال أفريقيا وأوروبا، وعدنا بانطباعات كثيرة، منها أن موقف ليبيا (مخلخل)، والتدخل العراقي بالكويت هو سبب التدخل الأجنبي في المنطقة بحسب قولهم.
بالنسبة لبريطانيا، فقد كانت تؤيد الحرب وتريد إسقاط صدام حسين، لا بل إن موقفها متشدد ومتطرف جداً من استمرار نظام صدام حسين رئيساً للعراق، بحسب ما فهمنا من البريطانيين، فهم لا يعيرون اهتماماً لِمن سيحكم الكويت بعد الحرب، المهم بالنسبة لهم إسقاط صدام، وهو ما استمعنا إليه من (مارغريت ثاتشر) والتي تمتلك عقلية ديكتاتورية كاملة، كأنها خارجة من استعمار الهند للتو.
بالنسبة للفرنسيين، فقد أبلغنا الرئيس الفرنسي «فرنسوا ميتران»، أنه متألم من موقف العراقيين، ومنزعج من صدام، لكنه لا يزال يعمل على تفعيل مبدأ الحل السلمي السياسي، وليس العسكري. أما ألمانيا، فكانت ضد استخدام القوة، وغمزوا لنا بأن ثاتشر هي من تدفع جورج بوش الأب لهذا الموقف ضد العراق.
في تلك الجولة، فشلت زيارتنا لموسكو، بسبب تضارب المواعيد، وبعدها توجهنا إلى بغداد، لوضعهم بصورة كل التطورات. قابلت طارق عزيز، وكان كلامه لا يوحي بالتفاؤل، لكنه ليس القائد، لذلك بقيت متفائلاً قليلاً. في أحد الاجتماعات هناك، تحدث قائد عسكري رفيع، وكان اسمه خلدون سلطان، وهو فريق في الجيش العراقي، قلنا للعراقيين في تلك الزيارة، إن هناك أفكاراً يمكن دعمها إنْ أبدى العراق المزيد من المرونة، فمن الممكن الانسحاب الأميركي من المنطقة والخليج، وأن يكون ذلك متزامناً مع خروج العراق من الكويت، وهذا يدور اليوم في أروقة مجلس الأمن، كما أكدنا لهم أن بوش من قال إن الحكومة الكويتية ليست مشكلته الرئيسة، وإنما الأهم عنده هو انسحاب العراق من الكويت.
في زيارتنا للعراق التي أعقبت الجولة الدولية، كان لقاء الراحل الحسين مع الرئيس صدام صريحاً جداً، وكاشف الزعيمان بعضهما بعضاً بكل ما يجول في خاطرهما، والنتيجة التي وجدنا صدام ممسكاً بها، هي ما طرحه في اجتماع سابق في 12 أغسطس 1990، وهو الذي تضمن مبادرة العراق في ربط انسحاب العراق من الكويت بحل القضية الفلسطينية، وأنْ لا عودة عن هذا القرار، فالمرونة ستفسر على أنها تراجع، وصدام قال: «لا تراجع عن هذا الموقف، والكويت محافظة عراقية، وانتهى الأمر».
على الجهة المقابلة، كان وزير الخارجية مروان القاسم، ينفذ جولة دبلوماسية على دول الخليج، وكم كانت تلك الزيارة ثقيلة عليهم، وصعبة علينا. كانت الزيارة بهدف تجديد التوضيحات حول الموقف الأردني.
قطر لم تجب على رسالتنا، فلم نزرها. وفي عمان، كان السلطان قابوس قد أظهر بعض الإيجابية، خصوصا أنه لم يتجاوب مع كل مطالب الأميركيين. الإمارات كانت في حالة غضب، ويقولون لنا: «هيك الملك حسين يعمل فينا! واحنا اللي ساعدناه»، فقد كانوا يعتبرون أن موقف الراحل الحسين في كفة، وموقف العالم كله في الكفة الأخرى.
كان ذلك يعني بالنسبة لنا في الأردن، قطْع المساعدات العربية، وهو ما أبلغناه لمجلس النواب، وأننا بوضع اقتصادي صعب، حيث طلبنا من ليبيا دفْع المساعدات، فسألونا عما إذا كان صدام حسين أعطانا من أموال البنك المركزي الكويتي، فأبلغناهم أن أميركا قالت لنا إن صدام حسين لم يستطع فتح خزنة البنك المركزي الكويتي، وفك شيفرة الكومبيوتر الخاص بها.
قبل قصف بغداد بأيام، زرت دمشق، وقابلت الرئيس حافظ الأسد لمدة ست ساعات متصلة، وقلت له إن الحرب الدائرة ليس لنا علاقة بها، وإن العلاقة السورية العراقية تحسنت مؤخراً، وهو ما يسند الأردن ويدعمه أمام التحديات الأهم وهي القضية الفلسطينية. وأن قوة العراق لكل العرب، وليست لصدام وحده. وسألت الأسد: «كيف سيوفق السوريون بين وجود جيشهم في حفر الباطن، ووجوده في الجهة الأخرى إذا ما حدث لنا أي شيء من جهة الإسرائيليين؟!».
ليجيبني الرئيس السوري بقوله إن أي هجوم إسرائيلي على الأردن هو هجوم على سوريا، وإن جيشه سيتدخل فوراً، ولن يترك الأردن وحده في مواجهة إسرائيل.
حاولت في ذلك الاجتماع الطويل، أن أدعو الأسد لمصالحة صدام، لكن الأسد قال لي إن الحسين أغلق الباب علي وعلى صدام في الجفر لمدة 14 ساعة للتفاوض على أساس المصالحة، لكنْ فشل ذلك الاجتماع بسبب غرور صدام، وغروره هو ما سيقتله.
كان السبب الجوهري لزيارتي الطلب المباشر من حافظ الأسد بالموافقة على تأمين الأردن بالنفط في حال قطع النفط العراقي عن الأردن. وأصدر الأسد أوامره لرئيس الوزراء السوري محمود الزعبي، بتأمين احتياجات الأردن من النفط، متى ما طلبت الحكومة ذلك، وبعد خروجي من عند الأسد، قال الزعبي إن ما طلبته من صلاحياته، وما من داعٍ لتدخل الرئيس الأسد بالأمر، فقلت له: «هكذا أضمن تنفيذ طلبي». وبالفعل، في أحد الأيام، التي طلبت فيها النفط من سوريا، منع وزير المواصلات السوري خروج الصهاريج المحملة بالنفط من العاصمة السورية دمشق إلى الحدود السورية الأردنية، فاتصل معه الزعبي وأبلغه أن الرئيس الأسد هو الذي أمر بذلك، وليس أي أحد آخر.
لم تتوقف وساطاتنا لحل الأزمة تفاديا للعمل العسكري، وقبل شهرين من الحرب ذهبت لبغداد، حاملاً رسالة من الراحل الحسين إلى صدام، واجتمعت بالرئيس العراقي نحو ساعتين ونصف الساعة، كان سبب الرسالة المستجدات بحركة الممثل الشخصي لرئيس الاتحاد السوفياتي غورباتشوف، والاتصالات حول التوجه الفرنسي الداعي للحل السياسي للأزمة. وكالعادة، أعاد صدام حسين تأكيد موقفه الثابت، وأن الانسحاب من الكويت غير وارد، في تلك الزيارة، شعرت أن العراق ذاهبٌ لخيار الحرب، وقال لي فيها صدام: «فلتحدث الحرب… ولا تنازل، وإن العراق لن يبدأ الحرب، لكن إن بدأوا بالحرب فالجاهزية عالية، ويخطئ من يظن أن الحرب ستكون سريعة». يتبع........ |
|
mi-17
المدير وزيــر الدفــاع
الـبلد : المزاج : الحمد لله التسجيل : 23/02/2013 عدد المساهمات : 43829 معدل النشاط : 58579 التقييم : 2418 الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
| موضوع: رد: مذكرات مضر بدران الإثنين 17 أغسطس 2020 - 23:41 | | | في هذه الحلقة الثانية من مذكرات رئيس الوزراء الأردني السابق مضر بدران التي تنشرها «الشرق الأوسط»، يروي تفاصيل عن استعدادات الأردن لمواجهة آثار الغزو العراقي للكويت على الأردن، ومنها إشراك الإسلاميين في الحكومة التي كان يرأسها ومحاولة تفادي الأزمة الاقتصادية نتيجة انقطاع إمدادات النفط العراقي.
كما يذكر بدران تفاصيل الزيارة الخطرة التي قام بها إلى بغداد في اليوم الثاني للحرب، ولقاءه مع طه ياسين رمضان وطارق عزيز، وما فوجئ به من نقص الاستعدادات في صفوف الجيش العراقي لمواجهة الحرب.
ظلَّ صدام متمسِّكاً بموقفه، من أنَّ الجندي العراقي، سيقبل الانسحاب من الكويت فقط إذا انسحبت إسرائيل من القدس والأراضي المحتلّة. طبعاً، كانت تلك فرصة لإسرائيل لتدمير العراق بسلاح أميركا.
لكن، الخلاصة التي اقتنعتُ بها مبكراً، بعد فشل مبادرات الملك الحسين، ومبادرة الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، أنَّ أميركا كانت تبلغ سفيرنا لديها، وأبلغني سفيرهم عندنا، أنَّ المُبادرات لن تمُرّ، وأن الأميركان وجيشهم صاروا على الأرض.
في تلك الفترة بدأنا نرصد تداعيات الموقف الدولي من العراق، وإنْ كانت الحرب قريبة أم بعيدة، وأخذنا احتياطاتنا. كان هناك بعض التفاؤل، لكن قطعاً هذا لا يكفي. ولتمتين جبهتنا الداخليّة أجريتُ تعديلاً وزارياً في 1 يناير (كانون الثاني) 1991، حيث أشركتُ نواب الحركة الإسلاميّة في حكومتي، وفي تلك الأثناء كانت تُقرع طبول الحرب، وكان لا بدّ من عمل جماعي، كما أنّني منذ تشكيل الحكومة كنتُ قد التزمتُ بتوجيهات الحسين بإشراك الإسلاميين في الحكومة، وأعتقد أنَّ الظَّرف كان مناسباً لدخولهم الحكومة، فقد كانت أوامر الحسين منذ تشكيل الحكومة بإدخال الإسلاميين، حتى إنه قال لي «يا أبو عماد إذا بدهم التربية والتعليم أعطيهم إيّاها»،
عندها عرفتُ أنه يريد ذلك لأمر ما. كان موقفي متشنِّجاً تجاه اختياراتهم للحقائب الوزارية، ورفضتُ أن أعطيهم وزارة التربية، وخضتُ معهم في مفاوضات لمدة ثلاثة أيام، وكل يوم يعودون لي بأسماء، وأقول «أنا أطلب منكم حقائب، أمّا الأسماء فهذا قراري وليس قراركم».
في أوَّل اجتماع لمجلس الوزراء بعد التعديل، وضعنا الأوراق على الطاولة، كان التطوُّر الأهمّ فوز رئيس الوزراء البريطاني جون ميجر بالانتخابات، خلفاً لمارغريت ثاتشر، التي كانت متشدِّدة جدّاً في موقفها ضدّ صدام، بخلاف موقف ميجر كليّاً. كان همّنا أن نحتاط معيشيّاً لأي طارئ عسكري، ولا نريد للمواطن أن يتأثَّر بنقص أي من السلع الأساسيّة. فحضَّرنا مخزوننا من السلع الأساسيّة، وكان همّي النفط وأنَّ الحرب ستقطع عنّا النفط العراقي، استعنتُ بالباخرة في ميناء العقبة، وخزّنّا فيها النفط الذي يكفينا لمدة 18 يوماً، وهي المدة التي تكفينا حتى نجد مصدراً بديلاً عن النفط العراقي، وكذلك تعاملنا مع كل السّلع الأساسيّة التي يجب أن تكون متوفِّرة، وكنّا مستعدين لمراقبة التجّار حتى نتجاوز أقلّ المشاكل، مثل الاحتكار أو التلاعب بالأسعار.
كما كنّا نعبّئ ضدّ أي خطر قادم من إسرائيل،… لكن ما كان يطمئننا حقّاً هو وصول معلومات من مصادر موثوقة، تفيد بأنَّ حركة الجيش الإسرائيلي عاديّة، وأنّها وضعت صواريخ مضادة للطائرات على جبال الضفة الغربيّة، وهو إجراء دفاعي وليس هجوميّاً، وقلنا إنَّ أي هجوم إسرائيلي على العقبة، يستهدف مخزوننا الغذائي، سنردّ عليه بضرب إيلات، ونعلم أنّ مستودعات النفط لديهم في إيلات. وقلتُ في مجلس الوزراء إنَّ أي هجوم علينا، سنردّ عليه، وقلنا إنَّ سريّة مورتر قد تدمِّر ميناء إيلات ومستودعاتها.
وعن مطالبهم بمناقشة الخطط العسكريّة، صُدمتُ أكثر، فكيف أسمح بذلك! لأنَّ الخطط العسكريّة لا تُناقَش في مجلس النواب، ولا يتم الاستعراض بها على التلفزيونات، فنكرِّر أزمة نكسة حرب 1967، وشرحتُ لهم خطّنا الإعلامي الذي نعمل به على جبهات متوازية، وأبلغتُهُم أنّ العراق لا يستعرض بقوّاته العسكريّة على التلفزيونات، وأنكَ تذهب لبغداد لا تجد أي مظهر عسكري، فلماذا أقوم أنا بهذا الدَّوْر!
نحو الحرب
على الرّغم من كل الجهود التي بُذلت لحلّ الأزمة سلمياً، فإنّ التجهيزات العسكريّة كانت تمثل إرهاصات واضحة بأنَّ الحرب قادمة، ومع ذلك كنّا نسعى لأن يكون الخيار السلمي هو خيار ربع الساعة الأخير، ولا نريد أن نفقد الأمل. زار بوش أوروبا، وكنّا نخطط للقاءٍ يجمع الراحل الحسين مع بوش في باريس، وفعلاً اتّصل الحسين مع البيت الأبيض، لكن أُلغي اللقاء من طرف الأميركيين.
الحسين كان يريد أن يطرح على بوش فكرة اللقاء مع صدام حسين. وبعد أن فشلت مساعينا، حاولنا أن ندعو للقاءٍ موازٍ يجمع وزير الخارجيّة الأميركي جيمس بيكر مع نظيره العراقي طارق عزيز، وأنّ هذا اللقاء قد يفضي، إنْ كان إيجابيّاً، للقاء بوش بصدام.
مع تطوُّر الأحداث، شعرنا أنّ لقاء بيكر – عزيز، لن يكون أكثر من لقاء لإبراء الذمّة؛ لأنّ أميركا صارت بموقفها أكثر تطرُّفاً، وجنوحاً نحو الحرب. كان اللقاء بين بيكر وعزيز، مقدَّراً له أن يجري في 3 يناير؛ تمهيداً للقاء قد يحدث بين بوش وصدام في 12 من الشهر نفسه، وكان لدينا انطباع أكيد بأنَّ اللقاء لو جرى لتراجعَت حدّة التصريحات السياسيّة عن الحرب، فلدى الجانب العراقي استعداد للحديث عن الخيار السلمي. بالمحصّلة، اللقاءان لم ينعقدا، واستبدل بهما لقاء في 9 يناير بين عزيز وبيكر، وكلّ ما أردنا رصده هو أنّ نتائج اللقاء ستكون دلالة جيدة في استقراء مستقبل الأزمة.
بدأت الأحداث بالتسارع، وكان الراحل الحسين عائداً للتوّ من جولته إلى بريطانيا وألمانيا ولوكسمبورغ، وظلّ يؤكد – رحمه الله – موقف الأردن من الخيار السلمي، وضرورة التعامل بالاهتمام ذاته مع قضايا الشرق الأوسط، وأنَّ ذلك سيكون له قيمته في الحلّ السياسي للأزمة العراقيّة مع الكويت.
كنّا مجتمعين في مجلس النواب، وكانت الساعة تشير إلى موعد الجلسة الثانية لدي كويار (خافيير بيريز دي كويار الأمين العام للأمم المتحدة وقتها) مع صدام بعد أن انتهت الجلسة الأولى من دون أي نتائج تدعو إلى التفاؤل، وكل ما نحتاج إليه من العراقيين، أن تأخذ القيادة العراقيّة موقفاً آخر يفوِّت الفرصة على أي عمل عسكري تخطِّط له الولايات المتحدة، وتلك الفرصة كانت تعني لنا السّماح للاتحاد السوفياتي ككتلة شرقيّة، بالعودة لمناوراته المناوئة للكتلة الغربيّة.
التطوُّر الخطير، كان موافقة الكونغرس الأميركي، على إعطاء جورج بوش صلاحيّة إعلان الحرب، وهو ما أكّد حسم الخيار العسكري ضدّ العراق، وقد هدَّد بتلك الصلاحيات باستعمال القوة، وكان يوم 15 من الشهر نفسه اليوم الفاصل بين الحرب والسّلم.
كان يوم 17 يناير 1991 يوماً حزيناً ومؤلماً وطويلاً وصعباً، فقد كان موعد إعلان فشل جهود الحلّ السلمي واندلعت الحرب. على الفور اجتمع الراحل الحسين مع لجنتَي الطوارئ في مجلس الأمة ومجلس الوزراء. لم أرَ الحسين حزيناً كما رأيتُه في تلك اللحظات، وتحدَّث بحديث بالغ الأهميّة، وكان صلباً في موقفه.
لقد كشف الراحل الحسين لنا جميعاً عن جهود قام بها رئيس الديوان الملكي الشريف زيد بن شاكر، حيث زار الرياض في محاولة أخيرة للحلّ؛ على أساس الحوار العراقي – السعودي المباشر. وأطلَعَنا على الموقف، وقال إن السعوديين قالوا لأبو شاكر أن يذهب للعراق ويطالبه بالانسحاب الفوري، وإذا رفض العراقيون التصريح بذلك، أن يصرِّح هو بموقفهم.
كان اللقاء صعباً، لكنّ الحسين – رحمه الله – شحنَنا بمعنويّات عالية، وتحدّث بخُلقٍ هاشمي رفيع، عن القِيَم والمبادئ العروبيّة، وظلَّ متفائلاً أنْ تخرج الأمّة من تلك الأزمة حرّة منتصرة. كما كشف الحسين عن حراكه السياسي الأخير، والرِّسالة التي وصلته من ميخائيل غورباتشوف، وتفيد بمحاولة الأخير طلب تأجيل الضربة يوماً أو يومين للاتِّصال ببغداد للانسحاب. ولكن الضربة الجويّة سبقت محاولة روسيا الأخيرة. كما قال إن (غورباتشوف) وجَّه نداء لمساندته بمهمّة سحب العراق من الكويت، وإنَّهُ أبلغه أنَّ العراق لن ينسحب وهو تحت القصف.
في ذلك الاجتماع قدَّمنا للراحل الحسين تقديراً لمعالجتنا لأزمة الوافدين المتوقَّعة، فالتقديرات كانت تشير إلى أنَّ 200 ألف وافد سيتوجّهون لتركيا، و200 ألف إلى إيران، و100 ألف لسوريا، و750 ألفاً إلى الأردن، وهو ما سيجعلنا أمام تحدٍّ خطيرٍ في مواجهة هذا العدد الضّخم.
أبلغنا الراحل الحسين ببدء الاعتراف بسقوط طائرات أميركيّة في سماء العراق، وقلتُ له إنَّ العراقيين قالوا إنهم يتوقعون أن 18 ألف طن من القنابل والصواريخ ستسقط عليهم، وتقديراتهم أنَّ ذلك سيكون بتنفيذ 2500 طلعة جويّة.
في اليوم الثاني لقصف بغداد، وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل، بدأ الهجوم العراقي على إسرائيل، قصفت بغداد تل أبيب بـثمانية صواريخ، انفجَر منها سبعة. كانت التوقُّعات تشير إلى أنَّ أي ردّ إسرائيلي سيستخدم الأجواء الأردنيّة، وعندها سيقع المحظور؛ لأنّنا لن نسمح بذلك، وتعليماتنا تؤكِّد أنَّ ضرب العقبة سيقابله ضرب لإيلات.
الخوف بالنِّسبة لنا كان استهداف مصفاة البترول، والتي تعني لنا الحياة أو الموت، فجاء الاقتراح بإطفاء وحدات التكرير، وتفريغها، لتقليل أي خطر إنْ وقع الأسوأ، واقترحنا تخزين المحروقات بمحطّات الوقود.
وبالنِّسبة لأي اختراق إسرائيلي لمجالنا الجوّي، كانت التعليمات تفيد بضرب أي محاولة، وأبلغنا الأميركيين بذلك.
إلى بغداد تحت القصف
في اليوم الثاني للحرب على العراق قمتُ بزيارة سريّة لبغداد. رتَّبتُ جيداً للزيارة على الرّغم من أنَّ الملك الحسين وزيد بن شاكر أبديا انزعاجهما من الفكرة؛ لأنّهما اعتبرا الزيارة مخاطرة أمنيّة عالية، إضافة إلى كلفة الأمر السياسيّة في حال كشفها. وعلى الرّغم من ذلك أعددتُ جيداً للزيارة، حيث جهّزتُ مركبتين للمغادرة، وزوّدتهما بالوقود اللازم، كما حضّرت وقوداً إضافياً، حيث عبّأتُ جالونات بنزين ووضعتُها في صناديق المركبتين.
ذهبنا ونحن لا نعلم شيئاً عن الطريق، ولا نعلم بطبيعة ظروفها، ولا نعلم عن المدّة الزمنيّة التي ستستغرقها الرحلة. انطلقتُ صوب العراق ولم أخبر أحداً من أسرتي.
بدأنا السير على الطريق، وبالكاد ترى أحداً عليه، والمشكلة تكمن بسهولة استهداف المركبتين، لأنَّهُما تسيران بسرعة عالية ويمكن رصدهما، كان الهدف من الخروج بمركبتين هو إن تعطّلت إحداهما، تبقى الأخرى تعمل. وسرنا على الطريق الدولية بالسيارات المصفّحة، على سرعة 200 كم بالساعة، وكانت مجازفة خطيرة؛ لأنّ أي مشكلة على الطريق، قد يصعب تفاديها بوزن السيارة المصفّحة وهي على سرعتها؛ لأنّها تحتاج إلى مسافة طويلة لكي تتوقَّف. لم تغفُ عيناي لحظة على الطريق، فكان هدفي حفظ الطريق بشكل جيّد، حتى أضمن العودة متجنِّباً كلّ الأخطار.
كانت مغامرة خطيرة، فقد كنّا نرى الطائرات الحربيّة من بعيد، تتّجه نحو سماء بغداد تقصف وتعود لقواعدها، وكان كلّ همّي أن أعبّئ السائقين بالمعنويّات المرتفعة، وألا يخافا من أي خطر حولنا. كنّا نمرّ على دوريّات الجيش العراقي، وكانوا يطلبون منّا الخبز، وكنتُ أستغرب من الأمر، فكيف لم يحسب الجيش العراقي حساب جنوده بالطعام اللازم خلال ما يتعرَّضون له من حرب؟
تابعنا المسير بسرعة عالية إلى أن وصلنا بغداد، وتوقفنا عند سفارتنا، وإذ بها مغلقة، سألت عن الموظفين في السفارة، فأبلغني الحارس أنّهم خرجوا للغداء، واتَّصل بهم ليعودوا. سألتهم: «كيف تغلقون السفارة؟»، فأجابوا بأنَّهُم لم يتبلغوا بزيارتي لبغداد، كما أنّهم إنْ لم يخرجوا للغداء في تلك الساعة، فستغلق المطاعم والمحال، ويمكثون في عملهم من دون طعام، وأبلغوني أن لا طعام لديهم سوى البرغل، فالخبز والطحين مقطوعان في بغداد.
طلبتُ منهم الاتصال بطارق عزيز وطـه ياسين رمضان، ويبلغوهما أنّي موجود في بغداد وأريد لقاءهما.
تركتُ المركبتين، وجاءني (بك أب) عراقي، نقلني لمقرّ رمضان وعزيز، واستغربتُ من كل هذه الإجراءات الضعيفة لمواجهة حرب دوليّة لا يعرف العراقيّون أمدها، فقد كان طارق عزيز مقطوعاً من الوقود، وسألته «إذن، كيف سأعود لعمّان بهذه الحالة، فالمركبتان انتهى مخزونهما من الوقود!».
واستغربتُ كيف لهم أن يدخلوا حربهم تلك، من دون أي احتياط غذائي، أو في المحروقات أو الكهرباء، وقلتُ إننا في الأردن ولسنا هدفاً في الحرب، أنهينا الاستعدادات كلّها قبل أن تبدأ الحرب. نصحتُ بتأمين كل الاحتياطات اللوجيستيّة، ونصحتُ برسم خطة شاملة لتأمين بغداد، بكلّ مستلزماتها من الغذاء والدواء والمحروقات. وفعلاً فقد كسرتُ الحصار على بغداد بطُرُق عدة، وضمنتُ أن يستمرَّ تمويني لهم بكلّ متطلَّبات الحياة الأساسيّة، من غذاء ودواء، حتى إنّي كرَّرتُ لهم مرّات كثيرة نفطاً خاماً في مصفاة البترول عندنا، وأعدتُ إرساله لهم.
التقيتُ طـه ياسين رمضان لمدَّة أربع ساعات، وبحثتُ معه كلّ الأمور المشتركة، وأبلغني أنّ أمورهم جيِّدة، وما حصل أقلّ من توقُّعاتهم. أمورهم العسكريّة كانت منظّمة جدّاً، وانتقدتُ أمورهم التنظيميّة الإداريّة، فالمحال كانت مغلقة، ولم أجد سيارة شرطة في الشارع، لا ماء ولا كهرباء، ولا أفران، ولا محطة وقود، سوى محطة واحدة تعمل بطريقة يدويّة لأنَّ الكهرباء مقطوعة عن بغداد، لكن وعلى الرّغم من ذلك، كانت الناس عاديّة والانضباطيّة تامة، فعند حدوث القصف، تذهب الناس للملاجئ، ويبقى الجيش الشَّعبي للحراسات المدنيّة.
قيل لي إنَّ جزءاً من سكان بغداد غادروا باتِّجاه الشمال وإلى الحدود الإيرانيّة، وأبلغني رمضان أنّ الضّربات العسكريّة من قوى التحالف، لم تصب 80 في المائة من الأهداف، وأكّد لي قدرة العراق على إثبات سقوط عدد من طائرات التحالف، وأنَّ طيّاري تلك الطائرات، إمّا أحياء، أو في الأكفان.
خلال وجودي في بغداد وقعت غارتان، والمقاومات الأرضيّة مَنَعَت الطيران من الاقتراب، والعراقيّون كانوا يجرّون قوى التحالف لمعركة أرضيّة، وقيل لي إنَّ ضرب إسرائيل لم يكن مخطّطاً له في تلك اللحظة، ولكن بسبب كذب أميركا بإعلانها تدمير منصّات الصواريخ العراقيّة، فعل العراق ما فعل. وقال لي رمضان إنَّ أرقام المنصّات مأخوذة من الاتحاد السوفياتي، وإنَّ العراق بنى غيرها؛ لأنّهُ توقّع سرقة الأرقام من الروس، وتسريبها للولايات المتحدة. يتبع........ |
|
mi-17
المدير وزيــر الدفــاع
الـبلد : المزاج : الحمد لله التسجيل : 23/02/2013 عدد المساهمات : 43829 معدل النشاط : 58579 التقييم : 2418 الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
| موضوع: رد: مذكرات مضر بدران الإثنين 17 أغسطس 2020 - 23:45 | | | في هذه الحلقة الثالثة من مذكرات رئيس الوزراء الأردني الأسبق مضر بدران، التي تنشرها «الشرق الأوسط»، يتحدث عن الضغوط الأميركية على الأردن لإقناعه بالانضمام إلى التحالف الدولي في مواجهة غزو صدام حسين للكويت، وما واجهه الأردن من أزمة اقتصادية نتيجة موقفه آنذاك إلى جانب صدام، الذي يؤكد بدران أنه كان موقفاً إلى جانب «الحل العربي».
ويروي بدران في كتابه باسم «القرار»، تفاصيل زيارة سرية قام بها طارق عزيز إلى عمان، أبلغ خلالها المسؤولين الأردنيين أنه لم يبق شيء في العراق لم يتعرض للقصف من القصر الجمهوري إلى مصافي النفط والمصانع والجسور. كما يتحدث عن الحيرة التي واجهها الملك حسين في تلك الفترة، إذ إنه كان محاصراً من القوى السياسية والشعبية والنيابية التي كانت تضغط باتجاه دعم العراق في الحرب.
كنّا نعيش فعلاً أجواء خلية أزمة وطنية، والجهود تضافرت من كل المؤسسات، والراحل الحسين بقي ممسكاً بدفّة القيادة السياسية، ومؤسساته الدستورية كانت بمثابة الجهاز التنفيذي، الذي يربط بين رؤية القائد، وطموحات شعبه، ومن هناك بدأنا بالتَّعامل مع تداعيات الحرب، وما ينتظرنا خلال أيامها.
بدأ السوريون بهجوم إعلامي علينا، وقد كان ذلك متوقَّعاً، فبعض أعضاء مجلسي النواب والأعيان، كانوا ينتقدون سوريا في الإعلام، وتوقّعنا أن يكون الردّ علينا بالإعلام أيضاً، وسعى وزير الإعلام إبراهيم عز الدين، لاحتواء الأزمة مع السوريين، واستطاع نتيجة خبرته الدبلوماسية العالية، بالعودة إلينا بخبر وقْف الحملة الإعلامية السورية ضدّ الأردن، وأخذنا قراراً في مجلس الوزراء بوقف تصريحات السفراء، الذين قد لا تكون لديهم الخبرة الكافية في التصريحات السياسية خلال أحداث الحرب، وأن نؤجِّل أي تصريح، من قِبَل سفاراتنا، منعاً لمُضاعفة مشاعر العداء العربي ضدّنا.
لقد ساعدنا السوريون بتزويدنا بالنفط، وأوفى حافظ الأسد بوعده، وبدأت اللجان تعمل وتشرف على نقل صهاريج النفط من سوريا، وكان ذلك بعد أن أخذنا سلسلة إجراءات للتعامل مع انقطاع النفط.
وقرّرنا أن يكون الخطاب الإعلامي الرّسمي ملتزماً برفضنا للاعتداء بالقوّة على أي دولة عربية، وكُنّا نعترف بالنظام في الكويت، ونعترف بالمقاطعة للعراق، وكلّه بتوازن وعقلانية، وكان كلّ حرف محسوباً له ألف حساب.
أمّا السفير الأميركي روجر هاريسون، فواصل ضغطه علينا بشكل مستمرّ، حتى أبلغتُه صراحة أنَّنا لن نغيِّر موقفنا جراء أي ضغط أميركي، وأنّنا مع الحلّ السلمي ومع الحلّ العربي لأزمة العراق والكويت، وموقفنا الشَّعبي ينسجم مع موقفنا الرّسمي، وأبلغتُ مجلس الوزراء أنّ الأميركيين سيستخدمون ورقة المساعدات للضَّغط علينا في كلّ مرّة، وعندها بدأنا نهيئ أنفسنا لتقديرات تشير إلى أنَّ عُمْر الأزمة سيطول.
كان أي خطأ في التقدير يعني الكارثة على مستوانا، لأنّنا باختصار، لا نستطيع أن ننعزل عن العالم والجوار، فروحنا معلّقة بالمواد الأساسيّة التي نستوردها كلّها من الخارج.
في تلك الفترة كثَّف الملك الحسين اتِّصالاته مع دول العالم، ولم يهدأ خلال تلك الأيام، وكان دائم التَّواصل مع القيادات الرسمية المدنية والأمنية، وحافظ على لقاءاته بمجالس الطوارئ. في نهاية شهر يناير (كانون الثاني) زارنا الراحل الحسين في مجلس الوزراء، واجتمع بنا، وكالعادة، قدَّم رؤيته التي ساعدتنا كثيراً في التعامل مع المرحلة.
من جملة ما أتذكّره في ذلك اللقاء، أنَّه نبَّهني إلى أنَّ الحرب تريد هدفاً واحداً وهو بقاء إسرائيل بمثابة القوّة الوحيدة في المنطقة، وقال لنا: الكويت كانت المصيدة والفخّ الذي استُدرج إليه صدام، كما أكّد توقُّعاته بأن ضرب العراق سيستمرّ لمدّة طويلة، لإضعاف قوّته لتصل إلى حدود الصفر.
بقينا تحت الضَّغط الأميركي الدّاعي لتغيير موقفنا والانضمام إلى التَّحالف الدولي؛ حتى إنَّ القائم بالأعمال الأميركي قال لنا: «أعلنوا موقفكم ضدّ العراق... وبعدها افعلوا ما تشاءون».
وقد كان الملك الحسين في حيرة شديدة، في تلك المرحلة، فهو محاصَر من جميع الأطراف، قوى سياسية وشعبية ونيابية تضغط باتِّجاه دعم العراق في الحرب، وقوى دولية صاحبة قرار تضغط باتِّجاه أن يكون الموقف الرَّسمي الأردني ضدّ العراق، لكن كيف تقوم بذلك، وأنتَ تحت ضغط شعبي؟ كُنّا قد خرجنا للتوّ من أزمة ثقة شعبية بالنظام السياسي (هبّة نيسان)، واغتنمنا الفرصة ليعود الانسجام وتعود الثقة بين طرفي المعادلة الوطنية الأساسية.
نحو الحرب البرِّية
زارنا رئيس الوزراء العراقي سعدون حمادي، منتصف فبراير (شباط) 1991، حاول أن يزورنا برّاً فلم يستطع، فالقصف على بغداد اشتدّ، فجاء جوّاً عن طريق طهران، وجاء بعد أن حمل رسالة جوابية للرئيس الإيراني، تفيد بالقبول العراقي لإعلان نية الانسحاب من الكويت، مقابل انسحاب القوّات الأجنبية من الجزيرة العربيّة، وكان ذلك عنوان المبادرة الإيرانية، والعراقيون قبلوا بها، لكن اشترطوا عدم الإعلان عنها حتى تتَّضح الأمور والمواقف أكثر.
بعد تلك الزيارة بأيام، ولأوّل مرّة، كان يصدر عن العراق تصريحات تفيد بقبول مبدأ الانسحاب من الكويت، السوفيات وإيران والصين إلى جانب العراق، وهذا صار سبباً لنكون أكثر اطمئناناً، وهم يؤيِّدون وبشدّة مبدأ الانسحاب مقابل وقف ضرْب بغداد.
العراق حتى تلك اللحظات، بقي يناور بموقفه، ويريد مقايضة انسحابه من الكويت، مقابل تنفيذ متطلّبات الشرعية الدولية في القضية الفلسطينية.
في اللقاء، أكّد سعدون حمادي، أنّ قصف قوى التحالف يركِّز على المراكز المدنية والبنى التحتية، والهدف إضعاف العراق. لكنه أكّد أنّ المعنويات عالية في مواجهة الحدث، والجبهة متماسكة، وخسائرها أقل بكثير ممّا يعلنه العدو، وأنّ التقديرات العراقيّة تشير إلى أنّ الوضع ما يزال مُحتملاً، خصوصاً أنّ معدّل القصف انخفض كثيراً عمّا بدأ به.
في 24 فبراير، وفي تمام الساعة الخامسة صباحاً، أعلن بوش بدء الحرب البرِّية. وهذا تطوُّر جديد، وعلى الأردن أن يتعامل معه بمنتهى الجديّة. العراقيون أبلغونا أنّهم إذا تعرّضوا لأي ضرب مدمِّر، فسيضربون إسرائيل بالكيماوي، لكنّهم لن يكونوا البادئين. المعلومات أفادت بأنَّ الأميركان يتقدَّمون باتِّجاه الجهراء الكويتية، والخطة تؤكد تطويق مدينة الكويت، وعزلها عن الإمداد.
ظَهَرَ أمامنا في تلك الفترة تحدٍّ أمني داخليّ، هو تنفيذ عمليّات فردية ضدّ إسرائيل عبْر التسلُّل إلى الضفة الغربية ضمن تلك الأجواء، والخشية كانت من أن تكون مثل تلك العمليات ذريعة لإسرائيل لجرّنا لمعركة، ولذلك حاولنا ألا نُجَرّ لحرب مع أي طرف، خصوصاً وأنَّ ظهيرنا العراق مشغول بحربِه، وصرنا نعيش في حالة من الشكّ الكبير، بأنّنا معرّضون للخطر الكبير فعلاً، فنحن الآن وحدَنا، لذا يجب تلافي الاحتكاك.
الأخبار السيِّئة نقلها لنا طارق عزيز في زيارة سرِّية لعمّان، وكانت تلك الأنباء نقطة التحوُّل الكبير في الموقف العسكري ضدّ العراق، وقال لنا إنَّهُ لم يبقَ شيء في العراق لم يُضرب، القصر الجمهوري مسحوه خمس مرّات، وكذلك قصر المؤتمرات، المصافي ضُربت مرات عدة، ولم يعُد هناك أي مجال لإصلاحها، تمَّ تدمير كلّ مصنع، والجسور في الجنوب، وبقيَت ثلاثة جسور خفيفة في بغداد.
ظلّت العمليّة السياسيّة تدور، وظلّت المحرّكات تعمل، وكل ما نريده أن يتوقّف إطلاق النار، فقد بدت المعلومات متضاربة حيال الوضع داخل العراق، وحجم الخسائر، فإنَّ ما تعرّض له العراق في 40 يوماً من قصف، كان يعادل ما تعرّضت له ألمانيا في الحرب العالميّة الثانية على مدار أربع سنوات.
في 26 فبراير 1991، انسحب العراق من الكويت. عرفنا بالخبر، وصُدمنا، ليس لخبر الانسحاب العراقيّ، فهذا ما كنّا نتمنّاه من غير حرب على العراق، لكن صُدمنا لأنَّ الجبهات ما تزال صاخبة، والحرب تدور، وقد تعرَّض العراق لأكبر الخسائر، خلال عمليّة انسحابه، لأنَّ قوّات التّحالف الدولي بقيت تقصف بينما الجيش العراقي يتراجع إلى الحدود العراقية.
الصَّدمة كانت بفعل البيانات العراقية، التي ظلّت مشجِّعة حتى مساء اليوم السابق ليوم 26 فبراير، لكن كنا محبَطين سلفاً عندما طلب طارق عزيز اقتصار الدَّوْر الأردني على التحرُّك السياسي، فقد كانت آخر زيارة له لعمّان تحمل بعض مؤشّرات الهزيمة.
مساعدات إنسانية للعراق
كان قدرنا أن نعيش كل الحروب ونتائجها كالنكبة والنكسة، ثم وصلنا إلى ما وصلنا إليه بعد حرب 1991، وبلغ الإحباط مداه عند الكثيرين، سامح الله صدام حسين، ورحم الله الراحل الملك الحسين، فقد كانت دعواته ومبادراته كفيلة بألا نشهد تلك اللّحظة المؤلمة والمحزنة.
اجتمعنا في مجلس الوزراء، ورصدتُ في وجوه الزملاء، كلّ الإحباط والمأساة، فكلّنا صدمتنا النتيجة، وقلنا في تلك الجلسة، إنَّ الأردن قام بواجبه على أكمل وجه، وقدَّم ما هو أكبر من طاقته، وقد وضع النظام والقيادة نفسهما في كفّ القَدَر مختارين غير نادمين، وأكَّدنا أنّ التاريخ سيسجِّل للمملكة الأردنية الهاشمية موقفاً لم تستطع دولة كبرى، مثل الاتحاد السوفياتي أن تأخذه، وأكّدنا موقفنا، إنَّنا لم نكُن مع احتلال الكويت، وتمنَّينا لو لم يحدث ذلك.
لكن التطوُّر الأهمّ، كان تلك المخاوف، التي طرحها وزير الخارجية طاهر المصري، حول الفلسطينيين الموجودين في الكويت، والتي أشارت التقديرات إلى أنَّ عددهم نحو 200 ألف فلسطيني، لكنْ كان الراحل الحسين قد سبقنا جميعاً، واجتمع مع سفراء الدول الخمس دائمة العضويّة بمجلس الأمن، ونبَّه لمصير الفلسطينيين من حَمَلَة الوثائق، وضرورة عودتهم لمصر، والطَّلب من القاهرة الاعتراف بوثائقهم.
حاولنا رصد معاملة السعوديّين الجيدة لهؤلاء، كما أنَّ بعض الفلسطينيين في الكويت، كان موقفهم المُعلن حتى أثناء احتلال العراق للكويت، هو رفض احتلال بلد عربي لبلد عربي آخر.
شكَّلت هزيمة العراق لنا تحدياً أمنيّاً خطيراً، فالخطر كان بإبداء أي روح عدائية عند انفعال المواطنين، خصوصاً إذا ما حاول بعضهم الاحتجاج أمام السفارات ومحاولة اقتحامها. الإحباط هنا كان خطراً جداً، ولم نكُن نريد لرجال الأمن أن يصطدموا مع أي من المواطنين المحتجّين، وبالفعل فقد خرجت مظاهرة نسائية، وعند منعها من الوصول للسفارة الأميركية، تمّت المواجهة مع الأمن، الذي لا يريد منْع الاحتجاجات، لكنَّهُ لا يريد لأي مظهر من مظاهر الانفلات الأمني، أن يكون موجوداً.
وفِي جلسة علنية لمجلس النواب، قلت يومها إنَّ الحكومة لا ترى أنّ خروج العراق من الكويت هزيمة، فمبدأ الانسحاب كان وارداً منذ مطلع الأزمة، وأضفت أنَّ الحسين اتَّصل بالرئيس صدام، الذي أكد له أنه سينسحب خلال بضعة أيام، وعاد الحسين ليطلب من صدام تحديد موعد للانسحاب مقابل القمّة المصغَّرة، وأنّ مجلس قيادة الثورة اتخذ قراراً بالموافقة على بدء الانسحاب في تمام الساعة السابعة من صباح الأحد 6 أغسطس (آب) 1990، أي أنّ الانسحاب كان قراراً متَّخذاً منذ بداية العمل العسكري.
تحدَّث البعض ببلاغة ومُبالغة، أنَّنا قدَّمنا مساعدة عسكرية للعراقيين في تلك المرحلة، وأنا أؤكد أنَّ مثل هذا الأمر لم يحصل، على الرّغم من أنَّ العراقيين طلبوا مساعدتنا على تدريب ضباط عراقيين على توجيه وإطلاق صواريخ «هوك»، كانوا قد نقلوها إلى العراق من الكويت خلال احتلالها، ونظراً لطول المدّة اللازمة لتدريب ضباط على التَّعامل مع هذه الصواريخ، فقد طلب العراقيّون منّا إرسال ضباط أردنيين إليهم، ولم تتمّ تلبية الطَّلب، لكنَّ الجيش العراقي تعاقد مع ضبّاط أردنيين متقاعدين بشكل شخصي ومباشر.
إدارة الأزمة
كان موقفنا واضحاً في حينه، فنحن كنّا مع الحلّ العربي للأزمة، ولم نرِد أي تدخُّل أجنبي لحلّ القضية، وقد التزمنا بعدم الدُّخول بالتَّحالف الدولي ضد العراق لهذا السبب، وموقفنا حتى اللحظة، يجب أن يوضَّح، لأنَّ الكثير من الأشقاء والأصدقاء ظلمونا على هذا الصعيد، كل ما قمنا به هو تشكيل خليّة تفكير في الأزمة بأبعادها، وكان الراحل الحسين يطلعنا أولاً بأول على تحليلاته لآفاق الأزمة، ونتشارك في تقدير الموقف، وبناء عليه نقترح كيفيّة التصرُّف.
في تلك المرحلة، بعد الاحتلال بأيام قليلة، أنهينا صيغة الرِّسالة الموجَّهة لمجلس الأمن الدولي، وأبلغنا الأميركيين أنَّنا سنستمرّ بتصدير الأرزّ والقمح والسكَّر والزيوت واللحوم للعراق، وهي مواد غذائية أساسية، كما سنستمرّ باستيراد النفط من العراق، علماً بأنّ حصاراً قد فُرض ضدّ أي تصدير أو استيراد من العراق.
صحيح أنَّ تقديراتنا كانت متشائمة لتطوُّر الأزمة، لأنَّنا كُنّا موقنين برفض المجتمع الدولي للحل السياسي، وأنَّ المطلوب هو الحل العسكري، لكن ما كان يطمئننا قليلاً هو أنَّ إيران نأت بنفسها عن الأزمة، بل إنَّ علاقتها مع العراق بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية شهدت تحسُّناً، فلو اقتربت المصالح الإيرانية الأميركية، لكانت الكارثة أكبر من قدرة المنطقة على الاحتمال.
مع امتداد الأزمة تحمَّلنا أعباء اقتصادية وأمنية هائلة، فقد كانت هناك مخاوف كبيرة، وبدأ الهجوم على المواد الغذائية، لأنَّ هناك مخاوف عند المواطنين من التعرُّض للعدوان. من النّاحية التموينية، كنّا على اطِّلاع في مجلس الوزراء، أوّلاً بأوّل، على مخزوننا من المواد الغذائية، وكنا ندرك أن مخزوننا يكفينا لستة أشهر، باستثناء السُكَّر لشهرين ونصف الشهر فقط.
أمّا عن الوضع المالي، فقد كان مرعباً حقاً، ففي أوّل الأزمة، تمّ سحب ودائع دينار وعملة أجنبية، حيث تمّ في خلال ساعتين سحب 8 ملايين دينار، والدولار صار شبه مفقود كنقد، وبلغ سعر صرفه 74 قرشاً، وزاد من تعقيد الظَّرف أنَّ علاقاتنا المالية مع العراق توقَّفَت بفعل الحرب، وأموالنا في البنوك الخليجيّة مجمَّدة لأنَّ الأزمة على أشدّها.
وعلى الصَّعيد العربي، سعَيْنا لحراك دبلوماسي يطالب بعقد مؤتمر لوزراء خارجيّة الدول الداعية للحلّ العربي في عمّان؛ الأردن واليمن والسودان والجزائر وليبيا والمغرب وتونس، بناءً على رغبة العراق. والهدف كان كسر الحصار السياسي على العراق. في تلك الفترة، رفضنا تطمينات طارق عزيز، وتأكَّدنا أنّ المصدر الوحيد للمعلومات هو الإعلام الغربي.
كُنّا يومها نتعامل مع العراق، بعد تدميره كاملاً، وكانت التَّقديرات بعد الانسحاب تشير إلى إفشاء معلومات وتسريبها من العراق، وتحديداً معلومات عسكرية، وكانت الشُّكوك تتَّجه نحو الاتحاد السوفياتي. كما أنَّ البصرة والتدخُّل الإيراني ولجوء ستة آلاف عراقي لإيران، كان تحدِّياً أمنيّاً خطيراً يهدَّد وحدة الأراضي العراقية، بينما لا أعلم مدى دقّة المعلومات، التي تحدَّثَت عن بدء انسحاب العراق من الكويت قبل الهجوم البرّي، لكن القصف المستمرّ خلال مائة ساعة، أدى إلى تدمير كبير، وتسبَّب في اهتزاز معنويّات العسكر، وشعورهم بالهزيمة.
حتى اللحظة الأخيرة ما قبل الحرب البرِّية، ظلَّ العراقيون يعيشون تحت انطباع أنَّ المبادرة الروسيّة ستكون فاعلة، وسيقبلها الأميركيّون، بينما الانطباع السائد لدينا أنّ أميركا تريد انسحاب العراق من الكويت دون شروط، وأن يوافق على جميع القرارات، بينما القوات الأميركية كانت تستعدّ للهجوم خلال ساعات. الخسائر كانت هائلة، أذكر ما سمعتُه من وصف عن معركة الدبّابات، التي ارتُكبت فيها مجزرة، وسقط نحو ألف وخمسمائة جندي عراقي، بين شهيد ومُصاب، وما قيل عن معركة اهتزَّت الأرض فيها، نتيجة قوَّة الضَّرب بين الجانبين العراقي والأميركي.
ومنذُ أن بدأ الهجوم البرّي، بدا واضحاً ضعف الجبهة العراقيّة، التي فقدت اتِّصالاتها بالقوّات المتقدِّمة، وذلك كان نتيجة تأخُّر الاتِّصال بين القيادة السياسية والعسكرية، وبدأ العراقيون يفقدون الاتِّصال فيما بينهم.
في الأردن الرَّسمي، تمَّ توثيق موقفنا في الكتاب الأبيض الذي أعدَّه الديوان الملكي بجهود من سياسيين وإعلاميين ومؤرِّخين، وهذا الكتاب يثبت سعْي الأردن لتأمين الانسحاب العراقي من الكويت قبل فوات الأوان، وفيه رسالة تاريخية تباينت المواقف حولها، وأصر الراحل الحسين على إرسالها لصدام من أجل تأمين الحلّ العربي العربي الذي أفشله الكثيرون. |
|
mi-17
المدير وزيــر الدفــاع
الـبلد : المزاج : الحمد لله التسجيل : 23/02/2013 عدد المساهمات : 43829 معدل النشاط : 58579 التقييم : 2418 الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
| موضوع: رد: مذكرات مضر بدران الأربعاء 9 ديسمبر 2020 - 21:48 | | | |
|
mi-17
المدير وزيــر الدفــاع
الـبلد : المزاج : الحمد لله التسجيل : 23/02/2013 عدد المساهمات : 43829 معدل النشاط : 58579 التقييم : 2418 الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
| موضوع: رد: مذكرات مضر بدران الأربعاء 9 ديسمبر 2020 - 22:05 | | | |
|