سامي كليب:
ضيفتنا اليوم في زيارة خاصة ترعرعت بين الملوك والأمراء، وعاصرت كبار نجوم الفن والسينما في حياتها قبل أن تنتقل من ضوضاء الحياة إلى غياهب السجون، في السجن عاشت ما يقارب العشرين عاماً، أشرفت على تربية عائلتها، واخترعت لها ألف وسيلة ووسيلة لقتل الوقت، إنها مليكة أوفقير ابنة الجنرال المغربي الشهير محمد أوفقير، الذي كان أقرب الناس إلى الملك الحسن الثاني قبل أن ينقلب عليه، ويموت في ظروف -لا تزال حتى اليوم- غامضة. رحلة مؤثرة وصعبة، هي التي تنقلنا فيها اليوم مليكة أوفقير، لكنها -في الوقت نفسه- رحلة من الموت إلى الحياة. إذن نبدأ من البداية، من الدخول إلى القصر الملكي، كيف كان؟ ولماذا تم اختيارك للدخول إلى القصر؟ مليكة أوفقير: زيارتي إلى القصر كانت صدفة، وكانت المرة الأولى التي أرافق فيها والدتي إلى القصر الملكي، خلال هذه الزيارة تعرفت إلى الأميرة الصغيرة (للامينا)، وككل الأطفال بدأنا نلعب سوياً، وتآلفنا، وخلال اللعب تشاجرنا -ككل الأطفال- وعندما شتمتني لم أتردد في الرد عليها، مما أثار استياء أهل القصر كيف أني تجرأت. لكن فيما يخصني أنا -كطفلة- لم أكن أعي بعد أهمية أصول التعامل مع أسرة العرش، فقد كانت الأميرة بالنسبة لي مجرد طفلة صغيرة، حينها تدخل الملك محمد الخامس فأخذني في أحضانه، وسألني ما بي، أجبته بأني حزينة، لأنها شتمت أبي، فسألني بما أجبتها أنا، قلت إني شتمت والدها، وهكذا. وهكذا بعد تلك الحادثة سأل الملك والدتي أن يتبناني، كي أكون رفيقة لُعب وحياة للأميرة، وبما أنه كان من الصعب على والدتي أن ترفض، فطلب الملك شرف كبير للعائلة، تم بين ليلة وضحاها انتقالي إلى القصر، وقد عشت ذلك بشكل قاسٍ جداً، بسبب انتقالي فجأة من حياة إلى أخرى. سامي كليب: هل كان أهلك قادرون على رفض طلب الملك؟ مليكة أوفقير: لا، مستحيل لا -كما قلت- كان ذلك بمثابة شرف للعائلة، بالطبع تألم والداي إذ كان عمري يومها خمس سنوات فقط، لكن كان الرفض مستحيلاً. سامي كليب: تم قبول تبنيك، وذهبت إلى القصر، أول المجيء إلى القصر هل كنت تشعرين أنك فعلاً في البيت، أم كانت غربة، وكنت تفضلين أن تبقي عند الأهل الحقيقيين؟ مليكة أوفقير: الطفل لا يطلب سوى البقاء مع عائلته، لقد ظلت هذه الحادثة في ذاكرتي تشبه عملية اختطاف، بما أنّي انتزعت من أهلي، وعندما أقول أهلي أعني والدتي بالذات، أكيد أن حياة أخرى انفتحت أمامي، ولم تكن من اختياري، خلال تلك الحياة عشت طفولة سعيدة، انتقلت منها إلى سنوات المراهقة والشباب، لكني بكيت مراراً خلال كل تلك السنوات لابتعادي عن والدتي. سامي كليب: طيب، السيدة مليكة حصل ذلك في خلال عهد محمد الخامس، هل لكِ أن تشرحي لنا كيف كانت حياة القصر آنذاك؟ وكيف كنت تعيشين تلك الطفولة مع أبناء الملك؟ مليكة أوفقير: ما عدا ظروف الحياة في القصر وضمن الحريم، عشت طفولة سعيدة بشكل كامل، وكان الملك الحسن الثاني بمثابة أب لي بعد وفاة محمد الخامس. سامي كليب: كم عام بقيت مع محمد الخامس؟ مليكة أوفقير: عامين، ولدى وفاة محمد الخامس تبنَّاني الملك الحسن الثاني، قلت إذن إلى جانب تميز الحياة في القصر، فأنا لا أحتفظ سوى بذكريات الطفولة، كان لدي أب استثنائي بالطبع، فقد كان أباً وملكاً في آن واحد. سامي كليب: هل كان بالنسبة لك -تحديداً- الأب، أم كنت أيضاً تشعرين أنه -فعلاً- هو الملك، ويجب أن تخافي منه وأن تحترميه، أم كنت تعامليه كأب فعلاً وحقيقي يعني؟ مليكة أوفقير: لقد كان الأب، وكنت أحبه كثيراً، لكني كنت أعرف من خلال نشاطاته الرسمية ومجمل حياته اليومية أنه كان -أيضاً- الملك وصاحب القرار، كنت أخشاه بالطبع، كما يُخشى أبٌ حازم. سامي كليب: هل كان هناك فروق كبيرة بين محمد الخامس والحسن الثاني في معاملتك؟ مليكة أوفقير: لا، أبداً، ذكرياتي عن الملك محمد الخامس هي ذكريات الطفولة، إذ لم يكن يتجاوز سني الخامسة، وقد كانت وفاته بالنسبة لي حدثاً مفصلياً وصدمة كبيرة، أما من حيث أصول التربية فلا أعتقد بوجود فرق بينهما، ربما كان الملك محمد الخامس أكثر تواجداً من الملك الحسن الثاني. سامي كليب: يعني تقولين في الكتاب الذي وضعتيه في فرنسا مع الكاتبة (ميشيل فيترسي) أنه كان أكثر حضوراً بشكل يومي، وأنه كان يأتي إلى الدراسة، ويلعب معكما من وقت إلى آخر أكثر من الحسن الثاني. مليكة أوفقير: أجل، كان أكثر تواجداً في حياتنا اليومية، أي أنه كان يوقظنا صباحاً عند السادسة والنصف، كان يتناول معنا الفطور، يغادرنا، ثم يعود عند العاشرة، لكي يحضر أحد الدروس التي لم نكن متقدمين فيها، مثلاً دروس اللغة العربية التي كان يحضرها دوماً، وكان يشاركنا اللعب أيضاً، أما الملك الحسن الثاني فكان متواجداً، ولكن بقدر أقل. سامي كليب: سيدة مليكة ألاحظ أنك تفضلين الحديث طبعاً باللغة الفرنسية، هل كنت تتحدثين مع الملك محمد الخامس، ثم مع الملك الحسن الثاني بالفرنسية أم بالعربية؟ مليكة أوفقير: لا، بالعربية، لأن الفرنسية كانت ممنوعة في القصر، على كل حال أول صفعة تلقيتها كانت بسبب تعليق قلته بالفرنسية، وربما أن الملك كان يعرف. سامي كليب [مقاطعاً] : الحسن الثاني. مليكة أوفقير [مستأنفةً] : أني أجد صعوبة في التعبير بالعربية، صفعني لأنه كان قد نبهني مراراً إلى ضرورة التحدث بالعربية، صحيح أننا كنا نملك حظ تعلم اللغتين العربية والفرنسية، ولكن بما أننا كنا نمضي معظم أوقاتنا مع مربية ألمانية تفرض علينا التحدث بلغتها، كنا نتكلم غالباً الفرنسية والألمانية. سامي كليب: كان أهلك يأتون لزيارتك بشكل يومي، أسبوعي، أم كانوا يتأخرون، وكانوا بالأحرى ممنوعين من المجيء في كل وقت؟ مليكة أوفقير: ممنوعين لا، لكن كانت والدتي تزورني مرة في الشهر، وتمضي معنا وقت الغداء، غير أن الغداء كان يدور في جو رسمي، وبحضور المربية التي لم تكن تفطن إلى أني أحتاج إلى جلسة حميمة مع والدتي، وأني كنت بحاجة لأن تأخذني في أحضانها، وهذا كان ممنوعاً منعاً باتاً، إذن كنت أراها خلال ساعتي الغداء، أعود من بعدها إلى متابعة الدروس، أخواتي وأخوتي لم أكن أراهم إلا نادراً، مرة واحدة في السنة. سامي كليب: هل شعرت في لحظة معينة أن الحسن الثاني وزوجته قد حلا -فعلاً- مكان الوالدين، وأصبحت تشعرين بالنسبة لهما بنفس الحب؟ مليكة أوفقير: الحديث عن كل هذا الماضي يوقظ مشاعر منسية، ويجعلني أكتشف أني غير قادرة على التخلص من عاطفة الحب التي ربطتني بهذه العائلة، عندما أفكر وأستبق أسئلتك حول المرحلة المؤلمة، أجد صعوبة في فهم أو قبول عاطفة الحب هذه. سامي كليب: طبعاً قرأنا في الكتاب الكثير من الأشياء عن الحياة داخل القصر، ولكن من الأشياء الأكثر مثاراً للغرابة هو الانقطاع بين الخارج والداخل، هل كنت تعلمين ما يحصل خارج القصر الملكي؟ مليكة أوفقير: لا أبداً، أبداً، كنت أحيا داخل بوتقة، على كل حال لم أحتفظ سوى بذكريات الانتقال من قصر إلى قصر، وخلال كل مسافة الانتقال في السيارة كنت أبقى ملتصقة بالنافذة، كي أرى قليلاً كيف هي الحياة في الخارج، أو ما كانت تعنيه الحياة، والحرية خاصة. سامي كليب: تقولين الحرية، هل كنت تشعرين فعلاً أنك داخل سجن في القصر؟ مليكة أوفقير: نعم، كانت لدي حاجة كبيرة إلى الحرية، أي أني كنت أحسد الناس خلال اللحظة القصيرة التي كنت أراهم -عبر النافذة- جالسين في المقاهي، أو متجولين -ببساطة- في الشوارع، بالنسبة لي كانت فرصة الذهاب لشراء الصحف المدنية -مرة في الأسبوع- تمثل فسحة كبيرة، بالرغم من أننا كنا ممنوعين من مغادرة السيارة، والتطلع حولنا، وكنت الوحيدة التي تجرؤ على ذلك، وعندما تعود المربية بالصحف كل هذه الصحف الممنوعة عليَّ، كان مجرد رؤيتها يمثل الحرية بالنسبة لي، لأني كنت أشعر أني منعزلة. سامي كليب: بعد القصر الملكي ذهبت إلى وسط العائلة، كيف كانت نظرة الناس إلى مليكة أوفقير الخارجة من القصر، وابنة محمد أوفقير؟ مليكة أوفقير: عدت إلى منزلي مع شوق كبير لاستعادة حياة طبيعية، واكتشفت تدريجياً أنها ليست الحياة الطبيعية التي أنشدها، أمن مشدد، الكثير من البروتوكول، حراس أمام كل الأبواب، حراس في الداخل، هي تفاصيل ثانوية ربما، لكنها كانت مهمة جداً بالنسبة لي، ولم أكن أحتمل ضرورة المرور ببدالة للاتصال خارج البيت، إذن كان ذلك يمثل لي -مرة أخرى- حاجزاً بيني وبين الخارج، لكن -لحسن الحظ- كانت لدينا حياة عائلية، حيث كانت الأسرة تجتمع حول المائدة بحضور الوالد، والأخوة، والأخوات. سامي كليب: طيب، في المدرسة هل كان التلامذة الذين كانوا معك في الصف نفسه أو في المدرسة نفسها ينظرون إليك نظرة كُره -مثلاً- لأنك تمثلين -أولاً- السلطة، ثم لأنك ابنه محمد أوفقير الذي كان -طبعاً- غير محبوب من كل المغاربة؟ مليكة أوفقير: الكره لا، الغيرة بالأحرى، وهو شعور يواجهه كل إنسان في لحظات من حياته، أعرف أنهم كانوا يحسدونني، كوني ابنة أوفقير، يحسدونني لأنني حسنة المظهر، وهذا ما كان يؤدي إلى التنافس بين الرفيقات، وكنت شابة تفرض وجهة نظرها، كنت أدافع عن رأيي، ولا أتراجع بسهولة، مرة واحدة -فقط- شعرت بحقد الآخرين، ولم تكن كراهية -حتى- بل حقد، وذلك في يوم كنا في ساحة المدرسة، ونعتني إحدى الطالبات بابنة القاتل، لقد آلمني ذلك كثيراً، وبدأت أطرح على نفسي أسئلة، لماذا قالت إني ابنة قاتل؟ ولماذا هذا الاتهام؟ طرحت السؤال من حولي، وعلى أصدقائي، وسمعت أحاديث غامضة عن قضية ابن بركة وكنت في القصر حين بدأ الحديث عن قضية بن بركة التي نتج عنها تشديد الحراسة، وكان يحدث أن أستمع في الإذاعة إلى أخبار عن بن بركة مقترنة باسم والدي دون أن أفهم الصلة. سامي كليب: طيب، حول القضية نفسها -لو سمحت- حيث حصلت الحادثة في فرنسا، واختفي المعارض المغربي الشهير، واتهم -طبعاً- محمد أوفقير والدك بأنه أحد المنظمين لذلك، هل سألتيه -مباشرة- عن هذه القضية؟ مليكة أوفقير: لا، لم أطرح عليه السؤال أبداً، أعرف أني لو فعلت لكنت جرحته، وأعرف أنه كان كتوماً فيما يخص هذا الموضوع، وكل المواضيع التي تتعلق بمهامه. سامي كليب: في السجن كانت المرحلة الأصعب والأقسى، عشت هناك مع العائلة حوالي 15 عاماً، ثم 5 أعوام في الإقامة الجبرية، وكان ذلك بسبب التهمة التي ألصقت بالوالد بأنه كان وراء عملية (سخيرات) عملية الانقلاب الشهيرة ضد الملك الحسن الثاني، وكنت -آنذاك- في فرنسا، كيف -أولاً- تلقيت نبأ تلك المجزرة التي حصلت؟ مليكة أوفقير: لم أكن في فرنسا حين حدث أول انقلاب، بل في المغرب، وكان ذلك بمثابة زلزال في حياتنا، وأعتقد أننا لسنا الوحيدين الذين تلقوا هذه الصدمة، بل البلد بأكمله، والذي ارتج بفعل هذا الحدث، لأنها كانت المرة الأولى التي يتم فيها التعرض للعرش، وبالتحديد من قبل قوة عسكرية كبيرة تتضمن العديد من الجنرالات الذين حاولوا زعزعة النظام. سامي كليب: بعد حادثة (سخيرات) بدأت العلاقة بين الملك الحسن الثاني، والوالد محمد أوفقير يشوبها الشك، بعد كل الإخلاص، بالرغم من أنه بعد العملية -مباشرة- تولى محمد أوفقير مهمات جديدة، أصبح وزيراً للدفاع، رئيس..قائد الفرقة البحرية -إذا صح التعبير- أو الجوية أيضاً، يعني عملياً قائد كل القوات المسلحة، وأصبح هو المشرف الوحيد على أمن الملك، كيف تم إدخالكم إلى السجن، في أي مرحلة بالضبط، ما الذي حصل تحديداً؟ مليكة أوفقير: هذا السؤال بلا جواب، لا يوجد جواب على هذا السؤال، حتى اليوم لا أستطيع تفسير ما حدث لنا لاحقاً، بعد محاولتي الانقلاب، صحيح -كما ذكرت- بعد محاولة انقلاب (سخيرات) حصل -لا أقول- تنافس على السلطة، بل صارت هناك علاقة احتراس بين الرجلين اللذين كان سابقاً متفقين ومجتمعين على خدمة المملكة، والذين تحولت العلاقة بينهما فجأة إلى صراع وانعدام ثقة. سامي كليب: ولكن -بالتفاصيل لو سمحت- لو في البداية بعد حادثة (سخيرات) هل كنت تشعرين مثلاً أن والدك بدأ يكره الملك شخصياً؟ مليكة أوفقير: بعد محاول انقلاب (سخيرات) بعد تنفيذ حكم الإعدام بالجنرالات الذين كانوا جميعاً من أصدقاء والدي، يمكنني القول إنها كانت بداية النهاية بالنسبة له، تحول إلى رجل فقد الرغبة بالعيش. سامي كليب: كنت آخر من اتصل أو تلقى اتصال من الوالد، هل كنت تشعرين بأنه متجه إلى الموت، وأنه خائف من الموت، أو إنه قد يقُتل مثلاً؟ مليكة أوفقير: كنت أشعر أن موته صار حتمياً، دون أن أعرف شيئاً عن تفاصيل الوضع، عندما حدثني على الهاتف كان صوته صوت رجل قد انتهى، عندما تأكدت من خطورة الوضع، وأنها كانت لحظة وداع تقريباً، لأنه -كما ذكرت سابقاً- لم يكن من طباع والدي إبراز مشاعره أو التعبير عنها بالكلمات، كان يعبر عن عاطفته بحركة، بإشارة، بقبلة، ويومها كان مختلفاً إذ كلمني أنا ابنته، وقال لي أنا أحبك، وأثق بك، وأقدرك، وأريد أن تكوني عوناً لوالدتك، وأن تكوني حاضرة دوماً لمساعدة أخوتك وأخواتك، وأن تصري على كرامتك، هكذا عرفت أنها وصية ميت. سامي كليب: طيب، حتى اليوم -يعني- لم تعرف كل التفاصيل، البعض يقول أنه انتحر، البعض الآخر يقول إنه قُتل، البعض الثالث يقول إنه -ربما- لم يقتل بشكل مباشر، ولكن حصل اشتباك قتل فيه، ما هي الحقيقة؟ هل جمعتم المعلومات حول موته؟ مليكة أوفقير: لا، لا نملك أي دليل عما حدث، الدليل الوحيد هو جثته المرمية بالرصاص خمس طلقات، أعتقد أن اتصاله بنا وبأمي أيضاً -قبل مقتلة- برهانُُ على عدم انتحاره، أنا أقول إنه رجل اختار موته، اختار الساعة واللحظة، وأعتقد أن وجوده في القصر، بل اختياره الذهاب إلى القصر هو في حد ذاته قرار بعدم الهروب، وإنما بالتفاهم مع الملك وجهاً لوجه، هذه هي رؤيتي الشخصية للأمور، وربما كانت أدبية، أو رومانتيكية بعض الشيء، لكن من قام بقتله فهذا ما لا يمكنني الإجابة عنه، لأننا لم نحصل على أي دليل، كل ما حصلنا عليه هو الجثة. سامي كليب: كنت -آنذاك- في فرنسا حين اتصل بك؟ مليكة أوفقير: لا، في المغرب. سامي كليب: في المغرب، طيب بعد موته، بعد الإعلان عن مقتله، هل اتصلت بالملك؟ أو هل ذهبت إلى القصر لتعرفي الحقيقة؟ مليكة أوفقير: لا. سامي كليب: لماذا، خصوصاً أنك تربيت في القصر يعني؟ مليكة أوفقير: لأني كنت أشعر بألم فظيع، كان عليَّ أن أقوم بحداد مزدوج، قد فقدت والدي وكان أمامي جثة هامدة، وفي نفس الوقت فهمت أنني فقدت والدي الآخر، في هذه اللحظة حدث شرخ عميق في حياتي، عزة نفسي منعتني من التوجه إلى الملك للاستفسار منه. سامي كليب: بعد مقتل الوالد -طبعاً- مرت فترة قصيرة، ثم أدخلتم إلى السجن، في هذه الفترة بالضبط -سيدة مليكة- قيل الكثير عن ردة الوالدة، وقيل أنها تعرضت لشخص الملك مباشرة، وأن ذلك كان السبب في سجن العائلة هل كان ذلك صحيحاً؟ وهل فعلاً كانت ردة فعلها عنيفة إلى هذا الحد؟ مليكة أوفقير: مرة أخرى صحيح أنه من غير الممكن منع الآخرين من البحث عن أسباب تبرر ما حدث، نرغب -دائماً- بإيجاد أجوبة وتفسيرات عقلانية للأمور، لكن هناك أشياء تبقى بدون تفسير، وبدون أجوبة، القول بأن والدتي هي المسئولة عما حدث لنا فيما بعد خطأ تام، أنا التي تجرأت على رد وجبة الغداء المرسلة من قبل القصر، كما تجري العادة في حالات العزاء، لا أدري إذا كانت هذه التقاليد معمول بها في مجمل البلدات العربية.. سامي كليب [مقاطعاً] : موجودة في عدة دول عربية. مليكة أوفقير[مستأنفةً] : عائلة الفقيد لا تهتم بإعداد الطعام، إنما هم المقربون الذين يرسلون الأكل، وعندما قيل لي أن الطعام مرسل من القصر رفضت، وقلت يستحيل أن أقبل، لا أستطيع أن أتناول الطعام من يد الذي يفترض أنه وراء مقتل والدي، اليوم مع انقضاء الزمن، ومع النضج والخبرة أعترف بأن ردة فعلي لم تكن لائقة، وأنها أغضبت الملك، لكن كان عليه هو أيضاً أن يتفهم تصرفي حياله لا كملك، وإنما كأب، ربما أنه آلمني، اخترت هذا الأسلوب لإيلامه، إذن أن يتم النظر إلى سلوكي هذا كحجة أو كسبب يبرر الفظاعة التي ستحدث لاحقاً فهذا ما أجده مجحفاً. سامي كليب: طبعاً تجربة السجن كانت تجربة طويلة جداً، وهي بحاجة -ربما- إلى ساعات وساعات للحديث عنها، ولكن سوف نمر بشكل -يعني- سريع مع بعض التفاصيل المهمة التي حصلت في السجن، وكيف استطعت أنت -تحديداً- وليس فقط الوالدة تربية كل العائلة، كنتم 6 أولاد -أولاد أوفقير-واستطعت في الواقع أن تقتلي الوقت، وتخترعي أشياء كثيرة في السجن وهذا مهم جداً، ربما في هذه التجربة الطويلة المرحلة الأولى في السجن -منذ البداية- كانت صعبة جداً، يعني نود أن تروي لنا -منذ البداية- كيف دخلتم السجن؟ وكيف كانت المعاملة المباشرة لكم؟ مليكة أوفقير: البداية كانت صعبة جداً، بمعنى الانتقال القاسي من حياة طبيعية مترفة، وسهلة خالية كلياً من عقبات الحياة، وإذا بك بين ليلة وضحاها في الجهة الأخرى، إذن تلك كانت الصدمة الأولى، وعندما وصلنا إلى المعسكر الأول، واستقبلنا آمر المعتقل وهو يشير بإصبعه -باحتقار- إلى قطع الخبز وعلب السردين، الدخول إلى هذا المكان المقفل من غير نوافذ، الخالي من الأثاث والمياه، في هذه الحالة يستمر المرء بالتعلق بمكتسبات الماضي بترف الماضي، وبكل ما يشكل مقومات إنسانية، هنا كان يجب التأقلم أولاً مع المحيط الجديد، ومن ثم كان يجب التأقلم مع قسوة المناخ، ستة أشهر صيف ملُتهبة، انتشار العقارب في العواصف الرملية. سامي كليب: هل كنت تعتقدين أنت أو العائلة أن مرحلة السجن ستسمر طويلاً؟ مليكة أوفقير: أنا أجل -للأسف- أنا كنت أعرف ذلك، وكنت أشعر بذلك، وهذا ما قلته لصديقة كانت حاضرة يوم أتوا لأخذنا، وأعطتني أغراضي ومجوهراتي، قلت لها لن آخذ شيئاً، فأجابتني لن تتركيها في البيت، فقلت لها خذي كل شيء، إذا سنح لك الحظ يوماً برؤيتي، قالت لي هذا مستحيل، الأوامر تقول بأنكم ستغيبون 15يوماً، على كل حال أخذت معي كل أغراض أخوتي الصغار، قالت لي والدتي لا، نحن راحلون لـ 15يوماً فقط، فأجبتها أمي نحن راحلون، وربما لن نرجع أبداً، إذن أنا كنت واثقة من أننا كنا راحلين لمدة طويلة جداً جداً. سامي كليب: وفجأة انقطع الاتصال، فجأة انقطع الاتصال مع الخارج نهائياً، يعني مُنعت الزيارات، ومنُع الاتصال بالأهل أيضاً. مليكة أوفقير: في لحظة معينة بفضل تعاون الشرطيين استطعنا أن نتصل بعائلتنا، للأسف تم التبليغ وعلى إثر ذلك اختلفت شروط اعتقالنا كلياً، الأكل أصبح محدوداً، أو بكميات صغيرة جداً، منعت الكتب، جهاز الراديو نجحنا في الاحتفاظ به، لأن الحراس قاموا بتنبيهنا، وهنا أخذونا إلى معسكر..معسكر حقيقي حيث قاموا بفصلنا، وبتوزيعنا على زنزانات، فلم نر بعضنا خلال 8 سنوات. سامي كليب: حين كان أحد أفراد العائلة يمرض كيف كانت تتم معالجته؟ مليكة أوفقير: بالصلاة، كانت والدتي تصلي، وكنا ننتظر، ولم يكن لدينا ما نفعله سوى الانتظار، وما يفوق الاحتمال، ليس الانتظار فقط، بل هو رؤية الآخر يتعذب. سامي كليب: هل كان الذين يتولون الحراسة والذين يبقون معكم من الجنود المغاربة، هل كانوا في لحظات معينة يتعاطفون مع العائلة مثلاً..كانوا كل الوقت؟ مليكة أوفقير: لا، لا لم يكن ذلك ممكناً بالنسبة لهم بسبب ظاهرة الرعب، من حين لآخر وجُد واحد أو اثنان منهم قالوا لنا، وذلك لأنني رجوت..وكنت أرى حالة أختي مريم، وكانت تنزف بشكل يومي، فكنت أريهم كل الأوعية التي كانت تملؤها بدمها كل يوم، رجوت ذلك الحارس، قبلت يديه، وقلت له أرجوك قرص أسبرين، إنه سهل الإخفاء، ولن يراه أحد إذا وضعته في يدي خفية، والجواب كان تريديني أن أفعل ذلك أنا لكي يعدمونني فوراً، إذا كنتم أنتم وبالرغم من أهميتكم وموقعكم في البلاد، لا أحد يذكركم اليوم، أما أنا فما الذي سيحدث لي ولأطفالي إذا قمت بمساعدتك؟! سامي كليب: طيب، السيدة مليكة -طبعاً- أنت أشرفت على تربية العائلة، وكان -دائماً- الأمل موجوداً لديك، ولدى الكثير من أفراد هذه العائلة، ولكن في لحظات معينة فقدتم الأمل -يعني- أنت -تحديداً- حاولت حتى قتل أختك حين وصل الأمر إلى اليأس المطلق، هل فعلاً كنت ستقتلينها؟ مليكة أوفقير: أعتقد أني كنت فعلت ذلك لو توافرت لي الإمكانية، بعد خروجي من ظروف تلك اللحظة، قد يبدو ذلك جنونياً غير قابل للتفسير، أنا أيضاً أطرح السؤال على نفسي هل كنت سأمضي في فعلتي إلى النهاية؟ هل كنت سأفعل ذلك حقاً؟ ولكن عندما باشرنا بذلك كنا مصدقين فعلاً، كان ذلك نوعاً من التحرر، من الذي سيؤمَّن للأخر التحرر لكي يتوقف عن العذاب؟ لأننا كنا وصلنا إلى مرحلة .. حيث كنا نشعر بأننا نفقد أكثر فأكثر كبرياءنا وكرامتنا. كان هناك الصراع اليومي ضد الجوع، البرد، جسدياً ما عدنا نتحمل شيئاً، لأننا كنا منهكين، معنوياً كان اليأس كاملاً، لأنه قبل محاولة الانتحار، يجب الإشارة إلى أننا كنا في مرحلة أدي إليها الإضراب عن الطعام خلال 47 يوماً، ومنذ شعرنا وفهمنا بأن النية كانت في تركنا نموت، وصلنا إلى لحظة يأس أسميها أنا ليلة الانتحار، حيث سقطنا كلية في الجهة الأخرى، كان الأمر شبه جنوني، وكان في الوقت نفسه دليل حب أن نتمكن من مساعدة الآخر على الموت. قمنا بسحب القُرعة، لنعرف من التي سيأتي دورها أولاً، إذن القول أنني كنت سأمضي في ذلك حتى النهاية أعتقد أني كنت سأفعل، وأن الذي منعني هو عدم توفر الوسيلة، إذ لا يمكننا الانتحار بواسطة إبرة حياكة، أو بقطعة من علبة سردين صدئة، في النهاية كل التحضيرات التي ترافق الفعل نفسه هي المؤذية، وأن نحتفظ في ذاكرتنا..أن أحتفظ في ذاكرتي بصورة شقيقتي التي استيقظت، ونظرت إلي غاضبة وهي تقول ماذا فعلت؟ ولماذا مازلت حية؟ أخي -أيضاً- حاول وضع حد لحياته، ولكن بطريقة أكثر عنفاً بما أنه كان يملك أداة قاطعة كانت في..بحوزته طوال الوقت، وقد أراد الحظ أن ينجو، ولكنه ظل مصاباً بشلل الدماغ خلال 4 أيام، في تلك اللحظة تشجعنا، وقررنا الاستمرار بالعيش. سامي كليب: طيب، ما هي اللحظات الأكثر صعوبة في كل هذه التجربة في السجن؟ مليكة أوفقير: إنها مجموعة من الأشياء، الأمر الذي كان أكثر إيلاماً هو ماذا هو الوقت؟ هو الصمت، هو الاختناق، هو الصراع المستمر، العراك المستمر بين جسدك وأفكارك، هو التمكن من ترويض كل حيوية الجسد الفتي جداً بمتطلباته ورغباته، وأنت مجبر لا على كبت ذلك كله فحسب، بل على قتل جسدك، إذن عليَّ قتل كامل الانفعالات، لكي لا يعود هناك مشكلة سوى مع عقلك، وهذا كان تمريناً على مدى سنوات طويلة، ولكن مقابل أي ثمن لأنك تقتل، وليس من السهل قتل هذه المشاعر، وليس من السهل –أيضاً- إعادة إحيائها. إذن كان العذاب أن تستفيق كل عام، وأن تقول لنفسك لست –فقط- أقل شباباً، بل أنا حتى أشيخ، وليس لي حظ أن أكون امرأة ككل النساء، وأن أكون امرأة –بالنسبة لي شخصياً- هو أن أعطي الحياة، هذا هو دوري، ومقدر لي أن أفعل هذا، إذن اليوم، وفي مواجهة كل هذه المشاكل والآثار يجب أن أتعايش مع ذلك، أن أتخلى عن هذه الفكرة. أعتقد أن كل شيء موجود لكي يمنعك من الاستمرار في الحياة، لكن لحسن الحظ أن الحب كان موجوداً بيننا بحيث أن كلاًّ منا وهب حياته للآخر، وأقول لك –بكل صدق- أننا إذا بقينا جميعاً أحياء، فبسبب رغبة كل منا بالتوفير على الأخر، وإلا كان التخلص من الحياة أكثر بساطة. سامي كليب: في أي لحظة فكرتم بالهرب، وبدأتم الإعداد للهرب؟ مليكة أوفقير: الهروب كان..الهروب فكرة والدتي، كما قلت لك بعد محاولة الانتحار، بعد إضراب عن الطعام، بعد كل هذا اليأس -في النهاية- قالت لي نحن أغبياء، إننا ميتون لا محالة، ألا يجدر بنا أن نحاول شيئاً ما، هكذا على الأقل نكون قد قمنا بالاختيار.. سامي كليب [مقاطعاً] : عفواً -فقط- سؤال التفكير بالهرب جاء بعد أنكم أنتم أرسلتم رسائل عديدة إلى الملك تطلبون العفو؟ مليكة أوفقير [مستأنفةً] : كل عام، وليس هذا العام -فقط- في كل عام كنا نكتب رسالة إلى الملك، أكان ذلك في 3 مارس بمناسبة عيد العرش، أو عيد ميلاده، أو بمناسبة الأعياد الدينية، كل المناسبات كانت جيدة لنا لكي نذكره بوجودنا لطلب العفو، وفي النهاية طلب السماح دون أن نكون قد ارتكبنا أي خطأ. سامي كليب: بماذا حاولتم فتح النفق؟ بأي أدوات؟ مليكة أوفقير: كان في حوزتنا ملاعق صغيرة، علب سردين قديمة، كان معنا قضيب حديدي كبير، كان أخي الصغير قد سرقه منذ السنة الأولى، كان لدينا بقايا بعض القضبان، تعرف القضبان التي كانت موجودة في السرير، وكنا نملك أذرعتنا وأيدينا، وخاصة الإرادة بالخلاص. سامي كليب: طيب، بعد 15 عاماً قررتم الهروب، خلال الـ15 عاماً لم تفكروا ولا مرة أخرى بأن تهربوا مثلاً؟ وهل كنتم تعلمون أنه مر 15 عاماً؟ مليكة أوفقير: أعتقد أن فكرة الهرب فكرة موجودة لدى كل سجين، خاصة عندما يكون الحكم الصادر في حقه عشوائياً، هذه الفكرة رافقتنا خلال كل تلك السنوات، لكن أعتقد أن اليأس والشروط التي فرضوها علينا من جوع وأمراض وعزلة هي التي هيأتنا بأفضل ما يكون للهرب، وسمحت لنا أن ننجح في تنفيذ مشروعنا كنا درسنا، وحللنا، وفكرنا طويلاً جداً بالهرب، مما جعلنا ننجح في تنفيذه من دون ارتكاب أخطاء، الشيء الوحيد الذي لم نفطن له أننا هربنا يوم عطلة، كانت فيها السفارة الفرنسية التي أردنا اللجوء إليها مقفلة. سامي كليب: طيب -طبعاً- نحن سمعنا كثيراً عن سجناء أمضوا معظم حياتهم في السجن، والشروط الصعبة التي عاشوها، ولكن -ربما- هذه التجربة الوحيدة حيث نرى عائلة بكاملها في السجن، حيث أصبحتم معزولين الواحد عن الآخر كيف كان يتم قتل الوقت بشكل يومي؟ مليكة أوفقير: قتل الوقت كان يتم من خلال مراقبة نملة مثلاً، متابعة لعب الفئران، تدجين الصراصير، رؤية كل العناصر التي كانت تحيط بنا، تعيش من حولنا، لكي نوهم أنفسنا بأننا نحن -أيضاً- كنا نعيش. سامي كليب: كيف بدأت عملية حفر النفق؟ مليكة أوفقير: على أثر محاول الانتحار أولاً، خضعنا لعملية تفتيش، وتم الحجز على كل الأغراض التي كانت بحوزتنا، حتى الأكواب الصغيرة، السكاكين، كل شيء، حتى الزجاج الذي كان في النافذة الصغيرة انتزع، في زنزانة والدتي كان يوجد سلم صغير يفضي إلى غرفة واطئة السقف، كنا نضع فيها كامل متاعنا، وأغراضنا، وفي اللحظة التي وقعت فيها -إذن- محاولة الانتحار جاءوا وأخذوا كل شيء، خلعوا السلم، ألغوا الباب وسدوه بحجارة الطوب. والدتي ما أن انتهوا، حملت أخي على أكتافها، وطلبت منه أن ينتزع حجر طوب قبل أن يجف الإسمنت، من هنا جاءت فكرة النفق، ذلك أن مشكلة التي كانت مطروحة علينا خلال تلك السنوات هي أننا لم نكن نعرف أين نخبئ التراب والحجارة التي سنستخرجها من حفر النفق، كان يجب -أولاً- تحديد الزنزانة التي سيجري منها الحفر، وقررنا أن تكون زنزانتنا نحن البنات، نزعنا البلاطات، وتطلب ذلك منا 15 يوماً من العمل البطيء والدءوب، وإنما يجب -أيضاً- إعادتها إلى مكانها كل صباح. فيما بعد كان ينبغي نزع طبقة الإسمنت التي كانت تحتاج إلى لترات كثيرة من المياه التي كنا نتركها ليلاً لكي يلين الأسمنت، فيما بعد جاء دور الحجارة، صنعنا فتحة تحت سريري بين زنزانتي وزنزانة والدتي، ومن هنا كنا نخرج الحجارة، فكانت والدتي ترفع أخي الصغير الذي كان يرميها في تلك الغرفة. سامي كليب: لم يلاحظوا أي شيء خلال الإعداد للنفق؟ مليكة أوفقير: لا، أبداً، وبالرغم من أنهم كانوا يقومون بعمليات التفتيش، ويضربون البلاط بأحذيتهم العسكرية بقوة، لأنهم كانوا يخشون محاولة الهروب، كنت أراقبهم وأنتظر، لكن لم يتفطنوا لشيء أبداً. سامي كليب: طيب، يوم الهروب ذهبتم -أولاً- إلى أي منطقة؟ بعد الخروج كيف حصل –يعني- خرجتم إلى..أولاً اخترتم ثلاثة فقط للهروب من بين كل العائلة؟ مليكة أوفقير: أربعة. سامي كليب: أربعة، من الذي هرب بداية؟ مليكة أوفقير: رؤوف الذي كان كبير الصبيان، عبد اللطيف، وكذلك مارية، سكينة لم تتمكن من مرافقتنا لأنها كانت المسؤولة عن إعادة إغلاق النفق، لأنه كان ينبغي إغلاق النفق بعد خروجنا، والدتي لم تتمكن من الهرب لأنها بعد إضرابها عن الطعام ومحاولة الانتحار كانت سيئة الصحة، ومريم كان ذلك مستحيلاً، لأنها كانت مريضة، وكانت تنزف يومياً فهربنا أربعتنا. سامي كليب: أخوك الصغير كانت المرة الأولى التي يخرج فيها إلى الحياة، هل فوجئ بما شاهد في الخارج؟ مليكة أوفقير: عندما اتوجد في قرية (بير جديد) ذلك الصباح وكانت الساعة السادسة والنصف، شعر بتراكم الصدمات، وهو شخص -كما يقال- يعود إلى الحياة، حياة لم يعتادها -قبلاً- لدرجة أنها شلته تماماً، إذن كان مصدوماً، زائغ العينين، ومن دون أية ردة فعل. سامي كليب: وصلتم إلى السفارة، أمام السفارة الفرنسية كان يوم عيد، السفارة مقفلة، ذهبتم إلى سفارة أخرى، وسفارة ثالثة، ثم مررتم عند بعض الأصدقاء قبل الذهاب إلى إحدى المناطق المغربية، والاتصال بإذاعة فرنسا الدولية، وهناك بدأت سلسلة القرارات الدبلوماسية، وصل المحامي الفرنسي، اتصلتم به، وبعد ذلك اختفى، ثم تم القبض عليكم مجدداً، ووضعتم في الإقامة الجبرية، لماذا كل هذه الفترة، خلال السنوات الخمس المحامي الذي تم توكيله من قبلكم،لم يفعل أي شيء لإطلاق سراحكم، هل حصلت ضغوط عليه، هل علمتم بذلك بعد إطلاق سراحكم؟ مليكة أوفقير: تطرح سؤالاً مهماً، لماذا لم يستمر في العمل على إطلاق سراحنا؟ لماذا هذا الصمت الذي استمر أكثر من خمس سنوات؟ اسمع أنا تعلمت شيئاً واحداً، وهو أول الدرس التي استخلصتها من هذه التجربة، لم أعد أعتمد على أحد، أخذ أو أتلقى ما يعطونني، لكني لا أنتظر الشيء الكثير من البشر، بالطبع ظن المحامي أنه تصرف بشكل جيد، وأنه عمل باتجاه العدالة، لكن أعتقد أن هناك الكثير من الأشياء التي تتجاوزه، وتتجاوزني، وتتجاوزنا جميعاً. هناك المصالح الموجودة بين الدول، تفوق السياسي على الإنساني، فوز الاقتصادي على كل ما تبقى، وربما كان أفضل أن يتم الحديث بقدر أقل عن قضية أوفقير، لأن ذلك لم يكن لمصلحة أحد، وقعنا مرة أخرى في النسيان، اضطررنا مرة أخرى إلى انتزاع حريتنا بحسب إمكانياتنا، وبفضل هروب مارية، التي لولاها أعتقد أننا ما كنا لنكون هنا اليوم، والتي من دونها ما كنت تمكنت من تأليف هذا الكتاب، إذن من علامات فخرنا -أيضاً- أن نقول بأننا لا ندين لأحد بشيء. سامي كليب: هل اليوم بعد كل هذه التجربة القاسية، وبعد أن أمضت العائلة الجزء الكبير من شبابها خصوصاً -بالنسبة لكم- الأولاد في السجن، هل هناك نوع من الحقد على من وضعكم في السجن، أم أن هناك أولويات أخرى بالنسبة للحياة؟ وكيف تعيشون حياتكم اليوم؟ مليكة أوفقير: لا، لا يمكنني أن أشعر بالكراهية، لكن هذا لا يعني أني لم أحس بالكراهية، مررت بلحظات من الكراهية، لحظات من الغضب والحقد، هناك أوقات أشعر فيها بعذاب فظيع، عندما أرى أفراد أسرتي، وأرى حياتهم مُدمرَّة إلى الأبد، لكن أقول لنفسي لا يحق لي ذلك، وكما كانت تقول أمي خلال تلك السنوات كونوا على مستوى العذاب الذي تعيشون. إذن هذه هي ميزة العذاب الوحيدة، أن تتخلص من الكراهية، ومن كل تلك المشاعر التي تصنع الإنسان، ولكن أنا كان لدي الحظ بعدم الشعور بالكراهية، وإحساسي بأنني صافية تماماً، وفي النهاية أقول لنفسي أننا كنا ضحايا، وبشكل ما شهداء، بحيث أني أفضل أن أهب كل مسيرتي، كل ما خسرناه، وكل ما عشناه إلى وطني. سامي كليب: سيدة مليكة شكراً لك.
|