"الفشقة" التي قصمت ظهر البعير… حرب ثلاثية الأبعاد تلوح على الحدود السودانية الإثيوبية
عاد الجدل حول إمكانية اندلاع حرب حدودية بين السودان، وإثيوبيا مدعومة من إريتريا، إلى الواجهة مُجدداً عقب التصريحات الأخيرة التي أطلقها رئيس مجلس السيادة في السودان عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك، خلال فعاليات الاحتفال بالعيد الـ67 للجيش السوداني، الذي نُظّم في منطقة الفشقة، محل النزاع بين البلدين، الاثنين 16 آب/ أغسطس الجاري.
وقال عبد الفتاح البرهان الذي كان يتحدث بصفته القائد العام للقوات المسلحة السودانية: إن اختيار بلدة "ودكولي" في الفشقة الصغرى، مكاناً للاحتفال بالعيد الـ67 للقوات المسلحة، يؤكد أن الجيش بذل تضحيات جسيمة من أجل استردادها في الأشهر الماضية، بعد سيطرة الإثيوبيين عليها منذ عام 1996، مُشدداً على تبعيتها للسيادة السودانية، وعلى قدرة القوات المسلحة على استعادة سبعة جيوب أخرى لا تزال تحت الاحتلال الإثيوبي، بالحوار، أو بالقوة إن تعذّر. فيما لم يختلف خطاب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك عما ذهب إليه البرهان كثيراً.
وفي السياق نفسه، كانت الخرطوم استدعت في 8 آب/ أغسطس المنصرم، سفيرها إلى أديس أبابا، من أجل التشاور، بعد رفض إثيوبيا وساطة سودانية في شأن الأزمة في إقليم تيغراى، بحجة عدم حياده، واحتلاله لأراضٍ إثيوبية.
ويُذكر أن العلاقات بين السودان وإثيوبيا شهدت تدهوراً كبيراً منذ تولي الحكومة الانتقالية إدارة البلاد، خاصّةً بعد تغيُّر الموقف السوداني من سد النهضة الإثيوبي، ووقوفه إلى جانب مصر، إلاّ أن الأمر بلغ ذروته عندما تقدّم الجيش السوداني مُستغلاّ انشغال الحكومة الإثيوبية بالحرب الأهلية في تيغراي، واستعاد منطقة الفشقة الصغرى التي احتلتها إثيوبيا منذ 1996.
ومضت الخرطوم خطوة أكبر، عندما سمحت باستضافة معارضين إثيوبيين وإريتريين، في تموز/ يوليو المنصرم، بينهم قادة عسكريون، وسياسيون، ينتسبون إلى جبهة تحرير تيغراي الإثيوبية، وقادة من المعارضة الإريترية، على رأسهم وزير الدفاع الأسبق مسفن حغوس، والسياسي البارز والدبلوماسي هايلي منقريوس، الممثل السابق للأمين العام للأمم المتحدة في السودان، وجنوبه، وذلك وفقاً لتسريبات صحافية من مصادر أمنية سودانية نشرتها صحف ومواقع إلكترونية عدة، أبرزها عدوليس الإريتري، وقد فسّر بعض المراقبين هذه الاستضافة غير المسبوقة، على أنها إعلان سوداني صريح بدعم المعارضة في كل من إثيوبيا وإريتريا، والعمل على إطاحة كل من آبي أحمد، وأسياس أفورقي من قيادة البلدين.
يقول الباحث والمحلل السياسي السوداني، حامد نورين، إن زيارة البرهان الأخيرة إلى منطقة الفشقة، برفقة حمدوك، وإن كان هدفها المعلن هو الاحتفال بالعيد السابع والستين للجيش، إلا أن خطابه الجماهيري، ضمن فعاليات الافتتاح، كشف عن أهداف أخرى تضمنت تلويحاً باستخدام القوة، لاسترداد ما تبقى من أراضٍ سودانية ما تزال تحت السيطرة الإثيوبية، إذ قال: "لدينا أراضٍ باقية في الفشقة، ونسعى إلى استردادها عبر الوسائل الدبلوماسية، كما لدينا خيارات أخرى في حال فشلها".
جاءت هذه الزيارة، يضيف نورين، والخرطوم تستضيف، سرّاً، معارضين بارزين لحكومتي أديس أبابا وأسمرا، المتحالفتين ضد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، إلى حد انخراط إريتريا في الحرب الأهلية الإثيوبية مساندةً لحكومة آبي أحمد، وتزامن ذلك مع الضغط المفاجئ على "سليمان علي"، الوالي المدني على ولاية القضارف السودانية، التي تضم منطقة الفشقة الحدودية المُتنازع عليها، لتقديم استقالته، أو إقالته في حال رفضه، ربما لإحلال والٍ عسكري، أو ذي خلفية عسكرية مكانه، تحسباً للحرب القادمة.
المؤشرات والظروف الموضوعية كلها، تشير إلى إمكانية اندلاع حرب على طول الشريط الحدودي بين السودان من جهة، مستخدماً المعارضتين الإثيوبية والإريترية، وإثيوبيا وإريتريا من الجهة الأخرى، وهذه الحرب ستقضي على الأخضر واليابس، إن اشتعلت، إذ تعاني شعوب المنطقة فقراً مدقعاً، وتعيش غالبيتها مجاعات غير مُعلنة، فيما حكوماتها تُمجّد الحروب، حسب تعبير نورين.
ويبدو أن وتيرة التصعيد المتسارعة بين البلدين، تخفي، بالإضافة إلى ما هو معلن من خلافات حدودية، وحول سد النهضة، أزمات سياسية، واحتقاناً داخلياً، تتعلق بالأنظمة الحاكمة في البلدان الثلاثة. فإثيوبيا تشهد حرباً أهلية طاحنة بين الحكومة المركزية، وجبهة تحرير تيغراي، بما في ذلك التطورات الدرامية التي قلبت موازين القوة لصالح المتمردين، وتعاطف المجتمع الدولي معهم، بسبب الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها حكومة آبي أحمد، والقوات الإريترية، ومليشيات الأمهرا المساندة له، ضد المدنيين العزّل من التيغرانيين، حسب تقارير متطابقة صادرة عن الأمم المتحدة، ومنظمات دولية مستقلة معنية بحقوق الإنسان.
وفيما تعاني إريتريا التي تدخلت بقوة في الحرب الأهلية الإثيوبية، يعاني نظامها عزلة دولية ضاربة منذ عقود، إلاّ أن تدخلها الأخير في الحرب الإثيوبية، جعل الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الاوروبي يفرضان عقوبات على مسؤولين عسكريين، ووزراء بارزين. تتفاقم الخلافات في الخرطوم بين المكونات المتناقضة للحكومة الانتقالية، فالجيش بقيادة البرهان يحاول أن يُضعف الجانب المدني الذي يدير الحكومة، بالشراكة مع قادة الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق "جوبا للسلام"، وقوات الدعم السريع بقيادة نائب البرهان محمد حمدان دقلو، وتحاول ايجاد موطئ قدم دائم لها في السلطة، فيما تشهد البلاد صراعاتٍ سياسية، وقبلية، وغلاء طاحناً، وأزمات في مناحي الحياة كلها.
وفي مثل هذه الأوضاع الداخلية الشديدة الاحتقان في البلدان الثلاثة، يظل خيار الذهاب إلى حرب خارجية، بدواعي السيادة والوطنية وغيرها، مطروحاً لتحقيق مكاسب سياسية للأُطر الحاكمة، أو المتنازعة، للسيطرة على الحكم، وذلك ما تعضده المؤشرات والقرائن كلها، وما يجري على الأرض من وقائع في العواصم الثلاث: الخرطوم، وأديس أبابا، وأسمرا.
بالنسبة للباحث السياسي والدبلوماسي الإريتري السابق، فتحي عُثمان، فإنّ النزاع السوداني الإثيوبي، على منطقة الفشقة، سيؤجج الحرب بين البلدين، عاجلاً أم آجلاً، وقد يؤدي إلى مواجهات مفتوحة.
يمضي عثمان في حديثه إلى رصيف22، شارحاً: "معلومٌ أنّ الجزء الجنوبي من الفشقة، استولى عليه المزارعون الإثيوبيون عنوةً، فيما استأجروا أجزاءً أخرى من مزارعين سودانيين، ولكن ما زاد من صعوبة الوضع، وجود مليشيات إثيوبية مسلحة في المنطقة، لحماية المزارعين الإثيوبيين، وجلّهم من قومية الأمهرا الداعمة لرئيس الوزراء آبي أحمد في حربه ضد إقليم تيغراي، التي كانت تنتظر هزيمة ساحقة للإقليم، تعود بعدها لاسترداد الفشقة، إلاّ أنّ مسار الحرب لم يأخذ الوجهة التي كانت تتمناها المليشيات الأمهرية، إذ تمكنت قوات دفاع إقليم تيغراي من استعادة أراضي الإقليم كلها، ما أربك حسابات آبي احمد، وحلفائه.
يستطرد عثمان قائلاً: التصريحات الأخيرة للبرهان، يمكن أخذها من باب التهديد، خاصةً مع تزامنها مع تحركات للمعارضتَين الإثيوبية والإريترية في الخرطوم، لكن في حال اندلاع الحرب، فإنّ أسياس أفورقي، سيكون طرفاً فيها بطريقة ما، وعليه فإنّ المواجهة ستجر إليها الحلفاء الثانويين والرئيسيين لأبي أحمد، جميعهم.
وفي السياق نفسه، علقت الباحثة الإثيوبية في مجال الحوكمة والأمن في إفريقيا، في معهد الدراسات الأمنية (ISS) في أديس أبابا، شيويت ولدي مايكل، على الأحداث المتسارعة على الشريط الحدودي بين الدول الثلاث، محملةً السودان مسؤولية ما أطلقت عليها "الدعاية العدائية المتزايدة"، وأشارت إلى أن الحكومة الإثيوبية أصدرت بياناً بهذا المعنى في 4 أيار/ مايو المنصرم، انتقدت فيه مطالب السودان في منطقة بني شنقول/ قُمز الإثيوبية، حيث يتم بناء سد النهضة، وعدّتها ابتزازاً غير موفق، لصرف الأنظار عن استيلائها على بعض أراضي الفشقة.
ورأت ولدي مايكل، اجتياح الجيش السوداني أجزاءً من الفشقة، مستغلاً انشغال نظيره الإثيوبي في الحرب في إقليم تيغراي، شمال إثيوبيا، بسلسلة من العمليات العسكرية الخاطفة، بدءاً من تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، تصعيداً عدائياً خطيراً، وتهديداً مُسْرِفاً لأمن منطقة القرن الإفريقي برمتها، لكنّها عادت لتشير إلى طرف ثالث هو من يؤجج الصراع في المنطقة من الخلف، ويدفع بالحكومة السودانية إلى عداء لا ضرورة له مع جيرانه.
تقول ولدي مايكل: مع فشل المحاولات الدبلوماسية كافة، لنزع فتيل التوتر بين أديس أبابا والخرطوم، تتمسك إثيوبيا بضرورة انسحاب الجيش السوداني من الفشقة، وإعادة انتشاره إلى ما قبل استيلائه عليها. ومع تعنّت الخرطوم المتزايد، فإنّ الحرب قادمة لا محالة. ننتظر من يضغط على الزناد أولاً، فحسب.
من الواضح أن الحكومات الثلاث تحاول تصدير أزماتها الداخلية إلى الخارج، إلاّ أن اندلاع حرب، ربما يُراد لها أن تكون خاطفة، سيغير المشهد برمته في منطقة القرن الإفريقي المأزومة، وقد يطيح بحكومتي آبي أحمد، وأفورقي، في أديس أبابا، وأسمرا، ويمهد لسيطرة الجيش على مقاليد الحكم في الخرطوم، ويطيح بحكومة الثورة، ويُحلّ مدنيين موالين للعسكر محلهم، إلاّ إذا نجح المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأميركية، في الضغط على الحكومات، والأطراف المتصارعة على الحكم داخل الدول الثلاث، لتجاوز خيار الحرب، والجلوس إلى طاولات المفاوضات.
إلاّ أن السيناريو الأكثر ترجيحاً، عطفاً على الوقائع الماثلة، يشير إلى وجود إرادة سياسية في الخرطوم، للذهاب إلى حرب خاطفة وسريعة، تستعيد عبرها ما تبقى من أراضي الفشقة، وتٌساعد في إعادة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي إلى الحكم في أديس أبابا، وإطاحة أسياس أفورقي من سدة الحكم في أسمرا، أو إضعافه، بحيث تتمكن المعارضة الإريترية من إزاحته، ولو بعد حين. إلاّ أن هذا السيناريو قد ينقلب إلى نقيضه، ويُدخل المنطقة برمتها في حرب لا هوادة فيها، ربما تستمر عقوداً طويلة.
raseef22.