وثيقة تعاون إيران والصين... هكذا تخطط طهران لتوسيع سطوتها بعيداً عن "الاتفاق النووي"
عد أن أعلنت الخارجية الإيرانية عن بدء تنفيذ وثيقة التعاون الشامل الإستراتيجية مع الصين، والممتدة 25 عاماً، والتي جاءت عقب مشاورات مكثفة مع كبار المسؤولين الصينيين خلال زيارة وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، التي استمرت يومين، لبكين، حيث اتفق الجانبان على الإعلان عن بدء تنفيذ الوثيقة طويلة الأجل.
وأكد عبد اللهيان، في تصريح له في أثناء الزيارة، وبعد اجتماعه مع نظيره الصيني وانغ يي، أنّ البلدين قاما "بالترتيبات الكافية" لوضع الاتفاقية موضع التنفيذ، مشيداً بها كونها "أحد أهم إنجازات زيارته".
بدأت ملامح الصفقة بالتشكل في 27 آذار/ مارس من العام الماضي، حين وقّع وزير الخارجية الصيني وانغ ونظيره الإيراني آنذاك جواد ظريف، على اتفاق تعاون شامل بقيمة 400 مليار دولار، خلال زيارة الأول لطهران، ويضمن الاتفاق تفاعلاً اقتصادياً وثقافياً بين الجانبين، كما يُدخل الاتفاق إيران مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهي خطة بنية تحتية تقدَّر قيمتها بتريليونات الدولارات، وتهدف الصين من خلالها إلى بناء شبكة واسعة من مشروعات البنى التحتية من شرق آسيا إلى أوروبا.
لكنّ الاتفاق أثار جدلاً واسعاً في إيران، بسبب خشية أن يفتح موانئ البلاد الإستراتيجية أمام الاستثمارات الصينية والقواعد العسكرية، فما هي تفاصيل هذا الاتفاق وأسبابه؟ وماذا يحمل من دلالات؟ ولماذا جاء في مثل هذا الوقت؟ وما هو موقف واشنطن من هذه الصفقة؟ وما تأثيرها على المفاوضات الجارية حول الملف النووي؟
يكشف المحلل السياسي الإيراني المقرّب من وزارة الخارجية الإيرانية، قيس قريشي، لرصيف22، أن "الصين طلبت فتح قواعد عسكرية لها ضمن بنود الاتفاقية على سواحل مضيق هرمز، ومنها ساحل مكران الذي يقع في جنوب شرق إيران، بالقرب من بحر عمان، وعلى رأسها ميناء شابهار وبندر عباس وميناء جاسك وميناء الشهيد بهشتي، الأمر الذي قوبل برفض إيراني كونها خطاً أحمر، فيما عرض الجانب الصيني إنشاء قواعد مشتركة، الأمر الذي قوبل بالرفض أيضاً".
يرى المحلل السياسي الإيراني حسن رستمي، "أن الوثيقة هي برنامج سياسي وإستراتيجي واقتصادي وثقافي، يركّز على مختلف مجالات التعاون بين البلدين، فقد صيغت بهدف تحقيق السلام والاستقرار والتنمية الإقليمية والدولية، لذلك فهي لا تعارض أي طرف ثالث، أو تتدخل في شؤون أي دولة".
ولم يتم الكشف عن الوثيقة، ولا يبدو أن هناك توجهاً نحو هذا الأمر، فحسب رستمي، "نشر تفاصيل كافية حول الاتفاق بين طهران وبكين، هو مطلب قانوني، لكن في المقابل فإنّ نشر الوثائق غير الملزمة ليس شائعاً جداً في العلاقات الدولية، كما أنّ العقوبات الغربية توجب حجب المحتوى الكامل للوثيقة".
ويؤكدّ في حديثه إلى رصيف22، أنّ "الوثيقة ليست لها طبيعة أو حتى شكل عقد أو اتفاقية، بل هي خريطة طريق وإطار عمل لعلاقات طويلة الأمد"، مشيراً إلى أنّ "الصين ستكون مركز الاقتصاد العالمي في المستقبل، ومن الأهمية بمكان وجود علاقة إستراتيجية مع دولة تُعدّ قوةً إقتصاديةً كبرى"، منوهاً بأنّ "إيران دولة تتمتع بميزة اقتصادية نسبية في تصدير النفط والغاز والمنتجات البتروكيماوية، لذلك فإنّ الشراكة الإستراتيجية طويلة الأمد مع طهران ستفيد دولة مثل الصين".
ومن جهة أخرى، فإن إيران، على صعيد التنمية الاقتصادية، بحاجة إلى سياسة الصين الخارجية تجاه واردات النفط والغاز والمنتجات البتروكيماوية، وهذا ما يذهب إليه المحلل الإيراني رستمي، مؤكداً أنّه يمكن للصين الاستثمار في الخطط الاقتصادية لقطاع النفط والغاز والبنية التحتية للمواصلات والاتصالات الإيرانية، لذلك، إذا تمّ تنفيذ الاتفاق، فإنّه يمكن الوثوق نسبياً بالتخطيط الاقتصادي طويل الأمد".
وعلى أثر ذلك، فإنّه من الناحية السياسية، هناك آثار إيجابية للشراكة الإستراتيجية مع بكين، إذ يشير رستمي إلى أنّ الصين ثاني أقوى دولة في العالم، وأكثرها نشاطاً، على مدى العقدين الماضيين، من حيث الاقتصاد والسكان والإنفاق العسكري الذي هو في تزايد مستمر، الأمر الذي يحفز إيران على تكثيف التعاون مع الصين في خطتها الإستراتيجية القادمة، وذلك لمواجهة الضغوط الأمريكية المكثفة، مشدداً على أنّه "لا ينبغي لإيران أن تقف مكتوفة الأيدي وتراقب الوضع الحالي لتتحول إلى دولة معزولة، فمنطق الدبلوماسية الهجومية القائمة على إستراتيجية المقاومة النشطة يفرض التفكير في بدائل أخرى".
وتسعى الصين باستمرار إلى الحد من مخاطر الطاقة في مضيقَي ملقا وهرمز، إذ يُعدّ مضيق هرمز من الممرات المائية المهمة والإستراتيجية في العالم لتجارة النفط، ولكونه يقع في الخليج العربي، ويفصل بين إيران وسلطنة عمان اللتين تتقاسمان الرقابة عليه، ويُشكّل بعداً إستراتيجياً مهماً لكلا البلدين، إذ يذهب 80% من النفط الذي يخرج من دول الخليج للدول الآسيوية كالصين والهند وكوريا واليابان، فيما يتم نقل البقية إلى دول أوروبية وإلى أمريكا الشمالية، وقد هددت طهران مراراً بإغلاقه.
وحسب رستمي، فإن هذا الواقع يجعل إيران "تلعب دوراً مهماً في التأثير على حركة الملاحة، بفضل مواردها الغنية بالطاقة، وتحكّمها بمضيق هرمز، حيث يمرّ خمسا واردات الصين من النفط تقريباً، لذا فإنّ إيران في نظر الصين دولة مهمة على طريق الحرير للوصول إلى خارج حدودها عبر آسيا الوسطى إلى الخليج الفارسي وأوروبا، ومن وجهة نظر الإستراتيجيين الصينيين، فإنّ إيران هي الجدار الأخير ضد النفوذ الأمريكي في أوراسيا".
وستكون الاتفاقية الصينية الإيرانية، كما يرى المحلل السياسي الإيراني، "خطوةً حاسمةً في إحياء طريق الحرير، مما سيزيد من قدرة إيران على المناورة في الاتجاهات الجيو-اقتصادية في المنطقة، ويشجع القوى الاقتصادية الأخرى على الاستثمار في الاقتصاد الإيراني والبنية التحتية، وخاصةً الموانئ وشبكات الطرق".
وإيران واحدة من الدول الثلاث المصدرة للنفط إلى الصين، قبل أن يفرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب العقوبات عليها، وبلغ تبادل الطاقة ذروته بين الطرفين في عامي 2011 و2014، عندما كانت الصين تستورد أكثر من 22 ألف مليون دولار من الطاقة، من إيران.
وتسعى إيران إلى إيجاد بيئة سياسية تخلّصها من العزلة والحصار المفروضين عليها منذ سنوات عدة، وهذا ما يؤكدّ عليه الكاتب والباحث السياسي العراقي د.عماد الدين الجبوري، الذي يذهب إلى رؤية مغايرة لما ذهب إليه المحلل الإيراني حسن رستمي، مؤكداً أنّ إعلان إيران "عن بدء تنفيذ وثيقة التعاون الشامل مع الصين، يأتي بعد ما حدث في السنوات القليلة الماضية، جراء الحصار والعقوبات الأمريكية الشديدة على إيران، والوضع الذي تمر به طهران في المنطقة، فهي بحاجة إلى تنفيس خارجي. فبعد التعاون مع روسيا اتجهت إلى التعاون مع الصين، ولكن بشكل أوسع سيما أنّ هنالك بعض الفقرات في الوثيقة الخاصة بين إيران والصين لم يُعلن عنها، فلا يزال هناك غموض حول نقاط سرية يود الطرفان عدم الكشف عنها".
ويرى الجبوري في حديث إلى رصيف22، أنّ "إيران تريد منفذاً تنفيسياً لها من الضغوطات الاقتصادية، زيادةً على أنّها ستستفيد من هكذا موقف في التفاوض النووي مع الجانب الغربي، لا سيما مع الجانب الأمريكي"، مشيراً إلى "أهمية إشراك العامل الزمني للمستقبل، لأنّ إيران عندما تتعامل مع الصين لمدة 25 عاماً في ما يُعرف بطريق الحرير، فلكي تكون هي ذات المركزية الثقيلة في الشرق الأوسط".
ويقول الجبوري: "في استطاعة الصين أن تتجاوز ضفّتَي الخليج المتمثلتين بالضفة الشرقية التي هي بيد إيران، والضفة الغربية التي بيد دول الخليج، وتتعامل مباشرةً مع ميناء البصرة؛ خاصةً وأن ميناء البصرة يُعد البوّابة البحرية الوحيدة للعراق، وهو بمثابة "الكنز المنهوب" من قبل الأحزاب والفصائل المسلحة الشيعية الإيرانية".
ومن هنا، يظهر أنّ النقاط السريّة التي لا تعلن عنها إيران والصين متعلقة بهذا الجانب، لأنّه عندما يستعيد العراق عافيته، سوف تتغير بعض الأمور، سيما في الجانب الاقتصادي الصيني، لأنّه في بادئ الأمر، حسب رؤية الجبوري، "أرادت الصين أن يكون التعاون مباشرةً بدءاً من الخليج العربي ويتمثل في مضيق هرمز، أو ما يُعرف بباب السلام، وصولاً إلى ميناء البصرة بشكل مستقيم ومباشر، من دون الحاجة إلى ضفتَي الخليج العربي الشرقية والغربية، لذلك لم يتم الكشف عن بعض الأمور".
ويرى المحلل السياسي والخبير اقتصادي، أيمن عبد النور، في حديث إلى رصيف22، أنّ "الاتفاقية شبيهة بكثير من الاتفاقيات من ناحية المبدأ، والتي وقّعتها بكين مع العديد من الدول، سواء الآسيوية منها أو الإفريقية أو العربية التي تسعى من خلالها الصين إلى الدخول كمستثمر لتطوير البنى التحتية"، مشيراً إلى أنّه "مع الوقت سيطرت الصين بناءً على تلك الاتفاقيات، على موانىء عديدة في الدول الإفريقية، بسبب تعذّر تلك الدول عن دفع أقساط تلك المساعدات والاتفاقيات مع الصين ذات الأرقام الكبيرة والفوائد العالية، وتالياً فإنّ الأخيرة ستكسب كل شيء، وهي الرابح الأكبر من مثل هذه الاتفاقيات".
لكنّ في الحالة الإيرانية، فإنّ الوضع مختلف تماماً حسب رؤية عبد النور، إذ يشير إلى أنّ إيران لديها دخل كبير من النفط، وتالياً تستطيع أن تسدد نفقات تلك الاستثمارات الهائلة، لكن في المقابل سيكون هناك ارتباط كبير وعميق بين البنية التحتية والتجارة الخارجية وتجارة النفط مع الصين، بدلاً من أن تكون مع دول العالم الغربي، أو مع روسيا، أو مع الولايات المتحدة، وبذلك تؤمّن إيران استمراريتها للعقود المقبلة في العمل، سواء وقعت الاتفاق النووي أو لم توقعه، فهي تؤمم تجارتها وعملها وتطوير اقتصادها، وهي ضربة استباقية لما يمكن أن يحصل للاتفاق النووي الذي من المفترض أنّه سيمر".
raseef22