تلقت الدبلوماسية الفرنسية انتكاسات متتالية مع تآكل قوتها الناعمة وتراجع نفوذها، حتى في معاقلها التقليدية. وزادت حدة هذا التراجع في خضم تشكل نظام عالمي جديد على ضوء تداعيات الحرب في أوكرانيا وفق خبراء ألمان وأوروبيين.
تعرضت الدبلوماسية الفرنسية خلال السنوات الماضية لمجموعة من الإخفاقات أظهرت تراجعا مطردا للنفوذ الفرنسي على عدة أصعدة. ولعل أكبر صدمة تلقتها باريس في السنوات الأخيرة، كانت في سبتمبر/ أيلول 2021، حين ألغت أستراليا وبشكل مفاجئ "صفقة القرن" المتعلقة بشراء غواصات فرنسية بقيمة 56 مليار يورو، بعدما فضّلت كانبيرا غوّاصات أمريكية تعمل بمحركات نووية في إطار سمي باتفاق "أوكوس" بين أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا. الخطوة الأسترالية أحدثت صدمة لدى دوائر صنع القرار في باريس التي رأت أن فرنسا تلقت طعنة في الظهر مس بهيبتها كدولة كبيرة. بعدها تأزمت العلاقات بين باريس وبرلين في سياق الحرب في أوكرانيا. ففي الوقت الذي تسعى فيه باريس لبناء استقلالية عسكرية وأمنية أوروبية، بلورت برلين رؤيتها الخاصة واختارت التزود بالسلاح الأمريكي بالدرجة الأولى في إطار حزمة مائة مليار يورو لتحديث الجيش الألماني. والخلافات بين البلدين تشمل أيضا مجالات استراتيجية أخرى كالطاقة على سبيل المثال لا الحصر.
وتواجه الدبلوماسية الفرنسية معضلات أخرى لا تقل أهمية في منطقة المغرب الكبير التي تتمتع فيها تقليديا، كقوة استعمارية سابقة، بنفوذ كبير. ويبدو أن باريس فشلت في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائرفي وقت يشهد فيه العالم تقلبات جيوسياسية أعادت خلط الأوراق في المنطقة. فقد عجزت باريس عن التعامل مع تداعيات اعتراف واشنطن بسيادة المغرب على الصحراء الغربية متبعة سياسة المراوحة في محيط سريع التحرك. وليس من الواضح بعد ما إذا كانت باريس ستكون جزء من الحل أم من مشكل يقض مضجع المنطقة منذ قرابة خمسة عقود. نفس المعضلات يواجهها النفوذ الفرنسي في إفريقيا التي تشكك نخبها الشابة في جدوى التعامل مع باريس التي تعتمد في سياستها الإفريقية على شبكة نفوذ موروثة من المرحلة الاستعمارية. وسعى ماكرون في هذا الصدد إلى بلورة رؤية استراتيجية جديدة تجاه القارة السمراء في مواجهة تنافس شرس لقوى صاعدة كروسيا عبر ذراعها العسكري "مجموعة فاغنر" أو دول أخرى كالصين وتركيا. ويُخشى أن تكون طموحات ماكرون مجرد خطابة ستتبدد أمام واقع إفريقي جديد لم تهضمه فرنسا بعد!
في خضم الجدل بشأن تراجع نفوذ فرنسا في العالم، أقدم الرئيس إيمانويل ماكرون على خطوة مثيرة للجدل تتعلق بحل السلك الدبلوماسي الفرنسي كهيئة مستقلة بما في ذلك المسار الخاص للعاملين في السلك تالدبلوماسي. وبدلا من ذلك تم خلق مجموعة من حوالي 800 من كبار الموظفين من مختلف القطاعات، ومن ضمن تلك المجموعة سيتم اختيار الدبلوماسيين مستقبلا، بمعنى أن من سيعين سفيرا في المستقبل لن يبدأ مساره المهني بالضرورة في وزارة الخارجية العريقة المسماة أيضا بـ "الكيدورسي". وتعتبر هذه الخطوة قطيعة مع تقاليد راسخة لدبلوماسية تعتبر الثالثة في العالم من حيث تمثيلياتها بعد الولايات المتحدة والصين.
ورغم أن الدستور الفرنسي يعطي للرئيس سلطة القرار الدبلوماسي، إلا أن "الكيدورسي" لعب دائما دورا مهما في رسم السياسة الخارجية للبلاد، دور اضمحل أكثر في عهد ماكرون الذي أعطى الانطباع بأنه يحتكر كل الملفات ويضيع أحيانا في تفاصيلها. وبهذا الصدد كتبت صحيفة "تاغسشبيغل" البرلينية (19 أبريل/ نيسان 2022) "لقد استولى قصر الإليزيه على عدة ملفات في السياسة الخارجية، لكنه أفسد الكثير منها بسبب الحماقة أو الافتقار إلى المنهجية. وعلى سبيل المثال هناك ملف لبنان، حيث تحرك ماكرون بعد انفجار ميناء بيروت ووعد بإصلاحات سياسية داخلية طال انتظارها في بلاد الأرز، وهي وعود بالطبع لم يكن قادرًا على تنفيذها".
يظهر ارتباك السياسة الخارجية لباريس في صعوبة احتفاظها على خيط رفيع يضمن التوازن في علاقاتها بين الرباط والجزائر. وبهذا الصدد كتبت صحيفة "لوموند" الفرنسية (السادس من يناير/ كانون الثاني 2023) "إنه مسار من التلال الضيقة محفوف بالمخاطر. من المتوقع أن يكون عام 2023 صعبا بالنسبة لإيمانويل ماكرون في علاقاته مع دول المغرب العربي، حيث سيتعين عليه إظهار توازن دقيق بين المغرب والجزائر. كيف يمكنه إرضاء أحدهم دون تنفير الآخر؟ كانت هذه المعضلة أقل حدة في عهد الرئيسين فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي. في حينها، لم يصل التوتر بين الشقيقين المغاربيين إلى هذه المرحلة الحرجة. فقد قطعت الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع الرباط في صيف 2021، ولم يسبق لباريس أن واجهت تناقضات بهذه الحدة في علاقتها مع البلدين".
فرغم الاصطفاف التقليدي الفرنسي النسبي إلى جانب الطرح المغربي لحل قضية الصحراء الغربية، إلا أن أزمة الطاقة العالمية دفعت بالرئيس إيمانويل ماكرون إلى الدفع باتجاه تعزيز محور باريس / الجزائر تزامنا مع سعي الرباط إلى حسم هذا الملف نهائيا مدفوعة بدينامية الاعتراف الأمريكي بسيادتها على الإقليم المتنازع عليه. وكما فعلت مع شركاء أوروبيين آخرين (إسبانيا، ألمانيا، هولندا..) تضغط الدبلوماسية المغربية بكل قواها على باريس لـ "الخروج من المنطقة الرمادية" وفق تعبير وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، وبالتالي دعم واضح لخطة الحكم الذاتي الموسع تحت السيادة المغربية التي تطرحها الرباط كحل وحيد للنزاع. إلا أن الرئيس إيمانويل ماكرون جعل من تحسين العلاقات الجزائرية الفرنسية إحدى أوليات سياسته الخارجية، خصوصا بعد أزمة الطاقة التي نشأت إثر العدوان الروسي على أوكرانيا. غير أن التقارب مع الجزائر تطبعه الهشاشة وغياب الثقة، كما ظهر مؤخرا في الأزمة التي حدثت بين البلدين، بعد هروب الناشطة الجزائرية المعارضة أميرة بوراوي التي تملك أيضا الجنسية الفرنسية، حيث اتهمت السلطات الجزائرية الاستخبارات الفرنسية بتهريب بوراوي إلى باريس عبر تونس. الجزائر استدعت على إثر ذلك سفيرها المعتمد في باريس للتشاور.
وتزامنت الخطوة الجزائرية تقريبا، مع إنهاء الرباط لمهام سفيرها في باريس، قيل إن سببه وقوف نواب فرنسيين قريبين من ماكرون وراء إصدار البرلمان الأوروبي لقرار ينتقد المغرب. وجاء ذلك بعد انفراج نسبي في أزمة التأشيرات التي تمنحها فرنسا للمغرب والجزائر، خطوة تسعى من خلالها باريس إلى دفع بلدان المنطقة إلى استرجاع سريع لرعاياها من المهاجرين المرفوضين فوق التراب الفرنسي. وبهذا الصدد كتبت أسبوعية "لوبوان" الفرنسية (12 فبراير / شباط 2023) معلقة "كل من الرباط والجزائر لم يعد لهما سفير في باريس، فالجزائر تتهم أشباح الاستخبارات الخارجية الفرنسية، فيما الرباط تشتكي من حملة تقريع ضدها في فرنسا". ورغم رسالة التهدئة التي حملتها وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا في آخر زيارة لها إلى الرباط، طرحت فيها زيارة للرئيس ماكرون للمملكة في غضون شهر مارس/ آذار الجاري، إلا أن تصويتا للبرلمان الأوروبي يدين تدهور حرية الصحافة في المغرب أثار غضبا شديدا في الرباط التي نددت بالحملة المناهضة للمغرب "التي يقودها" الحزب الرئاسي الفرنسي في بروكسل. في مؤشر على أن الأزمة بين البلدين ستتواصل في المدى المنظور على الأقل.
في مستهل جولة إفريقية قادت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في محطة أولى، إلى العاصمة الغابونية ليبرفيل (الخميس الثاني من مارس/ آذار 2023)أعلن ماكرون رسميا موت "فرنسا الإفريقية" وأن فرنسا أصبحت الآن "محاوراً محايداً" في القارة السمراء. وقال "انتهى عصر فرنسا الإفريقية هذا وأحيانًا يتكون لدي شعور بأن الذهنيات لا تتطور بوتيرة تطورنا. عندما أقرأ وأسمع وأرى أنه ما زالت تُنسب لفرنسا نوايا ليست لديها ولم تعد لديها (..) يبدو أيضًا أنه ما زال مُتوقعًا منها (أن تتخذ) مواقف ترفض اتخاذها وأنا أؤيد ذلك تمامًا. في الغابون كما في أي مكان آخر، فرنسا محاور محايد يتحدث إلى الجميع ولا يتمثل دوره في التدخل في النازعات السياسية الداخلية".
وقبلها، قدم ماكرون في قصر الإليزيه بباريس (الاثنين 27 فبراير/ شباط) عرضا رسم فيه معالم استراتيجية فرنسية جديدة في إفريقيا. وأوضح أن ما يسمى بالمربع الخلفي الفرنسي في غرب إفريقيا انتهى، ودعا إلى شراكات جديدة في القارة بعيدًا عن العلاقات المبهمة وعن دعم القادة الحاليين. وبشأن وضع القوات الفرنسية في إفريقيا أكد ماكرون أن الأمر ليس "انسحابًا ولا فك ارتباط (..) إنها ليست مسألة انسحاب أو فك ارتباط بل هي عملية تكييف" عبر إعادة تحديد "احتياجات" الدول الشريكة وتقديم "مزيد من التعاون والتدريب". صحيفة "نويه تسوريشر تسايتونغ" الصادرة في سويسرا (الرابع من مارس/ آذار 2023) كتبت بهذا الشأن معلقة "في جولته الإفريقية، دعا الرئيس الفرنسي إلى نهاية ما يسمى ـ"فرانس أفريك" (وهو توصيف للعلاقة التي نشأت بين فرنسا ومستعمراتها الإفريقية السابقة) غير أن ذلك بدا كوعد غامض يفتقد للموثوقية والمصداقية، وربما تكون هذه الخطوة قد جاءت بعد فوات الأوان (..) ويكاد ماكرون يكون ضيفا دائما في إفريقيا التي يزورها للمرة الثامنة عشرة على التوالي منذ توليه منصبه في عام 2017. ومع ذلك، فإن جولته الأخيرة التي قادته إلى الغابون وأنغولا والكونغو، تختلف عن سابقاتها، وسعى من خلالها لتأسيس فصل جديد (للعلاقة مع القارة السمراء)".
اضطر الجيش الفرنسي للانسحاب على التوالي من مالي ثم بوركينا فاسو بعد انقلابين عسكريين في البلدين. وتقول باريس إن روسيا تستخدم عمليات تضليل إعلامي واسع لتغذية الشعور المعادي لفرنسا كقوة استعمارية سابقة، في منطقة باتت تشهد منافسة حامية الوطيس بفعل بروز قوى صاعدة جديدة. فبالإضافة إلى روسيا هناك أيضا الصين وتركيا التي حققت خلال السنوات القليلة الماضية اختراقات كبرى أزعجت إلى حد كبير النفوذ الفرنسي التقليدي. ويستعمل الروس مجموعة "فاغنر" كسلاح ضد التواجد العسكري والأمني الفرنسي في إفريقيا. وهي مجموعة عسكري روسية خاصة تأسست عام 2014 على نموذج "بلاك ووتر" الأمريكية.
وتنشط "فاغنر" في جمهورية إفريقيا الوسطى. كما استعان بها المجلس العسكري في مالي، رغم أن باماكو تنفي رسميا ذلك. وتخشى باريس أن يحدث الأمر نفسه في بوركينا فاسو، بعدما دعت الأخيرة القوات الفرنسية لمغادرة البلاد. وتواجه منطقة الساحل خطر الإرهاب، الذي انتشر خصوصا بعد انهيار نظام القذافي في ليبيا. وتتهم عدة دوائر غربية "فاغنر" التي تشارك أيضا في العدوان الروسي على أوكرانيا، بانتهاك واضح لحقوق الإنسان والسعي للسيطرة على موارد الدول الإفريقية.
توصف عادة العلاقات بين برلين وباريس بـ"محرك الاتحاد الأوروبي" الذي أظهر للعالم نموذجا للتعاون من أجل الازدهار والرفاهية المشتركة بين عدويين قديمين استنزفتهما حروب عديدة. ورغم احتفال البلدين هذا العام بالذكرى الستين لمعاهدة الإليزيه التي أسست لعلاقة جديدة بينهما بعد الحرب العالمية الثانية، غير أن الخلافات تراكمت بين الجانبين في عدد من القضايا الرئيسية كالطاقة وشؤون الدفاع، ظهرت بشكل أساسي في أعقاب العدوان الروسي على أوكرانيا. وخيم سوء التفاهم هذا منذ أن خلف أولاف شولتس أنغيلا ميركل في نهاية عام 2021، حيث عبر كل منهما عن استيائه من مبادرات الطرف الآخر بدون استشارة مسبقة.
شبكة "إن.دي.إير" (الثامن من يناير/ كانون الثاني 2023) كتبت تحت عنوان "التيار لا يمر بين ماكرونوشولتس" وعلقت "رغم كل التصريحات التي تقول العكس، فإن العلاقات الفرنسية الألمانية في الحضيض (..) من الواضح حقا أن ماكرون وشولتس لا يتوفقان (..) أحدهما رجل حركات والثاني رجل إيماءات. أحدهما يتحدث بصوت عال والآخر بصوت هادئ (لا يستطيع شولتس تحمل سياسة ماكرون الاستعراضية، وماكرون لا يتحمل ثقة شولتس بأنه يعرف كل شيئ. حيث عمل ديغول وأديناور وجيسكار وشميدت وكول وميتران وشيراك وشرودر، وبدرجة أقل، ميركل ونظراؤها دائمًا، نشهد بين ماكرون وشولتس واحدة من أكبر الأزمات السياسية في أوروبا".
https://www.dw.com/ar/%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%83%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A8%D9%84%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%AC%D9%8A%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%83/a-64944924