قبل
سنوات، كتب مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبيجنيو بريجنسكي
سيناريو متخيلا لمستقبل المنطقة
العربية في القرن الحادي والعشرين قائلا: «سيكون هناك (شرق أوسط) مكون من
جماعات عرقية ودينية تتحول الى كانتونات
عرقية يجمعها إطار كونفيدرالي
بما يسمح «للكانتون الإسرائيلي« ان يعيش في المنطقة بعد ان تصفى فكرة
القومية العربية«.
تذكرت
هذه الأطروحة لبريجنسكي في ضوء الأحداث العاصفة التي بدأت تلهب الساحة
العربية من العراق شرقا الى
السودان جنوبا وغربا في دارفور، والتي تتحرك على إيقاع واحد هو تغذية
النعرات الانفصالية للأقليات والمجموعات
العرقية والطائفية والدينية لتنسلخ
عن بلدانها أو لتثير الاضطراب وعدم الاستقرار في ربوعها. ولم يكن مدهشاً
ان نجد هذه الهبة الغربية
الاستعمارية التي اعتدنا ان نراها منذ العهد الاستعماري لترفع شعارات
«حماية الأقليات« في البلدان العربية لتتخذ
من ذلك ذريعة للتدخل في الشئون
الداخلية ، ومطية لتنفيذ مخططاتها الرامية الى تمزيق الكيان العربي
وتقوية شوكة اسرائيل في المنطقة. إن
الإصرار على صياغة مستقبل هذه المنطقة من منظور «الشرق الأوسط« وآخر
الصياغات في هذا الشأن هو المشروع الذي طرحته
إدارة بوش عن «الشرق الأوسط
الكبير أو الواسع« أنما يعني إصراراً أمريكياً على تقويض الهوية الثقافية
والحضارية الجامعة لهذه
المنطقة والمتمثلة في «الهوية العربية« وما تجسده من ثقافة وقومية عربية،
ومحاولة استبدال هذه الهوية بهوية فضفاضة
وفسيفسائية عنوانها «الشرق الأوسطية«،
حيث لا يمكن لها ان تكتمل إلا بتمزيق وتفكيك وتفتيت المنطقة الى سلسلة لا
نهائية من الكيانات القزمية
على أسس دينية وعرقية ومذهبية وطائفية واثنية. والمدخل
لذلك هو النفخ في قضية «الأقليات«، واللعب على المعزوفة الاستعمارية
القديمة، وهي «اضطهاد
الأقليات« في بلاد العرب والمسلمين، ليكون ذلك مدخلاً لتضخيم قضايا
الأقليات وتصبح مسألة
«الأقليات« بمثابة «حصان طراودة« الذي تقتحم به اسرائيل وأمريكا قلاع
النظام العربي لتخترقه وتفتته من الداخل،
وتمزقه الى كيانات قزمية صغيرة
تشكل البيئة الإقليمية المواتية لتحقيق أهداف مشروع «الشرق الأوسط
الكبير« في الهيمنة والإخضاع الاستعماري
والسياسي والتحكم الاستراتيجي في كل تفاعلات المنطقة الراهنة
والمستقبلية. ان طرح مسألة «الأقليات« ارتبط عادة
بمشاعر تتسم بالسلبية بالنسبة
للعقل العربي، لأنه اقترن دوماً بمحاولات استعمارية خارجية للتدخل في
الشئون الداخلية العربية
وإثارة الفتن الطائفية والعبث بالاستقرار من ناحية، ومن الناحية الأخرى،
كان التركيز على مسألة الأقليات عنواناً
لمحاولة عرقلة الطموحات العربية
في السير باتجاه الوحدة الكبرى، ومحاولة خلق مشاكل قومية وعرقية داخلية
تبعد الأنظار عن الهدف الأكبر
للأمة في التوحد وحشد كافة الطاقات وضمان تكريس الوحدة الوطنية. وفي هذا
السياق، فإن مفهوم الأقلية نفسه
يثير كثيراً من الحساسيات سواء
لدى الأقلية أم الأغلبية في المجتمع العربي. فالشعور السائد، غالباً، لدى
الأفراد والجماعات التي يتم
تصنيفها على أنها «أقلية« أو «أقليات« في المجتمع ان ذلك يعني وجود وضعية
يتم فيها انتقاص حقوق ومصالح وتطلعات
هذه الأقلية في المجتمع والدولة.
وبالنسبة للأغلبية فإن طرح مسألة الأقليات يثير الشبهات لأنه يعني
التركيز على أمور تقود الى تقويض
الوحدة الوطنية والمساس بالاستقرار والسلام الاجتماعي. وفي مصر مثلاً،
فإن الحديث عن «الأقباط« كأقلية يثير غضب
المسلمين والأقباط على حد سواء،
لأنه يعني محاولة إثارة نعرات التفرقة بين عنصري الأمة المصرية التي جسدت
ثورة 1919 نموذجاً لتلاحمهما
ووحدتهما الوطنية. وللسياسي المصري القبطي مكرم عبيد مقولة تاريخية تجسد
هذا المعنى حين قال: «أنا مسيحي في
ديني، مسلم في وطني«.
فالأقباط في مصر
يعتبرون جزءاً من السبيكة الحضارية والنسيج الاجتماعي للمجتمع المصري،
وهناك صعوبة في ان
تميز بين القبطي المصري والمسلم المصري إلا عندما يدخل ذاك الكنيسة
والآخر المسجد، نظراً للتماثل والتشابه الكبير
في الملامح والعادات والأذواق
واللغة. ومنذ سنوات رفضت الجماعة الثقافية المصرية عقد مؤتمر ثقافي حاول
تنظيمه أحد المراكز البحثية
«مركز ابن خلدون«، عن موضوع الأقليات، لأنه طرح مناقشة مسألة الأقباط على
أنها أقلية،وقد قاد هذه المعارضة الكاتب
الكبير محمد حسنين هيكل. ومؤخراً،
عبر الدكتور اسامة الباز مستشار الرئيس المصري للشئون السياسية، مجدداً،
عن هذا الموقف الوطني والحضاري
عندما كرر لوفد من الكونجرس الأمريكي يمثل ما يسمى «لجنة
الحريات الدينية« الرفض المصري للنظر الى أقباط مصر على أنهم «أقلية«.
والحقيقة ان الإصرار على إثارة مسائل
الأقليات في الوطن العربي، إنما يعود الى استراتيجية إسرائيلية ــ
أمريكية لإعادة صياغة الخريطة
السياسية للمنطقة العربية، على
نحو يكون فيه حماية أمن ومستقبل إسرائيل، من ناحية، وتأكيد هيمنتها
الإقليمية من ناحية أخرى. إذ تتصور
إسرائيل أنها لا يمكنها البقاء طويلاً، في المنطقة، إذا نجح العرب في
تحقيق وحدتهم القومية، وظلوا يشكلون الكتلة
السكانية والقومية الكبرى في
المنطقة. ومن هنا انبثقت المخططات الصهيونية منذ السنوات الأولى لتأسيس
الكيان الصهيوني، نحو العمل باتجاه
تكريس الانقسامات داخل المجتمعات العربية. وتحدث بن جوريون وموشي شاريت
في الخمسينيات عن كيفية قيام إسرائيل
بالمساعدة على قيام دويلات طائفية
وعرقية داخل الدول العربية تكون حليفاً لإسرائيل، ومن هنا جاءت فكرة
إنشاء «الكيان الماروني المسيحي في لبنان« منذ
ذلك الحين والتي بوشر بتنفيذها خلال السبعينيات
والثمانينيات، لكنه مشروع أخفق في النهاية بفضل المقاومة السورية
واللبنانية لذلك. غير أن ذلك،
لم يدفع اسرائيل الى التراجع عن هذا المخطط، وتعددت الدراسات
والاستراتيجيات الإسرائيلية في هذا الشأن، وقد
كشفت النقاب عن ذلك دراسة أعدها
الباحث الاستراتيجي الإسرائيلي عوديد بينون حملت عنوان «استراتيجية
اسرائيل في الثمانينيات« والتي تحدثت
بوضوح عن أن مستقبل اسرائيل انما يكمن في تحويل المنطقة العربية الى
«موزاييك متنوع« من الكيانات الصغيرة
والدويلات القزمية التي تقوم
على أسس عرقية وطائفية ودينية ومذهبية وتغذية النزعات الانفصالية
للأقليات في البلدان العربية، باعتبار ان
ذلك سيضفي على وجود اسرائيل كدولة دينية شرعية سياسية وإقليمية باعتبارها
كدولة يهودية قامت على أساس ديني ستكون
جزءا من منطقة مليئة بالكيانات
الدينية والدويلات الطائفية والعرقية والمذهبية. ومن هنا، كان التصور
الاستراتيجي لإسرائيل هو ان
تعمل بكل قوة لإقامة كيانات مارونية ودرزية وشيعية في لبنان، وتقسيم
العراق الى ثلاث دويلات كردية في الشمال
وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب.
ويواكب ذلك تعزيز نزعات انفصال الجنوب في السودان وتقسيمه على أسس عرقية،
وتشجيع اقامة دويلة للأقباط في
صعيد مصر، وللبربر في شمال الجزائر، وتقسيم الجزيرة العربية على ذات النهج
الطائفي والمذهبي. وبالنسبة للعراق
بالذات، تحدثت وثيقة عوديد
بينون قائلة: «في العراق سوف يكون التقسيم الإقليمي والطائفي متاحا،
ويمكن أن تقوم ثلاث دول أو أكثر حول
المدن العراقية الرئيسية: البصرة (جنوب) وبغداد (وسط) والموصل
(شمال). ومن هنا، رأينا كيف رأت إسرائيل في الاحتلال الأمريكي للعراق،
فرصتها التاريخية التي
انتظرتها طويلاً لتطبيق مخطط تقسيم العراق، فشجعت أمريكا على اتباع
سياسات تحرك النزعات
العرقية والطائفية كان برهانها تقسيم السلطة على أساس عرقي وطائفي كما
حدث في مجلس الحكم الانتقالي ثم في
الحكومة الانتقالية، يضاف الى ذلك،
تحريض الطوائف العراقية الأخرى مثل ا لتركمان والكلدان والصابئة على
المطالبة بحقوق ثقافية وسياسية في
الواقع العراقي الجديد. وقد كشف الصحفي الأمريكي الشهير سيمور هيرش عن
خبايا التغلغل الإسرائيلي في منطقة كردستان،
والتحالف الصهيوني مع جماعات
كردية لتغذية المطالب الكردية الرامية إلى الانفصال، فإسرائيل لا تريد
للعراق ان يعود كياناً موحداً،
وهناك شكوك بأن أصابع الموساد الإسرائيلي تقف وراء إثارة الاضطرابات
الكردية في سوريا، وتفجير الكنائس
المسيحية في العراق بهدف خلق أجواء
من الاضطراب تهيىء لتفجير النزعات الطائفية والعرقية والخلافات المذهبية
في كل من العراق وسوريا. وهناك
تقارير تتحدث عن العلاقات الوثيقة لإسرائيل مع حركة التمرد بزعامة قرنق
في جنوب السودان، ودعم حركة التمرد
أيضا في دارفور. ولعل النصيحة
الخالدة التي يمكن ان توجه الى جميع الجماعات العرقيةوالطائفية والمذهبية
في المجتمعات العربية، هي ألا
تربط مصيرها بالمخططات الصهيونية والأمريكية المشبوهة مهما تكن إغراءات
اللحظة الراهنة، التي يبدو فيها العرب في
حالة ضعف وانقسام وتراجع استرايتجي،
وتبدو اسرائيل وأمريكا في قمة التفوق العسكري والسياسي والاستراتيجي.
ورغم أن قيادات كردية كثيرة نفت وجود
روابط مع اسرائيل أو جود تعاون مع مخططات صهيونية لتقسيم العراق، إلا ان
المأمول في كل الأحوال ان
يستفيد الأكراد من دروس «التجربة
المارونية الفاشلة« في لبنان. فالشعب العربي لن ينسى لأية جماعة عرقية أو
طائفية أو مذهبية ارتباطها
بمخططات اسرائيل، وتلك ستكون سقطة تؤثر على مستقبل تلك الجماعات في داخل
الوطن العربي الكبير. غير، ان كل هذا،
يفرض ضرورة ان يتجه العرب لبلورة
استراتيجية لكيفية احتواء مشاكل الأقليات في المجتمعات العربية، وعدم
إهمالها أو تجاهلها أو محاولة
إنكارها، بعد ان أصبح التدخل في الشئون الداخلية للدول رغم تناقضه مع
مبادىء القانون الدولي التي تحض على
احترام سيادة واستقلال الدول،
أمراً متداولاً في النطاق الدولي وتتبناه بالذات القوى الدولية الغربية
الكبرى وخاصة أمريكا وبريطانيا
باسم «حق التدخل الإنساني« وخاصة بعد أن أصدرت الأمم المتحدة عام 1992
ميثاق «حماية حقوق الأقليات« في العالم.
وفي هذا السياق ، وانطلاقاً
من مبدأ «بيدي لا بيد عمرو«، يتعين على العرب أن يقلعوا عن النهج الذي
اتبعوه منذ الاستقلال وحتى
يومنا هذا، وهو رفض الحديث فيما بينهم عن المشاكل المحتملة لمسألة
الأقليات داخل المجتمعات العربية.
فالملاحظ، ان العرب قد صحوا فجأة ليجدوا
مشكلة تهدد أمنهم القومي في غرب السودان اسمها «دارفور« وأصبحوا مواجهين
باحتمال تدخل أو غزو عسكري
لبلد عربي آخر هو السودان نتيجة تفجر مشكلة «دارفور«. وجوهر
مشكلة هذا النهج، ان الدول العربية تتستر على هذه المشكلات الداخلية حتى
تنفجر، كما أن الدول العربية
الأخرى تخجل أو تتعمد عدم إثارة هذه المسائل مع شقيقاتها العربيات خوفاً
من الاتهام بالتدخل في الشئون
الداخلية أو «التطفل السياسي«
في شأن داخلي. وهو الأمر الذي يكشف عن وجود أجواء غير صحية في معالجة
قضايا الشأن العربي يدفع ثمنها
جميع العرب في نهاية المطاف وليس البلد العربي المعني بالمشكلة وحده، لأن
انفجار أية مشكلة للأقليات في
أي قطر عربي يهدد في النهاية
الأمن العربي ككل، ويفتح جرحاً لاختراق النظام العربي والتدخل الأجنبي في
الشئون الداخلية للمجتمعات
العربية. وفي كل الأحوال، هناك ثلاثة مداخل أساسية تشكل قاعدة أية
استراتيجية عربية لمعالجة مسائل الأقليات في
المجتمعات العربية يمكن بلورتها
في الآتي:
أولا:
مفهوم المواطنة فالمواطنة ركيزة أساسية ليس فقط لمعالجة مسائل الأقليات
ولكن لبناء المجتمعات العربية
على أسس حضارية عصرية تكفل في نهاية المطاف تحقيق التكامل القومي، وحماية
الوحدة الوطنية. وتقوم هذه الفكرة
على أساس المساواة الدستورية
بين المواطنين كافة أمام القانون بغض النظر عن الاختلاف في أصولهم
الدينية أو المذهبية أو
القبلية أو العرقية. فالجميع مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات أمام
القانون، وهو الأمر الذي يدحض أي تفاوت أو
تمييز على أساس عرقي أو طائفي
أو قبلي، ويشعر الجميع بالولاء والانتماء لوطن مشترك، الجميع شركاء في
بناء حضارته، والجميع يستفيد من
عوائد تنميته. وفي هذا السياق، فلابد من الاستفادة من ثمار الفقه
الإسلامي الحديث المستنير الذي وضع نهاية للجدل
حول وضعية المسيحيين بالذات
في المجتمعات العربية، إذ اعتبر أن من المهم التوقف عن وصفهم بأنهم «أهل
ذمة« أو «ذميون« واعتبارهم
«مواطنين« كاملي الأهلية يتمتعون بحقوق المواطنة كافة، فالإسلام أقر
قاعدة ان أهل الذمة لهم ما لنا وعليهم ما
علينا، وأن مسألة «أهل الذمة«
أصبحت قضية تاريخية كانت مطروحة في صدر الإسلام لظروف أملتها ضرورات
آنذاك. أما اليوم، فحقوق المواطنة يتمتع بها
كل من يحمل جنسية وطنه بغض النظرعن ديانته مسلماً كان أم مسيحياً، كما أن
المسيحيين باتوا يؤدون خدمة
العلم أو الخدمة العسكرية
في جيش الوطن أسوة باخوانهم المسلمين في تحمل مسئولية الدفاع عن الوطن،
ولم يعودوا بحاجة الى «دفع
الجزية«، كما انهم يدفعون في المجتمعات التي تفرض الضرائب ما يتقرر عليهم
من ضرائب للدولة أسوة بباقي أفراد
المجتمع. وبالتالي فقضية أهل
الذمة أو دفع الجزية أصبحت مسألة منعدمة، ومن يصرون على إثارة المسألة
وفق هذا المنظور إنما يقدمون تفسيراً
غير واقعي وغير عصري للإسلام، ويصرون على مناقضة مفهوم «المواطنة«
الذي أضحى أساس بناء الوحدة الوطنية في المجتمعات المعاصرة.
ثانيا:
الديمقراطية والتعددية الثقافية فاحتواء مسائل الأقليات ينبغي ان ينطلق
من قاعدة أن التنوع الثقافي
والديني والمذهبي هو مقوم ثراء للمجتمع وليس عنصر ضعف، وفي إطار من
التسامح الفكري والديني والثقافي يستطيع
المجتمع تحقيق مقومات تعايشه الحضاري.
فالاعتراف بالاختلاف أو بالآخر المختلف ضرورة أملتها حكمة الخالق الذي
شاء الاختلاف بين الناس أولا،
وأملتها ضرورات الحياة في المجتمعات المتنوعة، فالدين لله والوطن للجميع،
والناس جميعا، إما أخوة في الدين أو أخوة
في الخلق، ولهذا فلا ينبغي ان
يكون الاختلاف في المعتقدات أو المنابت والأصول العرقية وإما القبلية
والاجتماعية عموماً حائلاً دون
التعايش الأخوي والإنساني والحضاري. فكل يؤدي دوره في بناء المجتمع على
قاعدة المواطنة، وتكفل الديمقراطية
الاعتراف بهذا التنوع الثقافي
وإدارة الحوار بين الجماعات المختلفة كافة في المجتمع، والسماح لها
بالتعبير عن هويتها
الثقافيةوالسياسية والدفاع عن حقوق المنتمين لها في إطار يكفله القانون
والممارسة الديمقراطية
بعيداً على أي قمع أو اضطهاد. وحين يشعر الجميع أنهم قادرون على التعبير
عن هوياتهم الثقافية ومطالبهم
الاجتماعية المتنوعة في إطار مجتمع
ديمقراطي حر، فسوف تزول تلك الشوائب التي تثير الحساسية وتولد الاحتقان
وتقود الى الشعور بالاغتراب عن المجتمع
أو عدم الانتماء الى الوطن، لأن الجميع يكونون قادرين على التعبير عن
هوياتهم ومطالبهم وأشواقهم بكل حرية
في مجتمع حر تعمه قيم التسامح
والتعايش الحضاري بين طوائفه وفئاته كافة.
ثالثا:
التنمية المتوازنة. وهي ضرورة تفرضها طبيعة المجتمعات التي تتسم بحالة من
التوزيع الجغرافي والتركز
السكاني لمجموعات معينة من السكان في أقاليم معينة، مثل حالة «جنوب
السودان« الذي تسكنه غالبية مسيحية وأقوام
وثنية، أو حالة الشمال الكردي في
العراق، أو المنطقة الأمازيغية «البربرية« في شمال الجزائر (منطقة
القبائل). فهناك حاجة ماسة، لأن تقوم سياسات
التنمية على ضرورة ان تحظى هذه الأقاليم التي تمثل بشكل أو بآخر تركزا
بشريا لأقليات سكانية بعينها
باهتمام تنموي يساوي «على الأقل«
ما تحظى به الأقاليم الأخرى التي تقطنها الأغلبية السكانية. وذلك، حتى لا
يقود الشعور بالحرمان أو
الأحساس بعدم العدالة أو الإنصاف في اقتسام الثروة أو توزيع عوائد
التنمية الى تغذية مشاعر التمرد أو الرغبة في
الانفصال عن الوطن الأم، والتي
عادة ما تستغلها القوى الأجنبية ذريعة للتحريض على التمرد والمطالبة
بالاستقلال. ولابد أن نعترف ان
الحكومات العربية فيما بعد الاستقلال لم تنتبه جيداً الى التداعيات
المتوقعة لهذه الاحتمالات، واتبعت سياسات
تنموية لا تتسم بالتوازن بين
الأقاليم، الأمر الذي راكم مع السنين شعوراً بالغبن الاجتماعي والاقتصادي
والتنموي قاد تالياً الى نزوع
للتمرد والانفصال (مثل حالة جنوب السودان) وأيضا «جنوب
لبنان« قبل الحرب الأهلية. ومن هنا، الأهمية البالغة لتلافي هذه الأخطاء
مستقبلاً وإعادة التفكير في
سياسات التنمية على نحو ديمقراطي متوازن إقليميا وعادل اجتماعيا، لأن هذا
هو السبيل لسد الذرائع أمام التدخلات
الأجنبية وبناء مجتمعات عربية
عصرية قادرة على تحقيق التكامل القومي والحفاظ على وحدتها الوطنية على
أسس حضارية وإنسانية وديمقراطية
سليمة.
http://alkashif.org/html/09/5/?nq=10