تاسعاً : المعارك التي خاضها العراق في العام الأخير للحرب : 1 ـ معركة تحرير الفاو : في عام 1988 ،العام الأخير للحرب ،تحول ميزان القوى مرة أخرى لصالح العراق ، وبدأ النظام العراقي يعد العدة لتحرير أراضيه من الاحتلال الإيراني ،وكان في مقدمة أهدافه ،تحرير الفاو، التي مضى على احتلالها 21 شهراً .
حشد النظام العراقي قوات كبيرة من الحرس الجمهوري ،ومعدات لا حصر لها ،كان من بينها 2000 مدفع ، ومئات الدبابات والمدرعات ،وبدأ الهجوم يوم 17 نيسان 988 ،واستطاعت القوات العراقية تحقيق انتصار ساحق على القوات الإيرانية ،بعد أن حولت المنطقة إلى كتلة من لهيب ودفع العراق حياة خمسين الفا من أبنائه ثمناً لتحرير الفاو .
*******
2 ـ تحرير المناطق المحيطة بمدينة البصرة : كان الهدف الثاني للنظام العراقي هو تحرير المناطق المحيطة بمدينة البصرة ،وإبعاد القوات الإيرانية عن المدينة ،التي كانت طيلة الحرب هدفاً لقصف المدفعية الإيرانية ، والهجمات المتتالية عليها بغية احتلالها ،ولذلك فقد ركز النظام العراقي جهد قواته إلى تلك المنطقة ،وخاض مع القوات الإيرانية معارك شرسة دامت ثلاثة أسابيع ،وتمكنت القوات العراقية بعدها من تحرير كافة المناطق المحيطة بالبصرة ،بعد أن قدم التضحيات الجسام .
3 ـ تحرير جزر مجنون : بعد أن فرغت القوات العراقية من تحرير الفاو كان أمامها الهدف الثالث ، الذي لا يقل أهمية عن الهدفين الأولين ،جزر مجنون ،التي تعتبر من أغنى المناطق التي تحتوي على احتياطات نفطية هائلة ،وقد تمكنت القوات العراقية بعد معارك عنيفة من تحريرها من أيدي الإيرانيين ، وإلحاق الهزيمة بالجيش الإيراني .
4
ـ تحرير المناطق الحدودية الممتدة من البصرة إلى مندلي : انتقلت القوات العراقية ،بعد تحرير جزر مجنون إلى ملاحقة القوات الإيرانية ،التي كانت قد احتلت فيما مضى مناطق على طول الحدود الممتدة بين البصرة في الجنوب ومندلي في القاطع الأوسط ،واستمرت في توجيه الضربات للقوات الإيرانية التي أخذت معنوياتها تتراجع يوماً بعد يوم ،واستطاعت القوات العراقية طردها من تلك المناطق ،ودفعها إلى داخل الحدود الإيرانية .
5 ـ اختراق الحدود الإيرانية من جديد : لم تكتفِ القوات العراقية من إزاحة القوات الإيرانية من الأراضي العراقية ،وإنما طورت هجماتها ،وأخذت تلاحق القوات الإيرانية إلى داخل الحدود ،واستمر تقدم القوات العراقية في العمق الإيراني إلى مسافة 60 كم،مما جعل القوات الإيرانية في موقف صعب للغاية ،وتنفس النظام العراقي الصعداء ،واستمر في ضغطه على القوات الإيرانية لإجبارها على القبول بوقف الحرب التي عجزت كل الوساطات عن إقناع حكام إيران بوقفها .
عاشراً :النظام العراقي يهاجم مدينة حلبجة الأسلحة الكيماوية : في ليلة 13 آذار 1988 ،بادرت القوات الإيرانية بالهجوم على مدينة حلبجة الواقعة في القسم الشمالي الشرقي من كردستان ،في سهل شهر زور ،بمساعدة قوات البيشمركة العائدة للحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني ،وكان النظام الإيراني يرمي من هجومه على المدينة التعويض عن هزائمه أمام القوات العراقية في القاطعين الجنوبي والأوسط ،ولرفع معنويات جنوده المنهارة بعد تلك الهزائم .
بدأت القوات المهاجمة بقصف المدينة بالمدفعية لمدة ثلاثة أيام ،ثم أعقبتها بالهجوم البري الذي دام يومين ،حيث استطاع الإيرانيون من احتلال المدينة في 15 آذار ، وتقهقرت القوات العراقية التي كانت متواجدة هناك تاركة أسلحتها ومعداتها في ارض المعركة وبدأ الإيرانيون يتحدثون عِبر وسائل إعلامهم عن انتصارات حققوها في منطقة حلبجة ،وبدأ المصورون يصورون القوات الإيرانية وهي تحتل المدينة .
أدرك الأهالي أن الأخطار تحدق بهم ،وأن النظام الصدامي سوف لن يدع القوات الإيرانية تحتل المدينة ،وكان أكثر ما يقلقهم هو إمكانية تعرضهم للضرب بالأسلحة الكيماوية ،ولذلك فقد حاولوا مغادرة المدينة وإخلائها ،لكن الإيرانيين منعوهم من ذلك .
لكن القوات الإيرانية لم تمكث في المدينة ،وبدأت تنسحب منها تاركة الأهالي ، وقوات البيشمركة فيها ،فقد توقعوا أن يشن النظام الصدامي الهجوم عليها بالأسلحة الكيماوية .
وفي صباح يوم 16 آذار حلقت 8 طائرات حربية عراقية فوق المدينة ،وبدأت بالقصف العشوائي ،مركزة على منطقتي [ السراي ] و[ كاني قولكه ] .
وبعد الظهر جاءت موجة أخرى من الطائرات لتقصف المدينة بكل أحيائها ،وكانت تستهدف كسر زجاج النوافذ للدور تمهيداً لقصفها بالسلاح الكيماوي،لكي تنفذ الغازات السامة في كل مكان ،ولكي تقتل أكبر عدد من المواطنين .
وفي الساعة الثالثة والربع من عصر ذلك اليوم جاءت موجة أخرى من الطائرات لتقصف المدينة بالسلاح الكيماوي ، مركزة القصف على أحياء [ بير محمد ] و[جوله كان ] و[ كاني قولكه ] [والسراي ]، ثم تلتها موجة أخرى من الطائرات بعد ساعة لتقصف المدينة من جديد ،مركزة القصف على كل أنحاء المدينة .
وتحدث أحد الناجين من تلك المجزرة البشرية ،التي ذهب ضحيتها اكثر من 5000 مواطن كردي ،أغلبهم من النساء ، والأطفال ،والشيوخ، فقال :
{في البداية سمعنا صوت انفجارات مدوية ،تلاها بعد خمس دقائق انتشار ما يشبه الضباب الذي راح يقترب من الأرض شيئاً فشيئاً ،وبدأت العيون تدمع وشعرنا بحرقة شديدة ،وكانت الرائحة أشبه برائحة البارود ،وتسرب الدخان الأبيض إلى كل المنازل ،والمخابئ ،وبدأ الناس يشعرون بالاختناق ،وتدافعت جموعهم للخروج نحو الخارج لتشم الهواء ،وكان الناس يصرخون كالمجانين ،ويضعون أيديهم على عيونهم ، وأنوفهم ،ثم يسقطون على الأرض ويأتون بحركات متشنجة ،ويتقيئون ،ويبصقون دماً ، وأصيبت عيونهم بالعمى ،وكانت أنوفهم وأفواههم تنزف دماً ،وقد ازرقت بشرتهم ،ثم بدأوا يفارقون الحياة ،وكنت أرى الجثث في الشوارع ،والطرقات وفي كل مكان ،وكان البعض منهم لا يزال ينازع الحياة ،وقد شوهتهم الحروق ،وبدت المدينة أشبه بمقبرة انتزعت الجثث فيها من قبورها ،وتناثرت على الأرض ،وقد استطاع البعض تصوير تلك المشاهد المرعبة التي تصف جرائم النظام الصدامي خير وصف }.
أحد عشر:العراق يكثف حرب الصواريخ لتركيع إيران،ونهاية الحرب : أخذ حكام العراق ،بعد أن تسنى لهم دفع القوات الإيرانية إلى عمق أراضيهم يضغطون على حكام إيران من أجل القبول بوقف الحرب ،وذلك عن طريق تكثيف حرب الصواريخ
لإحداث حالة
من الانهيار النفسي لدى الشعب الإيراني ،فقد كانت الصواريخ تنهال على طهران ،والمدن الإيرانية الأخرى بشكل متواصل محدثة خسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات ،وخلقت حالة من الهلع لدى الشعب الإيراني .
وفي ظل تلك الظروف صدر قرار مجلس الأمن رقم 579، والذي دعا إلى وقف القتال بين الطرفين وانسحاب القوات العسكرية إلى داخل حدودها الوطنية ،ووجد حكام إيران أنهم قد أصبحوا عاجزين عن مواصلة الحرب ،واضطر الزعيم الديني [ آية الله الخميني ] إلى إصدار أوامره بوقف الحرب في 18 تموز 1988 ،والقبول بقرار مجلس الأمن على مضض ،حيث أعلن الخميني أنه يشعر وهو يصدر أمره بوقف الحرب ،بأنه يشرب السم .
وهكذا توقفت الحرب بين العراق وإيران ،بعد مجازر رهيبة استمرت طيلة ثمان سنوات ،وذهب ضحيتها أكثر من مليون إنسان ،من كلا البلدين ،إضافة إلى آلاف المعوقين والأرامل واليتامى ،وتدمير اقتصاد البلدين ،وتخريب مرافقهما الاقتصادية .والأعظم من كل ذلك هو التأثير النفسي الذي تركته تلك الحرب المجرمة على أبناء الشعبين المغلوبين على أمرهما ،والتي لم يجنيا منها سوى الدماء والدموع .
اثنا عشر:النظام الصدامي يهاجم الشعب الكردي ( حملة الأنفال ) : لم يكد النظام الصدامي ينتهي من معاركه الخمسة مع إيران ،وتضع الحرب أوزارها ، حتى التفت إلى منطقة كردستان ، وقد امتلأ قلب صدام حسين حقداً على الأكراد فأصدر أوامره إلى قوات الحرس الجمهوري،بقيادة المجرم العريق [ علي حسن المجيد ] الملقب [ علي كيماوي ] حيث ارتبط أسمه باستخدام السلاح الكيماوي ضد أبناء الشعب الكردي .
ففي 20 آب 988 ، اليوم الذي جرى فيه إيقاف الحرب بين العراق وإيران اندفعت قطعان الفاشيين نحو كردستان مستخدمة في بداية هجومها السلاح الكيماوي في منطقة واسعة جاوزت 6000كم مربع أصابت معظم القرى الكردية في المنطقة الممتدة من كركوك وحتى أقصى حدود كردستان ،كما قامت الطائرات صباح يوم 26 آب ب24 غارة بالأسلحة الكيماوية على مدن وقرى عديدة في كردستان ، منها بابير ،وكه ركو ،وبليت ،وباروك، وزيوه ،وزيريج ،وبازيان ودهوك ، والشيخان ، والعمادية .وكانت الطائرات تتعقب الهاربين من جحيم الحرب ، كما شاركت الطائرات المروحية في مطاردتهم ، وبلغ عدد الفارين نحو الحدود التركية أكثر من 90 ألفاً وكان قسم منهم مصاباً بحروق جراء تعرضهم الأسلحة الكيماوية.
أعقب الهجوم البربري بالأسلحة الكيماوية اجتياح الحرس الجمهوري لكردستان ، حيث أكتسحت القوات الفاشية المنطقة مبتدئة بالقرى المحيطة بكركوك لتمسحها من الوجود ،وتتركها أكواما من الحجارة ،ولتفتك بأبناء الشعب الكردي بأسلوب رهيب ،لم تشهد له كردستان من قبل ،حيث لم يسلم من بطش القوات الغازية حتى الأطفال ،ولم تنجوا الجوامع والكنائس من همجية الفاشيين البعثيين .
لقد التُقِطتْ مكالمة هاتفية من علي حسن المجيد إلى قائد الفيلق الذي قاد الهجوم يقول له بالحرف الواحد: {لا تدع حتى الأطفال ، لأنهم سيكبرون غداً ويحملون السلاح ضدنا }.
وهكذا أباد الفاشيون ما يزيد على 180 ألف مواطن كردي ،دفنتهم الجرافات العسكرية في قبور جماعية مجهولة ،وبأسلوب وحشي يندى له جبين الإنسانية .
كما تم نقل أعداد كبيرة من الأكراد إلي المناطق الصحراوية في جنوب العراق بسيارات الحمل ،إمعاناً بإذلالهم ،ونُهبت ممتلكاتهم ومواشيهم .
ورغم كل الجرائم التي أقترفها النظام الصدامي باستخدامه السلاح الكيماوي ،ليس ضد القوات الإيرانية فحسب ،بل وضد الشعب الكردي كذلك فإن تلك الجرائم لم تحرك مجلس الأمن ،ولا حكومات الدول الغربية التي تتشدق بحقوق الإنسان ،وشجع موقفهم حاكم بغداد على الإيغال بجرائمه ضد الإنسانية .
وبإلحاح من حكومة إيران وشكواها بأن العراق قد استخدم السلاح الكيماوي المحرم دولياً ،اضطرت الأمم المتحدة إلى إرسال بعثة خبراء إلى طهران في 26 شباط 1986 للتحقيق في الشكوى وقد مكثت البعثة مدة أسبوع في طهران ،ثم رفعت تقريرها الذي أكد على أن العراق قد استخدم الغاز السام في الحرب ،واضطر مجلس الأمن إلى أن يصدر قراراً يدين العراق لأول مرة !!!،لكن ذلك القرار كان قد صيغ بشكل مائع ولم يؤدِ إلى إيقاف تلك الجرائم ،بل استمر النظام العراقي في استخدامها حتى نهاية الحرب .
غير أن الغرب صحا فجأة ، بعد عام 1989 ،بعد أن انتهت الحرب مع إيران ، وبدأ يتحدث عن تسلح النظام العراقي بأسلحة الدمار الشامل ،الكيماوية والبيولوجية والجرثومية والنووية ، فلقد تغيرت الحال بعد الحرب ،وخرج العراق منها منتصراً ولديه ترسانة ضخمة من الأسلحة تجعله خطراً داهماً على مصالحهم في الخليج ، ووجد الغرب أن الوقت قد حان لنزع هذه الترسانة الخطيرة من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والجرثومية ،والصواريخ البعيدة المدى والقادرة على حمل تلك الأسلحة إلى مسافات شاسعة ،وكان لابد وان يجد الغرب الوسيلة ،والمبرر لذلك ،كما سنرى فيما بعد .
التوثيق (1) حرب الخليج ـ أوهام القوة والنصر ـ محمد حسنين هيكل ـ ص136. (2) نفس المصدر السابق ـ ص 136 . (3) مذكرات الكولونيل أولفر نورث ـ مساعد مستشار الأمن القومي الأمريكي ـ تحت النار ، 1991 . (4) أوهام القوة والنصر ـ هيكل ـ ص134 (5) أوهام القوة والنصرـ ص138. (6)المصدر السابق ـ ص 129 (7) حرب الخليج ـ أوهام القوة والنصر ـ محمد حسنين هيكل ـ ص 152 (8)نفس المصدر السابق .ـ ص 157 المصدرhttp://www.safahat.150m.com/fa15.htm