الصناعة العسكرية في إطار العقيدة العسكرية الروسية الجديدة
لواء ركن متقاعد:حسام سويلم
فيما يتعلق بعلاقات روسيا بالإتحاد الأوروبي،
فأغلب الظن ألا تنضم روسيا إليه، فهي ليست مرشحة لعضويته، ولا تلتزم
معايير كوبنهاجن التي تحدد شروط الانضمام إلى الإتحاد الأوروبي، ومنها:
إرساء المؤسسات الديموقراطية، ودولة القانون، واقتصاد السوق، وفصل
السلطات، لذلك فان التحاق روسيا بالإتحاد الأوروبي في نظره يبعث الاضطراب
فيه أكثر مما قد يبعثه انضمام تركيا، وذلك رغم أن رابطة روسيا بالإتحاد
الأوروبي وثيقة متبادلة، حيث تعتمد أوروبا الوسطي ودول البلطيق والبلقان
على الطاقة الروسية من نفط وغاز. كما لا يستهان بحجم التبادل التجاري
وقيمته 233 بليون دولار بين روسيا والإتحاد الأوروبي،
كما أن المجتمع
الروسي منفتح على أوروبا، فالرحلات الجوية إلى أوروبا تنطلق من 10 مدن
روسية، وتعلم حوالي 10 مليون روسي اللغة الألمانية ونصف مليون روسي
اكتسبوا اللغة الفرنسية، وهو ما جعل القادة الروس ينظرون بارتياب إلى
الإتحاد الأوروبي، لاسيما بعد أن أدركوا تعاظم وتيرة الاندماج الاقتصادي
الأوروبي، وأن الرغبة في النموذج الأوروبي هي الغالبة في دول أوروبا
الشرقية، وأن الإتحاد الأوروبي لا يرمي إلى موازنة النفوذ الأمريكي؛ ومن
ثم لا ينظر إلى روسيا باعتبارها دولة غربية، بل ينظر إليها باعتبارها
نموذج يحتذي به في الأنظمة الديكتاتورية بدول آسيا الوسطي.
هذا في
النظرة الأوروبية لروسيا. أما نظرة القيادة الروسية لنفسها، فإنها بجانب
اعتمادها البعد الأوروبي داخل دائرة المجال الحيوي لروسيا، فضلا عن كون
أوروبا الشرقية خصيصاً تشكل “محيطها المباشر” كما سبق القول، فإن روسيا
تعتمد أيضا الأيديولوجية الأوراسية - أي الامتداد الآسيوي بجانب الامتداد
الأوروبي - باعتبار أن الجزء الأكبر من وسط وشرق روسيا يقع في القارة
الآسيوية، وعلى اعتبار أن لروسيا حضارة مستقلة تقوم على التنوع الداخلي
وعلى تاريخ طويل من التداخل مع شعوب آسيا. وهنا تدخل إيران كعاملي أساسي
في اللعبة الروسية، ليس فقط بسبب جوارها الجغرافي، ولكن لوجود امتدادات
عرقية ودينية من إيران داخل المناطق الجنوبية من روسيا، أما الأهم من ذلك
فهو أن إيران أصبحت تضرب وبشكل مباشر الاستراتيجية الأمريكية الكبري، وهو
ما يتمثل في التدخل الإيراني في العراق ومنطقة الخليج وأفغانستان، هذا رغم
أن روسيا لا ترحب بوجود إيران نووية على حدودها الجنوبية، كما تخشى انتقال
النفوذ الديني الايراني المتطرف إلى مناطق الشعوب الروسية المسلمة
الملاصقة لحدود إيران. ولكن رغم كل ذلك فإن روسيا تطمع من خلال تعاونها مع
إيران أن تصل بقواتها وقواعدها العسكرية إلى منطقة الخليج، وتنافس الوجود
العسكري الأمريكي هناك. لذلك ليس من المتوقع أن تتخلى روسيا عن إيران في
إطار أي صفقة كبري تعقدها مع الولايات المتحدة في اطار التنازل الأمريكي
عن نشر عناصر الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية.
3 - تأثيرات خفض الميزانية الدفاعية:(5)
تفقد
الميزانية الدفاعية الروسية 13 مليار دولار سنويا بسبب استشراء الفساد،
كما تسبب خفضها في انخفاض مستوى الكفاءة القتالية للقوات الروسية في جميع
أفرعها، ومن مظاهر ذلك:
أ- جعلت القوات النووية في حالة سيئة من
الكفاءة والقدرة حتى أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA حذرت في
عام 1997 من أن أنظمة القيادة والسيطرة للصواريخ متوسطة المدى وضعت بطريق
الخطأ في درجة استعداد قتالي قصوي عدة مرات منذ عام 1991، فلا يجري تحديث
للصواريخ ولا صيانة للأسلحة النووية ولا صيانة لأنظمة القيادة والسيطرة
وتشفير هذه الأسلحة، وهو ما حذّر منه وزير الدفاع السابق رودينوف عدة مرات
في 1996، 1997، ووزير الدفاع الحالي ايجور سيرجيف، ورغم أن القوات النووية
الروسية كانت السبب في تصنيف روسيا دولة عظمي، فإنه تم خصم30-35? من
ميزانيتها وتحصل على 64? فقط من الميزانية الدفاعية.
ب- الأسراب الجوية للقاذفات بعيدة المدى بها 40 قاذفة من 68طراز TU-95 في حاجة لإصلاحات رئيسية.
جـ- تم تمديد عمر الصواريخ 3 مرات.
د- تقادم الأسلحة التقليدية وعدم تحديثها.
هـ- ضعف التمويل المخصص للإصلاح.
و- ضعف التمويل للبحث والتطوير.
ز- يوجد 650 مقاتلة ميج 29 عاجزة عن الإقلاع لضعف الصيانة والإصلاح
حـ- توجد مشكلات في الغواصات، حيث يوجد غواصتان داورية صالحة من بين 26 غواصة.
ط- وبالنسبة للصواريخ الاستراتيجية يمكن فقط تحريك كتيبة واحدة بها 9 قواذف من بين 350 قاذف إلى مسرح العمليات.
ي-
طياروا القاذفات الاستراتيجية لا يتجاوز عدد ساعات طيرانهم التدريبية 20
ساعة في العام مقارنة بمئات الساعات في الأسراب الأمريكية المماثلة.
ك- تهالك مراكز القيادة والسيطرة المسؤولة عن الأسلحة الاستراتيجية.
ل- ضعف أنشطة مراكز البحث العلمي ومعامل تصميم الأسلحة النووية.
م-
تهالك هيكل الاتصالات الذي يستخدم في إرسال كود تشغيل الصواريخ
الاستراتيجية، حيث أصبحت جميعها متهالكة ومعداتها عفى عليها الزمن، حتي أن
الحقيبة النووية التي تصاحب الرئيس الروسي دخلت مرحلة يتعذر معها الإصلاح.
ن- سقوط مقاتلة ميج - 29 في حرب جورجيا، لذلك حرصت روسيا على شراء طائرات بدون طيار من إسرائيل.
س-
ضعف المرتبات وسوء الأحوال المعيشية للجنود، مما أدي إلى ارتفاع نسبة
الهروب من الخدمة، وعدم تلبية أوامر التجنيد، وسرقة الذخائر والأسلحة وحتى
المواد النووية، وتعاطي المخدرات والتجارة فيها، وزيادة حالات اغتصاب
النساء العاملات في الجيش، وبروز حالات تمرد عسكري في عدد من الوحدات. وقد
انعكس كل ذلك بوضوح في الأداء القتالي السيئ للقوات الروسية خلال حرب
جورجيا، وسبق ذلك إسقاط أعداد كبيرة من المروحيات المتقادمة في الشيشان،
وكان يجري تفكيك 20 مروحية لإصلاح مروحية واحدة أثناء الحرب قادرة على
التحليق إضافة إلى الكوارث الجوية والبحرية والأرضية الناتجة عن تقادم
المعدات والطائرات والسفن والغواصات.
وفي دراسة أجراها (روس بلير) رئيس
مركز معلومات الدفاع، أوضحت أبعاد التخلف العسكري الروسي بسبب الانهيار
الاقتصادي، وقد لخص الموقف في الآتي: عدم قدرة القوات المسلحة الروسية على
آداء مهامها الاستراتيجية مثل الاستطلاع الجوي، والدفاع الفضائي، والدفاع
عن الأراضي الروسية في حالة تعرضها لاعتداء خارجي، وعدم المحافظة على
الترابط الداخلي، والاستثناء الوحيد هو في قوة الردع النووي، ولكنها
بدورها تعاني من تخلف اجراءات الأمان مما يعرضها لحوادث عديدة، خاصة في
ضوء تخلف وسائل القيادة والسيطرة والانذار المبكر، وتآكل شبكة أقمارها
للاستطلاع والانذار، وعدم القدرة على إصلاحها أو استبدالها بنظام انذار
مبكر حديث. كما أن روسيا غير قادرة على مواكبة التقدم التكنولوجي في
الولايات المتحدة وأوروبا - خاصة في المقاتلات الحديثة مثل المقاتلة
الأمريكية F-22، ولا على مواجهة الدرع الصاروخي الأمريكي، وأن 1/3 ثلث
المقاتلات الروسية يجب التخلص منها لتقادمها، وعجز البحوث والتطوير في
روسيا حتى اليوم عن الوصول إلى تقنية الإخفاء (ستيلث).
هذا إلى جانب ثلاث مخاطر استراتيجية:
أ-
فقدان الكفاءة النوعية داخل الجيش (الجيش الفارغ) خاصة في مجالات القوات
الميكانيكية والمحمولة جواً والتي تجمدت منذ عام 1992، خاصة بعد أن فشل
اعتماد روسيا في حرب الشيشان على قوات الحدود والشرطة الداخلية اللذان
أظهرا ضعفا شديداً.
ب- سقوط العتبة النووية، وبذلك تفقد روسيا الخيارات
الاستراتيجية بين العمليات منخفضة الحدة، والرد النووي الكامل، ومع التزام
الدولة بعدم شن الضربة الأولى، فإن المرونة ستصبح صعبة في استخدام السلاح
النووي.
جـ- السخط العسكري من جانب الأفراد مما أدى إلى شيوع حالات خطيرة من عدم الانضباط.
4- تأثيرات الحرب في القوقاز (جورجيا):(6)
فرضت
الأزمة الجورجية التي وقعت في أغسطس 2008 وقائع جديدة في المنطقة والعالم،
كان لها تأثير مباشر في تعديل العقيدة العسكرية الروسية الجديدة التي
صاغها بوتين عام 2000م. فبعد أن انقشع غبار المعارك العسكرية التي جرت فوق
أرض جورجيا بين القوات الروسية من جانب والقوات الجورجية من جانب آخر،
بدأت تنكشف حقائق مهمة أبرزها أن الميدان الحقيقي للصراع لم يكن أرض
جورجيا وحدها، بل هو أكبر من ذلك بكثير، وهو بالتحديد ميدان المصالح
الخاصة بروسيا الاتحادية من جانب في مواجهة مصالح الولايات المتحدة
وحلفائها الغربيين من جانب آخر، وهو ميدان لا يشمل العالم بأسره فقط بل
ويشمل الفضاء أيضا، وحيث بدأ كل طرف في تحريك ما لديه من قطع وأوراق على
كافة الميادين أملاً في تحقيق مصالحه وتأمينها من أطماع الطرف الآخر.
ورغم
العيوب ونقاط الضعف الكثيرة التي تكشفت لآداء القوات المسلحة الروسية في
هذه الحرب باعتراف قادتها، سواء ما يتعلق منها بضعف القوات الجوية التي
سقطت منها مقاتلتان، وعدم وجود تعاون بين القوات الجوية والقوات البرية
العاملة على الأرض، وضعف المناورة وقوة الصدمة في القوات المدرعة الروسية
مما كبدها خسائر كبيرة ، وسوء الإمداد اللوجيستي للوحدات المقاتلة خارج
الحدود الروسية.. إلي غير ذلك من السلبيات، وهو ما واجهته القيادات
العسكرية الروسية بصراحة وعملت بعد ذلك على تلافيه عند تعديل العقيدة
العسكرية الروسية، لاسيما فيم يتعلق بالتطوير التقني لأنظمة التسليح
وأساليب استخدامها القتالي. إلاّ أن هذه الحرب حققت عدة مكاسب استراتيجية
لروسيا فرضت نفسها بعد ذلك كركائز للعقيدة العسكرية الروسية المعدلة،
وأبرز هذه المكاسب الآتي
أ- استعادة روسيا عناصر القوة التي فقدتها عند
مطلع تسعينات القرن الماضي، ولم تعد دولة مريضة عسكريا واقتصاديا ومضطرة
بالقبول بما تعرضه علىها الولايات المتحدة المنتصرة في الحرب الباردة، كما
أعادت ثقة الروس في أنفسهم وأمنهم وقدراتهم، مؤكدة أن دائرة المجال الحيوي
لروسيا حاليا في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطي، لا تقل أهمية عن ذلك الذي
انتزعه الإتحاد السوفييتي السابق بعد الحرب العالمية الثانية، وأنها تمتلك
عناصر القوة لحماية هذا المجال. وأن عودتها كلاعب دولي فاعل في الخريطة
الجيوسياسية العالمية ليس من منظور قومي تقليدي أو أيديولوجي كما كان في
السابق، وإنما انطلاقا من رؤية واقعية لمصالحها الحيوية، وحضور قوي في
الفضاء الأوروآسيوي، محددة لخصومها الخطوط الحمراء التي علىهم عدم
تجاوزها، وإذا ما حدث العكس فإنها لن تتردد في استخدام القوة لإعادة الدول
المجاورة المتحالفة مع الغرب وأمريكا إلى حظيرتها، وأنها لن تسمح لأحد أن
يلعب في حديقتها الخلفية.
ب- كسر الهمينة الأمريكية الأحادية، حيث
أظهرت الأحداث أن الحصن الأمريكي المتقدم في القوقاز (حيث جورجيا
وأوكرانيا) بات محاصراً، وأن إعادة ترميم هذا الحصن غير ممكن من دون
مشاركة روسية، لاسيما وأن رد الفعل الأمريكي كان ضعيفا جداً في مساندة
جورجيا وأوكرانيا، وليس باستطاعتهما ولا غيرهما في دائرة المجال الحيوي
الروسي أن يعولوا بعد ذلك على دعم أمريكي فاعل في مواجهة روسيا. وهو ما
يعني ضمنيا أن عهد القطب الواحد قد انتهي، وأن نظاما دوليا جديدا يفرز
بقيادة روسيا، وأن الرادع الأمريكي فقد بريقه، ولم تعد الولايات المتحدة
قادرة على التفرد بشؤون العالم عموما وشؤون المنطقة الروسية خصوصا،
وبالتالي باتت أمام خيارين: إما التصرف على أساس أن خياراتها محدودة
ومكلفة، وأما التصعيد في مواجهة التصعيد، وهنا سيكون الرد الأمريكي قاسيا
حتي لا يتوهم أحد أن النمر الأمريكي الجريح قد استسلم لقدره وقبل بالهزيمة
والانزواء. وكما استعرضت روسيا قواها في جورجيا، فلابد أن تستعرض أمريكا
في المقابل عضلاتها في مكان آخر وليكن الشرق الأوسط، وأن استقواء روسيا
بإيران في المنطقة خطر لا تقبله أمريكا، فكل ما يضعف موسكو مطلوب، وإضعاف
طهران جزء من إضعاف موسكو. من هنا نفهم الاصرار الأمريكي والإسرائيلي على
منع تزويد روسيا لإيران بأنظمة تسليح متقدمة أبرزها النظام الصاروخي S-500
المضاد للصواريخ.
جـ- قلق أوروبا من تصاعد قوة روسيا المتواجدة في عقر
دارها، لذلك لن تجرؤ الدول الأوروبية على تحدي روسيا، كما أثارت الحرب على
جورجيا مخاوف أوروبية من أن تستخدم روسيا سلاح النفط والغاز للتأثير على
محيطها الإقليمي. وأن أي عمل روسي ضد أوكرانيا (الدولة الاستراتيجية
بالنسبة لامدادات الطاقة الروسية)، سيشكل كارثة حقيقية للعديد من الدول
الأوروبية، خصوصا في ظل عدم اتفاق حلف الناتو على مقاربة موحدة لكيفية
الرد على العمليات العسكرية الروسية في جورجيا.
د- بروز دور روسي فاعل
في الملف الإيراني، سواءً من حيث المفاوضات على حل المشكلة في إطار نقل
عمليات تخصيب اليورانيوم من إيران إلى روسيا ثم فرنسا وعودته كوقود نووي
إلى إيران لتستخدمه في مفاعلاتها النوويه تحت إشراف الوكالة الدولية
للطاقة النووية. أو فيما يتعلق بفرض عقوبات من مجلس الأمن على إيران إذا
ما أصرت على موقفها باستمرار عمليات التخصيب على أراضيها، حيث تلزم موافقة
روسيا على ذلك منعا لاستخدامها حق الفيتو الذي تتمتع به هي والصين وكلاهما
على علاقات اقتصادية جيدة مع إيران.
هـ- الوجود الأمريكي في كل من
العراق وأفغانستان، حيث أدت التطورات في جورجيا إلى سرعة سحب القوات
الأمريكية من العراق، وتركيز الجهود الأمريكية في أفغانستان وباكستان حيث
يعمل تنظيم القاعدة الإرهابي وطالبان من المناطق الحدودية للبلدين للسيطرة
على أنظمة الحكم فيهما، والخوف الأمريكي والروسي من سقوط الترسانة النووية
الباكستانية في أيدي منظمات دينية متطرفة (طالبان الباكستانية) المتعاونة
مع القاعدة. ناهيك عن ضرورة التعاون بين أمريكا وروسيا لنقل امدادات قوات
الناتو العاملة في روسيا عبر الأراضي الروسية بعد أن قطعت طالبان طرق
الإمداد من ميناء كراتش الباكستاني.
و- المأزق التركي في القوقاز، حيث
يمر خط أنبوب النفط من باكو إلى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط عبد
تيليس في جورجيا، وأي عمليات عسكرية في هذه المنطقة ستهدد نقل النفط عبر
هذا الخط، ولأن المواجهة في هذه المنطقة بين أمريكا وروسيا منفتحة على
جميع الاحتمالات، فإن تركيا - باعتبارها عضو في الناتو - مطالبة بأن تحدد
موقفها من الصراع ولأي الأطراف ستنحاز، وتحديد استراتيجيتها في منطقة
القوقاز.
ز- القلق الإسرائيلي نتيجة انعكاسات الأزمة الجورجية على
المنطقة، فبجانب ثبوت الدور الإسرائيلي في تسليح وتدريب قوات جورجيا، وهو
ما سبب توترا في العلاقات الإسرائيلية الروسية، وكان مجال مساومة بين تل
أبيب وموسكو على أساس أن توقف إسرائيل تسليح جورجيا مقابل أن تمتنع روسيا
عن تسليح إيران بنظام الدفاع الجوي والصاروخيS-300، إلا أن هذه الأزمة
الجورجية أفرزت قلقا لدي إسرائيل من تراجع الدور الأمريكي وصعود النفوذ
الروسي، ومدى التزام واشنطن بمساندة ودعم حلفائها وأصدقائها وعلى رأسهم
بالطبع إسرائيل، وهو ما انعكس في نكوص إدارة بوش عن مساندة صديقتها جورجيا
في هذه الأزمة، وعلى عكس ما توقع واعتقد رئيس جورجيا ميخائيل سكاشفيللي.
ح-
حشد روسيا لحلفائها، وهو ما انعكس منذ بداية الأزمة بلقاء بوتين زعماء
آسيا الوسطي في دوشانيية عاصمة طاجيكستان في 28/8/2008م، حيث عقد مؤتمر
قمة دول منظمة شنغهاي للتعاون، والتي تضم: الصين وكازاخستان، قارجيزيا،
طاجيكستان، أوزباكستان، بالإضافة لوجود قادة كل من إيران والهند
وأفغانستان وممثلين عن باكستان ومنغوليا التي تتمتع دولهم بصفة مراقب في
هذا المؤتمر. وقد جاء التحرك الروسي في حشد التأييد السياسي من دول الجوار
في المقام الأول استعداداً للدخول في مواجهة سياسية دبلوماسية تجارية مع
الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وضمان وقوف دول الجوار في الجنوب
الروسي (جمهوريات آسيا الوسطي) إلى جانب روسيا عند نشوب مواجهة مع الغرب
مع تحقيق مزيد من الاقتراب الروسي من مناطق وجود القوات الأمريكية وقوات
الناتو في أفغانستان والعراق، ومواجهة احتمالات تشجيع أمريكا للحركات
الانفصالية داخل روسيا - مثل الشيشان - ذات حدود مشتركة مع جورجيا. هذا
بالإضافة إلى تأمين طرق التجارة البرية والبحرية لروسيا مع العالم
الخارجي، بعد أن تسللت قطع بحرية تابعة للناتو والولايات المتحدة إلى بحر
البلطيق في الشمال والبحر الأسود في الجنوب، ووجود مضيق البوسفور في يد
تركيا العضو البارز في الناتو، ووجود حالة من عدم الاستقرار في علاقات
روسيا مع أوكرانيا بسبب سعي الأخيرة للانضمام للناتو، مما يهدد بمنع القطع
البحرية الروسية من استخدام ميناء سيفاستيبول أحد أبرز موانئ البحر الأسود
في حال نشوب مواجهة مسلحة. ومع تعزيز التحالف الروسي مع الصين، يمكن
لروسيا الاعتماد على الصين في استخدام الفيتو معها في منع صدور أي قرار من
مجلس الأمن بفرض عقوبات على روسيا، فضلا عن كون الصين أصبحت مصدراً مهما
للتكنولوجيا المتقدمة في شرق آسيا، ولا تستطيع الدول الأوروبية وأمريكا أن
يحجموا أنشطتها في تقديم المساعدات التقنية لروسيا مستقبلا إذا ما احتاجت
الأخيرة إليها. هذا فضلا عن تأمين مخزون لروسيا من المواد الغذائية التي
تعد دول آسيا الوسطى من أبرز المنتجين لها.
5- تأثير البعد الاقتصادي(7)
منذ انهيار الاتحاد
السوفييتي السابق استثمرت روسيا الجزء الأكبر من ميزانيتها الدفاعية في
صيانة أسلحتها النووية في حين أهملت قواتها التقليدية، حيث أصبح الصدأ
يأكل الجزء الأكبر من أسطولها التجاري في الأحواض الجافة، وتملك حاملة
طائرات واحدة مقارنة بـ12 حاملة طائرات أمريكية. أما القوة البشرية
العسكرية 1.2 مليون فرد حاليا - وهو ربع (1/4) ما كانت علىه عام 1986 -
فان معنوياتها منخفضة ويسودها عدم الانضباط وضعف الكفاءة القتالية.
ولإصلاح هذا الوضع جمع بوتين خلال 9 سنوات حوالي 600مليار دولار من مبيعات
النفط والغاز لحل المشاكل الاقتصادية للدولة أولا ثم مشاكل القوات المسلحة
التي تحتاج إلى أموال طائلة. هذا في حين يبلغ حجم الاقتصاد الروسي
1.3تريليون دولار، وهو ما يوازي تقريبا حجم الاقتصاد المكسيكي أو
البرازيلي، ومتأخر عن حجم الاقتصاد الصيني الذي يبلغ 3.3تريليون دولار،
والاقتصاد الأمريكي 15 تريليون دولار.
مما لاشك فيه أن روسيا استفادت
كثيرا من ارتفاع أسعار الطاقة منذ عام 2003، وقد انعكس ذلك في تطورها
الديناميكي في المجال الاقتصادي، وبما كان له انعكاسا إيجابيا على الصعيد
العسكري. ففي عام 2005 نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6.4? وانخفض معدل
التضخم من 11.7? عام 2004 الي 10.9? عام 2007 (قبل نشوب الأزمة الاقتصادية
العالمية في عام 2008)، وارتفع حجم الانتاج الصناعي في البلاد بنسبة 4? ،
وبلغ حجم انتاج النفط 496.6 مليون طن سنويا مسجلا بذلك زيادة تصل إلى 2.2?
مقارنة بمؤشر انتاج عام2004، كما وصل حجم النفط المباع في الأسواق المحلية
الروسية الى 207.4 مليون طن، وازداد هذا المؤشر مقارنة بعام 2004 بنسبة
6.2? حيث بلغ معدل الإنتاج اليومي للنفط 10 مليون برميل يوميا، وارتفع حجم
الاستثمارات الأجنبية المتراكمة في الاقتصاد الروسي إلى 100 مليار دولار.
وكان
من نتيجة هذه الطفرة الاقتصادية أن انخفض حجم ديون روسيا الخارجية في عام
2005 بنسبة 28? وبلغ 81.4 مليار دولار. وتقلصت نسبة الديون الخارجية
المستحقة على روسيا إلى الناتج القومي الإجمالي من 23? الى 14.8? كما بلغ
حجم احتياطي العملة الحرة في البنك المركزي الروسي 500 مليار دولار. ويرجع
هذا النمو الاقتصادي إلى وضع خطة استهدفت تحقيق استغلال شامل للثروات
الطبيعية في روسيا وتحسين إدارتها واستخدامها تحت إدارة مركزية قوية.
وإذا
كان إجمالي الناتج القومي للولايات المتحدة - القوة الاقتصادية الأولي في
العالم قد بلغ 15 تريليون دولار، وميزانيتها الدفاعية هي الأضخم في العالم
- وصلت في عام 2010 إلى 680 مليار دولار - في حين لا تتجاوز ميزانية روسيا
الدفاعية 40 مليار دولار. وبينما تحتل الولايات المتحدة المركز الأول في
مبيعات الأسلحة في العالم، حيث وقَّعت اتفاقات أسلحة تبلغ قيمتها 37.8
مليار دولار في عام 2008 بنسبة تقدر بنحو 68? من جميع الأعمال التجارية في
سوق السلاح العالمي، فإن روسيا تأتي في المرتبة الثالثة من حيث مبيعات
السلاح برصيد 3.5 مليار دولار بعد إيطاليا التي احتلت المركز الثاني (3.7
مليار دولار مبيعات)، وهو ما يمثل انخفاضا بشكل كبير في مبيعات روسيا بعد
تحقيقها 10.8 مليار دولار مبيعات أسلحة في عام 2007. وهو ما فسره
المراقبون بأنه نتيجة انخفاض المستوى التكنولوجي للصناعة العسكرية الروسية
بوجه عام، الأمر الذي برز في عيوب صفقة طائرات ميج 29 مع الجزائر وسقوط
أعداد من هذا النوع من المقاتلات في سيبيريا وجورجيا، كما لم تعد روسيا
تعطي تسهيلات في الدفع كما كان الحال في السابق بعد خصخصة معظم الصناعات
العسكرية، والاهتمام الروسي بالتركيز على تطوير الصواريخ البالستية عابرة
القارات ومتوسطة المدى لمواجهة الدرع الصاروخي الأمريكي، وعدم تخصيص أموال
كافية للبحث والتطوير في مجال الأسلحة التقليدية، مع إصرارها على بيع
مخزوناتها من الأسلحة المتقادمة.
وبرغم هذه العيوب وأوجه القصور فإن
التنبؤات تشير إلى أن روسيا هي القوة القادمة، حيث يدعم قوتها الاقتصادية
مخزون ضخم من النفط والغاز في وقت تمثل فيه الطاقة القوة (النفوذ) وهو ما
تفتقر إليه الولايات المتحدة، حيث لا يزيد احتياطيها من النفط عن 22 مليار
برميل، وتستورد 51? من احتياجاتها النفطية، ولذلك فهي متعطشة باستمرار
للطاقة، ويفسر وجودها العسكري في مناطق إنتاج الطاقة مثل منطقة الخليج
وسعيها إلى تواجد عسكري في آسيا الوسطى وبحر قزوين.
وكان لهذا الإزدهار
الاقتصادي الروسي، انعكاسات إيجابية لم تقتصر فقط على الاستقرار السياسي
الداخلي، ولكن أيضا في زيادة النفوذ والتأثير السياسي الخارجي لروسيا،
خصوصا في الدائرة الإقليمية المحيطة بها. حيث تجنب كثير من الدول
الأوروبية اغضاب روسيا حتي لا توقف إمدادات الغاز الطبيعي الروسي لها. ومن
هنا يمكننا أن نفهم مغزى التذبذب في المواقف الأوروبية تجاه قضية استقلال
كوسوفو، خاصة بعد أن أثار انضمام دول بحر البلطيق الثلاثة وبعض دول أوروبا
الشرقية للناتو غضب روسيا، بعد أن كانوا في الماضي جزءاً من حلف وارسو
الذي كانت تتزعمه روسيا قبل تفكك الإتحاد السوفيتي مما أدى إلى تقلص نفوذ
روسيا في هذه المناطق. وهو ما ردت على روسيا بعد ذلك بإجراء مناورات
عسكرية ضخمة استخدمت فيها كثير من الأسلحة الاستراتيجية في مناطق مختلفة
من العالم، كما بدأت في تطوير أنظمة أسلحتها التقليدية. ففي عام 2008 أجرت
أكبر مناورة عسكرية لها في المحيط الأطلنطي بعد غياب دام ربع قرن، ناهيك
عما سبق الإشارة إليه من مناورات بحرية وجوية في شرق البحر المتوسط وفي
البحر الكاريبي، واستمرار مرابطة قواتها في مناطق من الإتحاد الروسي
تتواجد بها نزعات انفصالية مثل الشيشان وداغستان وأوسيتيا الشمالية
الجنوبية شمال جورجيا، وفي أبخاريا، وترانسفيري، ومولدافيا. كما حلقت
قاذفتان إستراتيجيتان من نوع (توبولوف MS-95) فوق المحيط المتجمد الشمالي
قرب آلاسكا في منطقة الحدود مع الولايات المتحدة لمدة 10 ساعات، وتكرر
الأمر مرة أخرى بقاذفتين من نفس الطراز فوق المحيطين الهادي والأطلنطي.
كما منح رئيس فنزويلا تشافيز روسيا قاعدة عسكرية في مطار بجزيرة آرتشيل
ليكون قاعدة مؤقته لسلاح الجو الروسي. كذلك درست روسيا إعادة استخدام
المطارات الكوبية لهذا الهدف الردعي ضد أمريكا، حيث يتواجد في كوبا أربعة
مطارات مجهزة بممرات إقلاع وهبوط بطول 4000كم - تسمح باستخدام القاذفات
الاستراتيجية الروسية بعيدة المدي، كما بدأت عملية مفاوضات مع سوريا
لاستخدام ميناء طرطوس، وليبيا لاستخدام ميناء طرابلس، واليمن لاستخدام
ميناء سوقطرة للحصول على تسهيلات بحرية لأسطولها في شرق البحر المتوسط
والمحيط الهندي، وهو ما يعد توسعا جيوسياسيا لروسيا على النطاق العالمي.
1- نظرة عامة:(8)
أقرت روسيا عقيدتها العسكرية
اجديدة في عام 2000 مستندة إلى التغيرات التي طرأت على العالم خلال
السنوات التي أعقبت انهيار الإتحاد السوفيتي، لكن التطورات المتلاحقة منذ
ذلك العام أجبرت الروس على إعادة النظر في أولوياتهم. وفي حين كان
الكرملين يشدد خلال الأعوام الأربعة الأولى من القرن الحالى على أن روسيا
تواجه خطر الدخول في نزاعات مسلحة مع أي طرف أو دولة في العالم، فإن خطاب
المسؤولين الروس تغير بشدة خلال العامين الآخيرين. فمع المحافظة على
استراتيجية “عدم الدخول في صراعات، أو الانحياز إلى طرف إقليمي ضد طرف
آخر”، فإن السياسيين عادوا إلى الحديث عن ضرورة الاستعداد لمواجهة أي
تهديد للأمن القومي الروسي، وبرزت للمرة الأولى مسألة استعداد القوات
الروسية لتوجيه ضربات استباقية ضد أعداء محتملين، فلا يكاد يخلو خطاب
للرئيس بوتين أو أحد أعوانه من الإشارة إلى مسألة ارتفاع سخونة التوتر في
العالم، وميل أطراف إلى استخدام القوة لحل النزاعات، ما يعتبر تهديدا
مباشرا للأمن وسببا لتحديث العقيدة العسكرية الروسية في مواجهة كل
الاحتمالات.
وقد وقّع الرئيس بوتين مرسوما يعتمد العقيدة العسكرية
الجديدة التي أقرها مجلس الأمن القومي الروسي والتي تسمح باستخدام الأسلحة
النووية - كاختيار أول - لصد أي هجوم محتمل، بالإضافة لامكانية استخدامها
في حالة فشل جميع الوسائل الأخرى في تسوية أي أزمة. هذا بالإضافة للجهود
التي تبذلها روسيا حاليا لتدعيم الدرع الصاروخي الموجود حاليا حول موسكو،
ومناقشة توسيعه ليشمل المناطق الاستراتيجية المهمة في روسيا لمواجهة
احتمالات الضربة النووية الأولى من قبل الولايات المتحدة، وزيادة قدرة
روسيا على رفع درجة استعداد مئات الصواريخ العابرة للقارات في دقائق
لتوجيه الضربة الثانية، وتعويض الصواريخ التي يحتمل أن ينجح نظام الدفاع
الصاروخي الأمريكي في اعتراضها، هذا فضلا عن تحديث المنظومة النووية
الاستراتيجية، وتحويلها إلى أسلحة فضائية نووية استراتيجية ترتبط عضويا
بتشكيلات الأسلحة الأخرى التقليدية في البر والبحر والجو.
ولتوضيح هذه
الفكرة قال أحد المحللين الاستراتيجيين الروس: “ان قيام واشنطن مثلا
بتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران، يمكن أن يسفر عن توسيع دائرة المواجهة لتشمل
بالإضافة لإيران بلدان أخرى مثل أذربيجان، وبما يعني التهديد باندلاع حرب
إقليمية تصيب شظاياها المناطق الجنوبية لروسيا”. لذلك ينبغي على روسيا في
البداية العمل على تفعيل سياستها العسكرية، واتخاذ اجراءات تبدأ باعتماد
عقيدة عسكرية جديدة لتصل إلى اعتماد سياسة دبلوماسية أكثر نشاطا وانفتاحا،
إلى جانب تنشيط العلاقات الاقتصادية، والالتفات إلى عنصر تجاهله الروس
طويلا وهو الإعلام، مع توحيد التحديات العسكرية وغير العسكرية في ملف واحد
وتسميته بـ”العقيدة الدفاعية”.
وبالاضافة للعقيدة العسكرية تتداول
الأوساط السياسية والعسكرية الروسية ما يعرف بالعقيدة السياسية، وهي
تتمحور حول الدور الذي يمكن أن تلعبه روسيا في المستوى الاقليمي، حتى لو
اقتضى الأمر استعمال القوة العسكرية لحماية ثروتها الاقتصادية، حيث يشهد
الاقتصاد الروسي نمواً ملحوظا في السنوات الأخيرة، وتشرف على ذلك مؤسسات
مختلفة في البلاد، مما يتطلب تنسيقا كبيرا واستعداداً أكبر للتدخل عند
الحاجة استجابة لمتطلبات الأمن القومي في بعده الاستراتيجي، ويشرف على
تنفيذ هذه السياسة مجلس الأمن القومي الروسي.