الجزء الثاني :
فعندما تعلم اسرائيل اننا قد كشفنا امر الجاسوس رفيع المستوي ، الذي سرب موعد الصفر ومع خطة الايحاء بالتأجيل التي ستقوم بها المخابرات العامة لن يكون امام الاسرائيليين سوء اتخاذ اجراء من اثنين .
أما ان ترفض الاقتناع بفكرة التأجيل وتواصل تحركاتها لدرء الخطر ومنع محاولة عبور قناة السويس.
أو تقتنع برغبة المصريين في تأجيل المواجهة فتهدأ قليلا في عملية رفع حالة الطوارئ واستدعاء الاحتياط خاصة أن اليوم يوافق عيد الغفران احد أهم الاعياد اليهودية عبر العام ..
أي انه وفي كل الاحوال لن تتوقع اسرائيل هجوما مصريا سوريا قبل السادسة مساء ...
وستضع جدولها وخطتها كلها بناء علي هذا الاحتمال خاصة انه من المنطقي في كل الحروب والمواجهات المباشرة الا يحدث الاقتحام الشامل الا مع اخر ضوء للشمس أو أول خيوط الفجر ..
وهذا يعني ان اسرائيل لن تتوقع ابدا هجوما مبكرا ..
وكان الاقتراح عبقريا بحق وبكل المقاييس ..
وفي الوقت الذي انصرف فيه مدير المخابرات العامة عائدا الي رجاله لتنفيذ الخطة المتفق عليها كان الرئيس السادات مع قاده جيشه وأركان حربه يعيدون دراسة الموقف كله لتحديد موعد الهجوم المبكر .
وفي المخابرات العامة وفور وصول المدير اجتمع فريق من الرجال علي أعلي مستوي في حجرة الاجتماعات الرئيسية لمواجهة هذا التحدي الجديد ..
والمدهش أن المفاجأة علي الرغم من عنفها بالنسبة لكل المسئولين كانت احد الاحتمالات النادرة التي وضعتها المخابرات العامة المصرية وهي تعد خطة الخداع الكبري منذ البداية ..
أن ينكشف الامر في اللحظات الاخيرة ...
فلآن طبيعة عمل المخابرات تعتمد علي عدم ترك اية ثغرة او اغفال اي احتمال مهما بلغت صعوبته او استحالته فقد وضع الرجال هذا الاحتمال المخيف في حساباتهم واستعدوا لمواجهته علي نحو ما ...
ففي قلب اسرائيل كان لديهم ايضا جاسوس رفيع المستوي يعمل في مكان بالغ الحساسية والخطورة بالنسبة للقيادة العسكرية الاسرائيلية ..
ومنذ مايقرب من ثلاثة اشهر تمكنت أجهزة الاعتراض اللاسلكي الاسرائيلية من التقاط احدي الرسائل التي يبثها ذلك الجاسوس من تل ابيب وان لم تستطع تحديد مصدرها بدقة الا أن هذا لم يمنع المخابرات الاسرائيلية من ان تضرب حصارا امنيا حول المنطقة التي صدر منها البث في انتظار بث اخر لتحديد الموقع بدقة اكثر ..
ولقد درس الاسرائيليون الرسالة اللاسلكية بمنتهي الدقة حتي تمكنوا من كشف شفرة التراسل التي يستخدمها ذلك الجاسوس وراحوا ينتظرون ماسيرد اليه من معلومات من القاهرة تكشف كل اسرار الاتصالات بينه وبين المخابرات العامة المصرية ...
ولقد ادركت المخابرات المصرية من خلال عميل اخر أن الاسرائيليين قد كشفوا تلك الشفرة فتوقفت عن استخدامها تماما ..
وابلغت جاسوسها رفيع المستوي عن طريق برقية سرية خاصة بضرورة الانتقال الي الشفرة الاحتياطية وبألا تستغرق عملية البث عما يزيد علي الثلاثين ثانية بأي حال من الاحوال حتي ولو تم ارسال الرسالة الواحدة علي اربع او خمس مرات حتي لاتجد اجهزة الاعتراض والكشف الوقت المناسب لتحديد موقعه او كشف هويته .
ومنذ ذلك الحين يستخدم الجاسوس الشفرة الجديدة في رسائل قصيرة مبهمة يتم تجميعها بنظام خاص شديد التعقيد في المخابرات العامة لمعرفة فحوي الرسالة والحصول علي ماتحويه من معلومات ..
ولقد قرر الرجال استخدام ذلك الجاسوس رفيع المستوي لتوصيل معلومة تأجيل ساعة الصفر الي القيادة الاسرائيلية ..
وفي العاشرة والنصف صباحا تم ارسال رسالة قصيرة جدا الي الجاسوس في تل ابيب ..
رسالة بالشفرة الجديدة تطلب منه العودة لاستخدام الشفرة القديمة ولكن بنظام الرسائل القصيرة .
وفي العاشرة وخمس واربعين دقيقة تم ارسال رسالة اخري باستخدام شفرة التراسل القديمة تطلب من الجاسوس تأكيد ما بلغ مصر من معلومات حول انكشاف امر هجوم مصري وشيك في السادسة من مساء اليوم ..
وارسل الجاسوس رسالة قصيرة للغاية يؤكد فيها هذه المعلومة ..
وكان من الطبيعي ان تلتقط اجهزة الاعتراض اللاسلكية الرسالة القصيرة التي تم تسجيلها بالكامل وارسالها فورا الي قسم الشفرة وانعجزت الاجهزة عن تحديد موقع ارسالها بدقة ..
وفي تمام الحادية عشر كانت الرسالتان امام رئيسة الوزراء الاسرائيلية قبل ان ينفض الاجتماع الطارئ ..
وكان معناها واضح للغاية ..
لقد أدركت مصر ان موعد الهجوم قد انكشف للقيادة الاسرائيلية ..
ولقد احدث هذا رد فعل عنيفا للغاية في اجتماع مجلس الوزراء الاسرائيلي فمع اللعب باوراق مكشوفة يصبح الامر أكثر صعوبة ومشقة ويصبح من الضروري علي كل طرف ان يستنتج وبمنتهي السرعة ردود افعال الطرف الاخر .
وقد انقسم مجلس الوزراء الاسرائيلي الي قسمين ازاء هذه المعلومة الخطيرة وحول التوقعات الخاصة برد فعل المصريين بعد ان انكشف امرهم في هذه اللحظات الاخيرة والحاسمة ..
البعض ومنهم وزير الدفاع الاسرائيلي كانوا يصرون علي ان المصريين سيمضون في خطتهم حتي بعد انكشاف امرهم لان التراجع سيصبح مستحيلا بعد كل ماتم اتخاذه من اجراءات ..
أما البعض الاخر وعلي رأسهم رئيسة الوزراء الاسرائيلية نفسها فقد رأوا انه من المستحيل ان يقدم المصريون علي حماقة كهذه بعد ان ادركوا ان جيش اسرائيل الاسطوري قد كشف امرهم واستعد ليذيقهم هزيمة جديدة منكرة واحتدم الخلاف بين المجموعتين وراح يلتهم الدقيقة تلو الاخري.
ثم وصلت مجموعة اخري من الرسائل المتبادلة لاسلكيا بين المخابرات المصرية وجاسوسها الذي مازال مجهول الهوية في قلب تل ابيب ..
وعلي الرغم من ان الرسائل لم تحمل تصريحا واضحا الا أن الأسلوب الواضح بين السطور والذي دسه خبراء المخابرات المصرية ببراعة منقطعة النظير كان يوضح بما لايدع مجالا للشك أن المصريين غاضبون للغاية من انكشاف امرهم لأن هذا يضطرهم الي تأجيل المواجهة الي اجل غير مسمي .
بل ان معظم الرسائل التي فك الاسرائيليون شفرتها والمرسلة من المخابرات المصرية الي عميلها كانت تسأل عما اذا كان من المحتمل ان يسعي الاسرائيليون الي الانتقام وتوجية ضربة انتقامية للقوات المصرية .
وهكذا ارتسمت أمام مجلس الوزراء الاسرائيلي صورة جديدة ووهمية ولكنها تناسب الغرور والغطرسة الاسرائيلية والثقة المفرطة في قدرات الجيش الاسرائيلي الذي تؤكد وسائل الاعلام في كل دقيقة انه جيش أسطوري لايقهر .
الصورة التي خلفتها الرسائل توحي بقيادة مصرية مذعورة لم تكد تدرك ان امرها قد انكشف حتي راحت تتخبط في هلع ..
وعلي الرغم من هذا فقد اصر وزير الدفاع الاسرائيلي علي المضي في اجراءات استدعاء الاحتياط ورفع درجة الطؤارئ الي الحد الاقصي علي الرغم من تنبية رئيسة الوزراء له بأن هذا يستنزف الكثير من ميزانية اسرائيل في الوقت الذي تعاني فيه أزمة أقتصادية طاحنة .
ولكن الوزير واصل اصراره علي مطالبه بمنتهي الصلابة والعناد ..
الشئ الذي لم يدركه الكل وهم يناقشون هذه النقطة بمنتهي العنف ، هوأنهم يضيعون وقتا ثمينا للغاية ..
وأن هذا بالضبط ماتنشده القيادة المصرية وماتستهدفة خطة مخابراتها العريقة .. ولقد اتخذ مجلس الوزراء الاسرائيلي قراره في الواحدة وسبع عشر دقيقة بتوقيت القاهرة وبدأ وزير الدفاع الاسرائيلي اجراءاته في تمام الواحدة والنصف متصورا ان أمامه أربع ساعات ونصف ساعة للاستعداد للمواجهة لو قرر المصريون المضي في خطتهم علي الرغم من انكشاف امرهم .
لذا فقد كانت المفاجأة ساحقة صاعقة عندما تم تعديل الخطة المصرية لتعبر طائراتنا قناة السويس علي طول خط المواجهة وتدك حصون ومطارات العدو في تمام الثانية ظهرا لينطلق الجنود المصريون بعدها كالاسود ويعبرون قناة السويس في وضح النهار ويهزمون الساتر الترابي ويدمرون اقوي خط دفاعي عسكري عرفه التاريخ .
وكان هذا ايذانا بانتصار المصريين في مواجهتهم الحقيقية الاولي مع العدو الاسرائيلي بعد ان انتصروا بالفعل في معركة أخري حاسمة .
معركة اللحظات الاخيرة .....