المرجعية التاريخية للفكر العسكري الاسرائيلي ( اليهودي ) : ترسيخا لهذا الفكر بذل المؤرخون العسكريون الاسرائيليون غاية جهدهم لاخراج ما أسموه " بالتاريخ العسكري اليهودي " ، وربطوا بين معارك العبرانيين في التاريخ القديم وحروب دولة اسرائيل في التاريخ الحديث ، ليقنعوا أنفسهم قبل غيرهم ، أنهم أصحاب " مهمة الهية " تخصهم بشرف اتمام رسالة الاباء والاجداد .
انطلق المؤرخون يبحثون في صفحات التوراة والتلمود ، وغيرهما من كتب الديانة اليهودية ، فيقتبسون من هذه ويأخذون عن تلك كل ما من شأنه أن يؤكد دعواهم ، أو يبرر ماربهم فيجيز لهم اثارة الحرب ، من هذا المنطلق عقدوا المقارنات بين فرسان داود وسليمان ، وبين دبابات " حاييم لاسكوف " ، و " اسرائيل تال Israel Tal " ، وأقاموا الندوات لبحث أوجه الشبه والخلاف بين أساليب جدعون وتكتيكات ديان ، اقتناعا منهم بأنه طالما ينحو العمل الصهيوني نحو التوسع ، فلا مناص من أن يعتنق أنماط " الاستراتيجية التعرضية " بأشكالها المبارة وغير المباشرة ، وبكل مايسستبعه ذلك من ضرورات ترسيخ عقائد ومفاهيم دينية تلائمه ، يكون قوامها " الحق اليهودي " في الاستيلاء علي " أرض الميعاد " ، حتي يؤمن الجنود بشرعية خوض " الحرب رغم أنها عدوانية " .
حاييم لاسكوف ، رئيس الاركان الاسرائيلي الخامس . اسرائيل تال ابو الميركافا الاسرائيلية ومصممها . كان تعبئة جيش اسرائيلي ضخم علي أساس هذا الفكر يتطلب تحويل مجتمع اسرائيل برمته الي " شعب مسلح " ، لذلك اصبح لزاما أن تحاط الحرب بهالة من القدسية ، حتي يصير شرف الانخراط في سلك الجندية أملا يتمناه كافة اليهود ، وامتيازا ينفرد به الصفوة ، ولتحقيق ذلك تبذل المؤسسة العسكرية الاسرائيلية الجهود لترسيخ تعاليم الديانة اليهودية التي تحض علي القتال ، وتحث علي تعبئة الموارد والاعداد للحرب ، كما تعمل بلا ملل علي نشر الوصايا الدينية العسكرية لتصبح جزءا من حياة الجنود ، وزادهم اليومي ، ثقة منها بأن ذلك هو السبيل الأمثل نحو خلق الشخصية العسكرية المقاتلة ، المتحلية بصفات المبادأة والتعرض ، المشحونة بروح الهجوم والرغبة في القتال .
وقد استلزم تثبيت هذه المفاهيم في وجدان اليهود ، خلق رابط تاريخي متين بين ماضي العبرانيين القديم وحاضر الصهيونيين المعاصر ، اذ اصبح ضروريا مداومة التأكيد علي أن الحاضر امتداد للماضي بكل اماله والامه ، وأن الحروب حتمية تاريخية لامحيد عنها لانجاز الرسالة اليهودية ، فالقرن العشرين امتداد للقرن الأول ، ولا يفصل بين وقفة اليهود فوق أسوار قلعة ماسادا سنة 73 ميلادية (
وهي اخر قلعة يهودية تسقط في يد الرومان اثناء التمرد اليهودي علي الامبراطورية الرومانية ، وحاصرها الرومان داخلها سنوات حتي اتفق 960 يهودي كانوا كل من في داخلها علي الانتحار معا ، وهي تقع علي قمة صخرة مرتفعة بالقرب من البحر الميت ، وينظر لها اليهود كرمز لوحدة وصمود الشعب اليهودي ) ، لايفصل بين هذه الوقفة ووقفة الهاشومير الأولي فوق تلال الجليل " Galil hill " ، سنة 1907 سوي وقفة لعجلة الزمن ، استأنف التاريخ بعدها سيره بمجرد أن عادت دولة اسرائيل الي الوجود ، (
والهاشومير تلك منظمة عسكرية لعبت دورا اساسيا في اقامة المستوطنات الصهيونية في فلسطين في الفترة السابقة لقيام الهاجاناه ) .
رسم يوضح كيف انتحر اليهود من فوق اسوار قلعة ماسادا . صورة لقوة من عصابات الهاجاناه وفي ذلك يقول بن جوريون : " ان كل تاريخ اسرائيل القديم الذي يرويه لنا الكتاب المقدس ، هو بالدرجة الاولي تاريخ اسرائيل العسكري ".
لقد حارب اليهود الاوائل الأشوريين ، والبابليين ، والمصريين ، والكنعانيين ، والعمونيين ، والفرس ، والاغريق والرومان .. وحين هزموا علي يد فيالق " تيطس " بعد معركة يائسة ، اثروا أن يقتلوا أنفسهم في ماسادا علي أن يستسلموا .. وقد رأت اسرائيل في ماسادا رمزا لارادتها .. فاليوم يقسم المجندون يمين الولاء فوق قلعة ماسادا وهم يرددون : " لن تسقط ماسادا مرة أخري " .
صورة للقلعة اليوم يرفرف عليها العلم الاسرائيلي . وقد بذل المؤرخون الاسرائيليون جهدا كبيرا لصياغة تاريخهم العسكري علي النحو الذي يزود المقاتل الاسرائيلي بالمرجعية التاريخية ، ويزوده ايضا بالفكر العسكري من التاريخ اليهودي ، فالتوراة تصف معارك جدعون ضد المديانيين ، التي قسمها الي ثلاث مراحل : حشد جدعون جيشه واعداد خططه ، ادارة رحي الحرب بأسلوب متميز ، ثم مطاردة المديانيين والقضاء عليهم .
أ . المرحلة الأولي ( التعبئة والاعداد ) : هي تعبئة جيش الشعب اليهودي وتنظيمه ، ثم اختيار أصلح المقاتلين وأنسبهم تدريبا واصرارا علي النصر لملاقاة العدو ، وكان الاختيار دقيقا ، اذ لم يجتزه سوي واحد من كل مائة رجل .
ثم بني جدعون خطته علي أساس تقديره السليم لطبيعة المعركة وقدرات رجاله وتمام معرفته بالعدو ، وحتي يتأكد جدعون من نقطة الضعف هذه ، ويقف علي أفضل السبل لاستغلالها ، قاد بنفسه استطلاعا ليليا ، قبل أن يتخذ قراره النهائي للمعركة ، وأحسن جدعون استغلال الطاقة البشرية الكبيرة التي لم يصبها الاختيار لخوض القتال ، أما المجموعات من المقاتلين التي انتخبها جدعون وأعدها للهجوم فهي تشبه في عملها قوات الصاعقة أو الكوماندوز ، في وقتنا الحاضر لخوض القتال الليلي ، كما كانت المعدات مناسبة تماما للخطة الموضوعة .
وكذلك وقت بدء المعركة ، لم يأت مصادفة بل انتخبه جدعون بمهارة ، فلحظة تغيير حراس المعسكر هي اشارة البدء بالهجوم حتي يتم اجتياح العدو ، وكان اصرار جدعون علي اعطاء اشارة بدء الهجوم بنفسه ، ضمانة اضافية لتحقيق التنسيق واحكام السيطرة علي ادارة العملية .
المرحلة الثانية ( التخطيط ) : صف جدعون قواته المنتخبة في ثلاثة أضلاع وترك الضلع الرابع خاليا عن عمد ، حتي يتيح لعدوه طريقا للتسلل والانسحاب يقوده الي كمين أعده علي امتداد نهر الاردن ليقضي فيه علي ماتبقي من المديانيين .
المرحلة الثالثة ( القتال ) : حسم جدعون المعركة بمطاردة عدوه بسرعة وعنف ونجح في اسر " قادة المديانيين " .
ويواصل التاريخ العسكري الاسرائيلي المعاصر تحليل هذه المعركة ، واستخلاص الدروس التي تشكلت منها مبادئ الحرب بعد ذلك ، ليزود بها جيش الدفاع الاسرائيلي ، حيث هدف من وراء ذلك الي :
( 1 ) بث الثقة وروح القتال في نفوس جنود جيش الدفاع الاسرائيلي ، بقدرة اسرائيل في الماضي والحاضر والمستقبل علي شن الحملات الناجحة ، وفق تخطيط دقيق وفكر متطور .
( 2 ) ابراز أهمية مبدأ الحشد ( كأحد مبادئ الحرب ) لخوض الحرب ، وأن جيش اسرائيل كان جيشا منظما علي مستوي عال ، تشد أزره عناصر منتخبة بعناية توكل اليها المهام الرئيسية المعقدة ، بينما يكلف باقي القوات بالمهام الأخري أو الثانوية .
( 3 ) توضيح أهمية الاستطلاعات والاستخبارات ( كأحد مبادئ الحرب ) ، ومعرفة أساليبهما في القتال ، والالمام بنقاط القوة والضعف ، للعمل علي حسن استغلالها ، بما يكفل سهولة هزيمة العدو . " لديهم اقوي طائرات استطلاع بدون طيار في العالم " .
صورة أفضل وحدات الاستطلاع في الجيش الاسرائيلي " سيريت متكال " . ( 4 ) أن يظهر مدي أهمية مبدأ المباغتة ، وهو أهم مبادئ الحرب في العصر الحديث ، ويستعرض بعض أساليب الماضي في تحقيقه ، عن طريق الهجوم الليلي ، والمهارة في اختيار ساعة " س " ، ومن ثم أهمية وقت ومكان وأسلوب شن الهجوم في تحقيق النصر الحاسم .
( 5 ) ابراز اهمية الابتكار وحسن التصرف ، لاشاعة الذعر في صفوف العدو ، ثم ترك ثغرة متعمدة لتشجيع العدو علي الانسحاب من خلالها ، ليقع بعدها في كمين تحت أسوأ الظروف ، كما يؤكد علي أن الكم ليس هو العامل الأول في احراز النجاح ومن ثم فهو لم يغفل النوع .
مثال اخر عزز به موشي ديان هذه الأراء ، فكتب قبل الجولة العربية الاسرائيلية الثالثة عام 1967 ، مقالا عن روح المحارب
الاعور وساق في هذا المقال قصة المبارزة الشهيرة التي وقعت بين " داود وجالوت " ليظهر بعض أوجه الشبه بينها وبين الموقف الذي كان سائدا بين العرب واسرائيل في ذلك الوقت ، بالنسبة لاختلال ميزان القوي بين الطرفين المتصارعين ، واهتم ديان في سرده لآحداث تلم المبارزة القديمة ، باظهار جوانب المقارنة بين خفة الحركة وبين البطء والجمود ، لاظهار قيمة المرونة المادية والفكرية في تحقيق النصر .
والتوراة تذخر بالآيات التي تحض علي استعمال " أقصي درجات العنف مع العدو " ، وتسوق الكثير من " الأساليب العنيفة " التي اتبعت في الماضي كأمثلة يحتذي بها ، كما ترسم التوراة صورة الغزو وسحق العدو وتدمير مدنه ، فيأتي الوصف مماثلا لما تقترفه اسرائيل اليوم حيال الفلسطينيين وبيوتهم وحقولهم علي أيدي جنود اسرائيل .
ان السمة المشتركة بين كل هذه الأساليب من جوانبها القتالية والسلوكية ، هي السعي الحثيث لخلق قناعة لدي المجتمع الاسرائيلي بأنه الشعب المتميز المختار " القادر علي مواجهه الاعداء والقضاء عليهم " ، مهما بلغت حشودهم أو قدراتهم ، هكذا ربط موشي ديان بين التاريخ والدين ليصل بين الماضي والحاضر ، ليولد الحافز من خلال المرجعية التاريخية في أذهان جند اليوم .
أنتهي الجزء الخامس وموعدنا مع الجزء السادس بعنوان : " العوامل المؤثرة علي نظرية الأمن الاسرائيلي " .