المريب في أزمة الغذاء العالمية
تعصف بالعالم اليوم أزمتان هما أزمة ارتفاع أسعار النفط وأزمة ارتفاع أسعار الغذاء، وبمقدار ما هي العلاقة وثيقة بين النفط والغذاء فإنّ العلاقة وثيقة بين هاتين المادتين وبين حياة الناس عموماً، وهكذا أصبحت الأزمتان الشغل اليومي الشاغل لمليارات البشر، حيث هناك ملياران دخلا في دائرة الخطر الوجودي، وأصبحت معضلة أسعار المواد الغذائية المرتفعة مسألة كفاحهم اليومي، وتضحيتهم، بل مسألة صراعهم من أجل البقاء، كما يقول رئيس البنك الدولي روبيرت زوليك في تصريح أدلي به قبل أيام.
لقد أعلنت هيئة الأمم المتحدة حالة الطوارئ لمواجهة أزمة الارتفاع الفاحش لأسعار المواد الغذائية في العالم، وذلك في أعقاب اجتماع عقدته في مدينة برن السويسرية بتاريخ 2008/4/29، فقد ارتفعت الأسعار منذ شهر آذار(مارس) الماضي وحتي اليوم ما بين 57 إلي 85 بالمئة، وأقرّ ممثلو وكالات ومنظمات الهيئة الأممية، البالغ عددها 73 وكالة ومنظمة، ضرورة التحرّك العاجل، فأنشئت علي الفور خليّة للأزمة تضمّ رؤساء الوكالات والمنظمات الدولية، إضافة إلي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، علي أن تعمل الخليّة بإشراف الأمين العام بان كي مون مباشرة، وأن يقوم مساعده جون هولمز بمهام منسّق نشاطاتها.
وقد قال الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة في معرض توضيحه لأهداف هذه الإجراءات الاستثنائية الطارئة: إنّ الأولوية تتلخّص في إطعام الجياع . ودعا الدول المانحة إلي الاستجابة بصورة عاجلة وكاملة، حيث من دون الاستجابة العاجلة، ومن دون التمويل الكامل، سوف نتعرّض لأخطار انتشار المجاعات، وسوء التغذية، والاضطرابات الاجتماعية علي نطاق لم يسبق له مثيل! أمّا جوزيت شيران، المديرة التنفيذية لبرنامج الغذاء العالمي، فقد أوضحت أنّ إجمالي الاحتياجات للعام الحالي 2008 تبلغ ثلاثة مليارات ومائة مليون دولار، إضافة إلي 557 مليون دولار تفرضها الزيادات الحادة المتصاعدة في أسعار الأغذية. وقال المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للزراعة والتغذية (فاو) جاك ضيوف: لقد قرعنا ناقوس الخطر لكنّ أحداً لم يتّخذ قراراً في الوقت المناسب. أمّا عن المدي الزمني الذي يمكن أن تتحوّل فيه الأزمة إلي كارثة فقد حدّده رئيس البنك الدولي روبرت زوليك.. بأن الأسابيع المقبلة سوف تكون حاسمة . إنّ أزمة المواد الغذائية في العالم هي حقيقة قائمة ومخيفة حقاً، لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: ما مدي نسبة الافتعال في هذه الأزمة إن كان ثمّة افتعال، وما مدي نسبة الاستغلال لهذه الأزمة إن كان ثمّة استغلال؟ .
بعد الاطلاع علي نتائج أعمال اجتماع هيئة الأمم في برن، لم نقع علي تفسير واضح ومقنع للأزمة، ما عدا مجرّد إشارات غامضة، كالقول: قرعنا ناقوس الخطر لكنّ أحداً لم يتخذ قراراً في الوقت المناسب . كذلك وردت إشارة مقتضبة وغامضة صدرت عن الاجتماع الأممي مطالبة بتجارة عالمية أكثر عدلاً . فما المقصود بهذه الإشارة، وهل تداول الموظفون الأمميون في اجتماعاتهم المغلقة أسباباً واضحة ومحدّدة للأزمة؟ لا ندري! ولكن قد يحدث، كما هو الحال في أزمة النفط، فنعرف ولو متأخّرين مقدار الافتعال والاستغلال في أزمة الغذاء العالمية. علماً بأننا نعرف مبدئياً، علي الأقلّ، بانطلاق الولايات المتحدة في ميدان إنتاج الوقود الحيوي من المحاصيل الزراعية الغذائية الضرورية، وهذا في حدّ ذاته كفيل برفع أسعارها رفعاً فاحشاً وكفيل بشحّها في الوقت نفسه.
كذلك نحن نعرف أنّ هناك شركة أمريكية وحيدة ومتعدّدة الجنسيات تدعي مونسانتو تحتكر البذار المعدّل جينياً بنسبة 70 إلي 100 في المائة من أنواعه، وهي تمتلك براءة اختراع لكل نوع من أنواع البذار تجعلها في موقع القادر علي منع المنتجين في مختلف أنحاء العالم من إنتاج هذه الأنواع، والقادر علي إرغامهم علي أن يشتروا سنوياً منتجاتها، وأنّ الحكومة الامريكية تستطيع عن طريق هذه الشركة التحكّم إلي حدّ كبير بالانتاج الزراعي العالمي.
وجدير بالذكر أنّ شركة مونسانتو هذه هي المنتجة للغاز البرتقالي السامّ الذي استخدمته القوات الأمريكية لتدمير القري والحقول الزراعية الفيتنامية أثناء الحرب، أي أنّها عضو في المجمّع الحربي/الصناعي الذي يحكم الولايات المتحدة اليوم. لقد تساءل الأستاذ ميشال مرقص في مقالة نشرها مؤخراً قائلاً: هل استحدثت الولايات المتحدة أزمة الغذاء أيضاً؟ وهل فعلت ذلك لتتحكّم عالمياً، أم لتسويق منتجات شركاتها؟ وإنه لمحقّ في تساؤله بالتأكيد!
ولكن ماذا عن الوطن العربي في مهبّ هذه العاصفة الغذائية العالمية؟ في الواقع، هناك المنظمة العربية للتنمية الزراعية التي عقدت جمعيتها العمومية دورتها الثلاثين أواخر الشهر الماضي أيضاً في الرياض، أي أنّ اجتماعها ترافق مع اجتماع هيئة الأمم في برن السويسرية، وقد تحدّث عن نشاطها رئيسها المصري فوزي نعيم، الذي انتهت ولايته وحلّ محلّه السعودي عبد الله العبيد، فعرض الأمور التي كان لها أثر سلبي علي التكامل والأمن الغذائي العربي، وأشار إلي عدم ملاءمة تشريعات كثيرة لقطاع الاستثمار الزراعي، وطالب المنظمة بالقيام بدور المنسّق لكلّ الجهود التي تعني بالشأن الزراعي العربي، خصوصاً في مجال سدّ العجز في إنتاج المحاصيل الغذائية الاستراتيجية التي تهدّد العالم بالمجاعة بعد رفع أسعارها. وحذّر من أنّ العجز سيستمرّ بلا حدود في ميدان إنتاج المحاصيل الغذائية بعد استخدامها في إنتاج الوقود الحيوي! وبالطبع فإنّ المؤسف بل المؤلم أنّ هذه المنظمة العربية لا تبدو جدّية وفعّالة في الحدّ الأدني من المستوي المطلوب، مثلها مثل غيرها من المنظّمات العربية ذات الاختصاصات الأخري، ولا ندري إن كانت الأخطار المحدقة الماحقة كافية لاستنهاض هذه المنظمات، وما إذا كنّا نستطيع أن نأمل في نهوض كهذا بينما نحن نتابع مأساة أهل غزة في فلسطين الذين يعانون حقاً أشدّ المعاناة بالأزمة الغذائية العالمية ومن دونها، فلا تهبّ لنجدتهم الجامعة العربية ومنظماتها إن لم تكن تفعل العكس!