الأمن القومي العربي والدروس المستفادة من غزو العراق:
على مدار التاريخ الإنساني قديمه وحديثه لم تتعرض أمة إلى محاولات الاعتداء بكل أنواعه وصنوفه، الاستعباد والاحتلال والتجزئة، مثلما تعرضت له أمتنا العربية، كما أنه وبقدر ما لأمتنا من دور هام في صنع التطور الإنساني وما يتوافر لها من عناصر القوة الاستراتيجية وخاصة في المرحلة المعاصرة فإنها مستهدفة باستمرار مثلما كانت أطماع الأعداء كبيرة وكانت مؤامراتهم متواصلة وأساليبهم اشد مكراً وخبثاً.
والحقيقة المؤكدة التي لا يختلف عليها اثنان أن الأمن القومي العربي شهد اختراقاً غير طبيعي تحت غطاء أحداث 11 أيلول، حيث انتهزت الولايات المتحدة الأمريكية هذا الحدث الخطير الذي لم تحكمه ظروف طبيعية أو سياقات تاريخية ففرضت على العالم شروط ومطالب تمس السيادة الوطنية والإرادة الشعبية لأمتنا العربية بمبررات وذرائع واهية بحجة "مكافحة الإرهاب".
هذه المقدمة ضرورية من أجل اتخاذها كمعيار توضيحي في إلقاء الضوء على طبيعة الأمن القومي العربي على اعتبار أن حالة الشعور بالثقة والطمأنينة الناتجة عن غياب الخطر باتخاذ إجراءات وقائية هو وصف لمفهوم "الأمن للدولة والشعب"، وبهذا المعنى فإن الأمن القومي العربي يفرض أن تتعاون وتتآزر الأقطار العربية لدفع الأطماع الخارجية ومواجهة التحديات المحدقة، وعليه فإن مجموع التدابير والإجراءات التي ينبغي على الأمة العربية أن تتخذها لتكفل تحقيق أمنها إنما هي أساس الاستراتيجية القومية، حيث يكمن الأمن القومي العربي في أن يعمل العرب على تعزيز استقلالهم والتعامل مع دول العالم على أساس التكافؤ والمساواة، ومن هنا فإن القاسم المشترك لتعريف الأمن القومي يلتقي في محور أساسي ألا وهو سيادة الأمة على أرضها وثرواتها الوطنية وتوفير حالة من الاطمئنان لأفراد المجتمع أمام التهديد الخارجي أو الداخلي.
العرب كأحد الكتل العالمية لم يرتقوا إلى مستوى مواجهة ما بعد حدث 11 أيلول، ولم يتعاملوا معه بمسؤولية وطنية أو قومية، ولا مع كينونته السياسية، وكانت ردة فعلهم مجرد التوجس والخشية من اتهامهم بنشر ما يسمى "الإرهاب" ودرء التهم عن أنفسهم، دون تشخيص للحالة والحدث على أنه في واقع الأمر نتيجة السياسات الأمريكية العنصرية التي حصدت ما زرعته من بذور الدمار هي ذاتها.
وانطلاقاً من ذلك أخذت واشنطن تمعن في استغلال الحدث ووضعت الجميع أمام خيارين لا ثالث لهما (إما معنا أو ضدنا) ولعل هذا الإملاء الخارجي يمثل واحداً جوهرياً من المتغيرات التي جعلت مفهوم السيادة وهو أحد عناصر الأمن القومي يفقد بريقه.
وتمادت أمريكا بمزيد من الاختراق القومي العربي بإصرارها وضغوطها على الدول العربية لكي تنضم إلى ما يسمى بـ"التحالف الدولي المناهض للإرهاب" (حسب الفهم المنحرف للإدارة الأمريكية) وما يفرضه هذا التحالف من التزامات – أدت إلى حدوث اختراق غير طبيعي وعلني للأمن الداخلي والتدخل في ما يفترض أنها محصورة بالدولة.
الاختراق الدولي (المناهض للإرهاب) الذي سبقت الإشارة إليه كانت تعمل من اجله الصهيونية العالمية المعششة في مراكز القرارات في الإدارة الأمريكية وتطلعاتها في إقامة إمبراطورية عالمية فوجدت الصهيونية ضالتها للتحالف مع ما يسمى باليمين المسيحي الجديد المرتبط معها في إطار عقيدته المنحرفة عندما دفعت بجيوشها وأحلافها الأطلسي لتضرب بقوة نظام طالبان محدود القدرات وعندما اعتقدت أنها حققت انتصاراً كبيراً وانطلقت بكل ما تملك من ترسانة عسكرية متحالفة مع كل الأشرار الطامعين والحاقدين والخونة والمتخاذلين دولياً وإقليميا وعربياً مسكونة بفكرة مريضة مسيطرة لشن حرب صليبية صهيونية جديدة هذه المرة لغزو العراق وإسقاط نظامه التحرري وما يمثله من مشروع نهضوي قومي يحمل لواءه بقوة وعناد مؤمناً ومستنداً إلى الأبعاد الحضارية والتاريخية للأمة العربية وصراعها الدائم للنهوض والتقدم واستعادة دورها الإنساني، وبدون شك فإن الغزاة الأشرار الذين يجهلون التاريخ كانوا يهدفون أولاً وقبل كل شيء إرهاب شعوب وحكومات العالم لإخضاعها لمتطلبات الهيمنة الإمبراطورية الأمريكو-صهيونية على المنطقة ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية (التي يطلقون عليها قضية الشرق الأوسط) لصالح الكيان الصهيوني وليكون صاحب الذراع الأقوى في المنطقة وتأبيد السيطرة على مصادر الطاقة والمواقع والممرات الاستراتيجية في هذا الجزء من العالم، وبمجرد أن وقع الاحتلال يوم 9/4/2003 أخذت تصريحات وتصرفات أطراف الغزو البربري وتهديداتهم تكشف المستور وغير المستور من تلك الأهداف العدوانية معتقدين بنشوة الانتصار الموهوم أن الأمور قد استتبت لهم، وراحوا كما فعلوا بعد "حرب الخليج الثانية" يتنصلون من الاتفاقات والوعود التي بذلوها من قبل و أغروا بها عملائهم وأعوانهم، ولم يتعظ هؤلاء وأولئك بقصة (الثور الأبيض) المعروفة والتي طالما جرى تذكيرهم بها.
لكن شعب العراق وقوى المقاومة النضالية والجهادية المتحالفة فيه لم تترك للغزاة وأعوانهم وقتاً كافياً يحتفلون فيه بنصرهم الموهوم فلم تكن لتمر أسابيع قليلة بل أيام معدودات حتى بدأت ارض الرافدين تتفجر تحت أقدامهم ووجدوا أنفسهم يغوصون تدريجياً في المستنقع الذي استدرجوا إليه ويضيق الخنادق تدريجياً حول أعناقهم حتى بلغ حناجرهم، الآن وبعد ما يزيد عن ثلاث سنوات على الغزو ومع تزايد أعداد القتلى والجرحى والمعوقين ونزيف الدماء في صفوفهم ومع تزايد تكاليف الحرب الباهظة على خزينتهم والتي هي في ارتفاع مستمر يبحث الغزاة الأشرار لهم عن مخرج وتتناقض قيادتهم وقادة جيوشهم في تقييم الأوضاع على الأرض، بعضهم سارع إلى التنصل فسحب جنوده والبعض الآخر يحاول ذلك أمام صعوبات بالغة فيما تبقى الطامة الكبرى على رأس بوش وتشيني ورامسفيلد وكوندوليسا رايس وأعوانهم تشكل لهم نفقاً مظلماً لا نهاية له إلا بالهروب الذليل المخزي على شاكلة ما جرى لسابقيهم في (سايجون) بينما يقف شعب العراق وقياداته المقاومة وقفة عز وشموخ بعد تلك التضحيات والدماء التي شهد لها القاصي والداني إلى أن تعود للعراق بعد ليل الاحتلال الطويل وحدته وحريته وسيادته ونظامه التحرري الديمقراطي وتسقط إلى الأبد أعلام الخزي التي حاول البعض أن يرفعها بديلاً لراية (الله اكبر) راية الفخار والسيادة.
إن الدروس التي يجب أن تستوعبها أمريكا وحلفاءها والمجتمع الدولي بصورة عامة من غزو العراق هي أن ذلك الغزو وما ترتب عليه من محاولات جاهلة للعبث بالتوازن بين مكونات شعوب المنطقة كانت أخطاء كارثية على الأمن والاستقرار الدولي والإقليمي بصورة شاملة، وأن من يطلق بالونات اختبار من أشباه تقرير (بيكر) وما يشابهها كمحاولات للتغطية على الهروب الأمريكي المذل وحفظ ماء الوجه بمختلف الوسائل لن يزيد الأمر إلا تعقيد الأوضاع إلى ما هو أسوأ، لأن من السهولة أن تشعل الحرائق ولكن من الصعب احتواءها أو إطفاءها.
إن استيعاب أمريكا ومن تحالف أو تواطأ معها على الغزو يفرض عليها أن تفرج ابتداءً عن جميع المعتقلين وبضمنهم قياداته الحقيقية وتسحب قواتها العسكرية وأعوانها الأشرار المارقين الذين أدخلتهم على ظهور دباباتها وسلطتهم بالقوة على شكل ميليشيات وعصابات مجرمة تجوب أرض الرافدين للتنكيل بشعب العراق والعبث بأمنه لكي يتاح له بالتالي تقرير مصيره وتحقيق تطلعاته دون تدخل من أحد وبالتالي استرداد وحدته وسيادته وإعادة مؤسساته التي أثبتت في الماضي اقتداراً فعلياً واسعاً على تحقيق الأمن والاستقرار الذي يشكل حجر الأساس في الأمن القومي العربي وأمن المنطقة بكاملها، فهل لدى أمريكا وحلفائها القدرة على الاستفادة من الدروس التي تلقتها حتى الآن في مرحلة إعادة النظر في سياساتها كما تتحدث عن ذلك وسائل الإعلام التي تملك هي دون غيرها توجيهها والسيطرة عليها.