عندما توقفت الحرب الباردة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في العام 1989 رأت اميركا ان الابواب شرعت امامها لتنفيذ مشروعها الامبراطوري الكوني، بدءاً بالسيطرة على قلب العالم الشرق الاوسط حيث الطاقة والممرات. واعتمدت للتنفيذ استراتيجية «القوة الصلبة» التي رأت فيها طريقا سريعاً للانجاز وترجمتها فورا، بحرب «تحرير الكويت» التي احتلها صدام حسين، وانتهت الحرب في العام 1991 الى تكريس انتشار عسكري اميركي في منطقة الخليج، وتمركز في قواعد عسكرية أنشئت بغرض «حماية المنطقة» من خطر ما! وبعد ان استقرت اميركا في انتشارها هذا، جاءت في 11 ايلول 2001 بمقولة «العمل الارهابي» في نيويورك، فغزت افغانستان واقتلعت حكم طالبان وبسطت سيطرة عسكرية اميركية عليها بشكل سريع، اغراها في تنفيذ الخطوة الثالثة في سياق استراتيجيتها، فغزت العراق في العام 2003، وأقامت حكمها العسكري المباشر بصفة «دولة احتلال» شرع وجودها بقرار من مجلس الامن الدولي الذي تسيطر عليه.
شكل احتلال العراق في العام 2003 المحطة الثالثة التي ثبتت الخط التصاعدي لنجاحات المشروع الغربي بالقيادة الاميركية ولنجاعة «استراتيجية القوة الصلبة» المعتمدة، وبات المسرح الاستراتيجي الكبير الذي تسميه اميركا بمصطلحاتها وتقسيماتها العسكرية «المنطقة الوسطى» ميداناً تنتشر فيه قوى اميركية بحجم ربع مليون عسكري، ويلتحق بهم ما يربو على 150,000 عسكري من قوى جاءت من دول حليفة وتابعة او ملحقة، ولم يكن ليعكر صفو هذا النجاح الا «النكسة» التي تعرض لها المشروع في العام 2000 في لبنان على يد المقاومة التي اخرجت اسرائيل (احد الاركان الرئيسية في المشروع الغربي)، فكان القرار الاميركي وفي الاسابيع الاولى «للنجاح في اجتياح العراق» العمل مباشرة على اجتثاث من يشكل بوجوده قلقاً مستقبلياً او«عقبة» تعرقل المسيرة او تفسدها. وظنت اميركا ان انتصاراتها وما آل اليه وضع البيئة الاستراتيجية في منطقة الشرق الاوسط بعد احتلالها لثلاث مناطق استراتيجية فيه، سيوقع المنطقة، او من تبقى من الممانعين لمشروعها، في «انهيار ادراكي» فيستسلم ويتخلى عن المقاومة، فيستقيم الامر لها وتستقر في شرق اوسط تبنيه له ولا ينازعها في السيطرة عليه احد، لكن هؤلاء الممانعين خيبوا ظن اميركا فثبتوا في مواقعهم ما ادى بوضوح وبعد احتلال العراق الى ظهور المواجهة الحادة في المنطقة بين مشروعين:
مشروع احتلالي هجومي تقوده اميركا ويرمي الى اقامة الشرق الاوسط الاميركي وينطلق معتمداً استراتيجية القوة الصلبة والحروب.
ومشروع دفاعي تنخرط فيه قوى اقليمية (دول وغير دول) يعمل للمحافظة على المنطقة بشعوبها وإقامة «شرق اوسط لاهله» ويعتمد المقاومة غير التقليدية نهجاً للمواجهة من دون اسقاط دور الجيوش حيث يمكن.
وقد اتخذ المشروعان من نتائج عمل المقاومة في العام 2000 قاعدة انطلاق للعمل مع اختلاف في النظرة اليها، فالاول رأى فيها خسارة وعقبة تجب ازالتها واجتثاث من احدثها، والثاني قرأها انتصاراً واتخذها مدماكا يمكن البناء عليه مع تفعيل من انجزها، ومن اجل ذلك توجهت اميركا الى لبنان وأحدثت فيه الانقلاب السياسي الذي عولت عليه للتخلص من المقاومة، وكان قتل رفيق الحريري بعد القرار 1559 هو المدخل الاجرائي، لكن المقاومة افسدت الخطة واستوعبت المتغيرات وفوتت على اميركا مشروعها، فكان الرد حربا نفذتها اسرائيل في العام 2006 بقرار اميركي، لتكون الحلقة التنفيذية الاخيرة التي بها يفتح الباب لصياغة الشرق الاوسط المطلوب.
انتهت حرب 2006 بكارثة استراتيجية لحقت بالمشروع الاميركي، لان اخفاق اسرائيل في تحقيق الاهداف اهدى القوى المضادة الممانعة نصرا يضاف الى نصر 2000، وكشف عجز استراتيجية القوة الصلبة ثم ترسخ الانكشاف بعد ان تمكنت المقاومة في العراق من زعزعة الحلم الاميركي باستقرار الاحتلال، كما أظهر الميدان الافغاني المتاعب المتزايدة في وجه قوى التحالف الغربي، وانكشف المشهد العام عن عقم استراتيجية القوة الصلبة في تحقيق الامل المنشود. وبذلك كان على اميركا ان تتخذ قراراً من اثنين: الاعتراف بالفشل والتراجع، او التمسك بالاهداف والعمل على تحقيقها باستراتيجية جديدة، ورسا القرار على الحل الثاني واعتمدت استراتيجية «القوة الناعمة الذكية» التي قامت على اركان:
أ تبريد الجبهات وطمأنة الخصم لحمله على الاسترخاء، ب انتزاع اوراق القوة من يد الخصم وإرباكه وإشغاله بذاته، ج الدعوة الى التفاوض وبالشروط الاميركية بين فريقين متفاوتي القوة، د وأخيرا مفاجأة العدو الذي لا يتنازل على طاولة المفاوضات بحرب سريعة تؤدي الى انهياره الميداني.
انطلقت اميركا في تنفيذ استراتيجيتها الجديدة بعد ان بدأت بالإعداد لها منذ توقف الاعمال الحربية في العام 2006، وراحت تدفع الى اصدار القرارات من مجلس الامن للضغط على اصحاب مشروع «الشرق الاوسط لاهله» فتعاقب هذا وتحاصر ذاك وتشجع عملاً تخريبيا هناك، وتجهد لفك التحالف الاستراتيجي الاساسي بين ايران وسوريا. وجاء العام 2008 ليشهد المتغيرات الكبرى في المواجهة، حيث خسرت اميركا الرهان في لبنان في أيار من ذاك العام، وخرجت المقاومة منتصرة من الفخ الذي نصب لها، وكسرت سوريا الحصار الذي فرض عليها وتجاوزت الاعمال التخريبية التي استهدفت امنها، ونجحت ايران في معالجة واستيعاب ما خطط لها في الداخل اثر الانتخابات الرئاسية وفي معالجة مفاعيل العمليات الارهابية وتعقب الجناة عبر الحدود، اما في غزة والتي كان فيها حرب جس نبض واختبار، مع توجه ان توفرت ظروفه لتغير ما في القطاع، فإنها لم تعط في نتائجها تشجيعاً لدعاة المشروع الاستعماري.
ومع هذا لم تستسلم اميركا وتقر بالهزيمة، بل نظرت الى ما لديها من قوة وطموح، ورأت ان الامر لا يتعدى اخفاق مشروع واستراتيجية، يمكن استلحاقه بتغيير في الخطط، وتعتبر الاستراتيجية الجديدة تطويراً لاستراتيجية القوة الناعمة الذكية عبر:
اسقاط فكرة الحرب راهنا وإجراء فض اشتباك للقوى في الميدان المشتعل، ما امكن.
احداث الحرائق والفتن الداخلية في ساحة الخصم لاشغاله وتآكل قواه.
التركيز على الملفات الخاصة بخصومها للضغط المتعدد الوجوه عليهم.
السعي الى التفاوض العقيم الذي لا ينتج حلا الا اذا اذعن الخصم.
التهويل النووي لارباك الخصم وإخافته.
لقد تقلبت اميركا في استراتيجياتها خلال عقدين من الزمن من القوة الصلبة، الى القوة الناعمة الذكية، فإلى القوة المنكفئة المتحفزة للانقضاض عندما تتهيأ ظروفه، وهي اليوم بصدد تمرير الوقت من غير حرب او حل حتى تؤمن تلك الظروف، ومن اجل ذلك ستستمر في الضغط الانتقامي وإشاعة القلق ودفع الناس للاقتتال لتحضير البيئة التي تلائمها حتى وإن كان الامر على حساب من حالفها من قوى محلية وإقليمية وهي تعلم أنها ستكون الخاسر الأول من هذه الاستراتيجية.