من المعروف أنه حينما تنتظر جبهة القتال حضور قائد كبير يبدو نشاط غير عادي في الجبهة، هذا ما يدركه أي جندي يتابع الجبهة قبل حضور هذه القيادة بيومين أو ثلاثة..
هذا ما حدث في ديسمبر 1969 حيث لُوحظ نشاط من هذا القبيل على الضفة الشرقية للقناة وبالتالي توقعنا حضور شخصية قيادية كبيرة، وصدرت الأوامر من المقدم صالح فضل قائد الكتيبة بضرورة العبور وتجهيز كمين لهذه الشخصية بغرض العودة به أسيرا كلما أمكن.
وبدأنا في الإعداد لتنفيذ الأوامر وحصر ما يواجهنا من عواقب ثم اختيار المكان وطريقة التنفيذ..
قلت لقائد الكتيبة: طب أنا هعمل كل حاجة وأنت هتعمل إيه يا فندم؟
فقال: مش هخلي حد يقرب نحيتك!
المشكلة الأولى أن حضور مثل هذه الشخصيات القيادية يتم دائما نهارا مما يجعل العبور إلى الضفة المقابلة في هذا التوقيت صعبا أو مستحيلا، وتغلبنا على ذلك بأن نقوم بالعبور عشية ليلة التنفيذ.
المشكلة الثانية أن حضور رتبة عالية للجبهة يواكبه رفع في المستوى الدفاعي ولذا كان لابد للخطة أن تكون محكمة حتى لا يتم كشفنا مبكرا، ففي هذه الحالة لن تنحصر الخسارة في فشل العملية بل ستمتد إلى خسارة أرواحنا ذاتها.
وعن طريق الاستطلاع عرفنا انه ثمة ارض ضحلة (من الملح والمياه الجوفية..الخ) السير فيها عسير للغاية وهي مواجهة للقناة، وكانت هذه مشكلة ثالثة.
بعد ذلك هناك جبال سيناء وما تحتويه من نقاط مراقبة للعدو ومن خلفها الشمس بمعنى أن يراك هو بوضوح تام فيما لا تراه أنت، وهذه المشكلة الرابعة.
هناك طائرة مروحية تمر ببطء بسرعة 70 كم لمراقبة الطريق الذي سيمر عليه القائد وملاحظة أي شئ مثير للريبة، وهذه هي المشكلة الخامسة.
هناك طائرة هليكوبتر من طراز (ديل 47) عبارة عن فقاعة زجاجية تحمل فردين تمر على ارتفاع منخفض للغاية لتفتيش الطريق.
هناك أيضا 3 عربات مدرعة تمر في أوقات غير منتظمة لتفتيش الطريق.
هذه هي الإجراءات الطبيعية التي تجري كل يوم فماذا عن الإجراءات الاستثنائية التي ستحدث لدى قدوم القائد؟!
وجاء وقت وضع الخطة فاخترنا طريقا لابد أن يمر منه القائد المنتظر، هذا الطريق به منحنى لابد وأن تخفض فيه السيارة من سرعتها كأفضل مكان للاشتباك.
أما المادة المستخدمة فقد أعددنا 6 شكائر من مادة TNT المتفجرة مزودة بالحصى بحيث يتم دفن الشكائر على يمين ويسار الطريق الذي ستمر عليه سيارة القائد وتحديدا عند المنحنى الذي من المنتظر أن تهدئ فيه السيارة من سرعتها، كل شيكارة بها 10 كيلو جرام من المتفجرات وكونها مدفونة يزيد من قوتها التدميرية 10 أضعاف بمعنى أن الموجة الانفجارية ستكون رهيبة.
لكن تفجير هذه الشكائر يتطلب زرع سلك للتفجير، وأي سلك سيكون ظاهرا للعيان على الأرض ولا يمكن دفنه لذلك نزلنا بملابس مدنية لمنطقة الرويعي المعروفة في شارع الجمهورية واشترينا سلك رفيع جدا رمادي اللون بحيث تصعب ملاحظته.
وجاء وقت التجربة فطلب مني القائد إثبات استطاعتي التفجير في الوقت المناسب فأجريت تجربة عملية بان قامت مجموعة التنفيذ بالاختباء في مكان معين على أن يمر قائدنا بسيارته للبحث عنا فإذا فشل في العثور علينا ذهابا يعود ويبحث عنا في طريق العودة، وفي طريق العودة أقوم بتفجير عبوة صغيرة بالقرب منه ليتأكد من قدرتنا على إصابة هدف متحرك .. كل هذا في وضح النهار!
وبالفعل مر القائد لكنه لم يتمكن من العثور على مخابئنا فاستدار وعاد ففجرت العبوة فانتزعت غطاء السيارة وخرج هو أشعث الشعر مثل أفلام الكارتون ثم جرى علينا فظننا انه يريد الفتك بنا بعد ما لحق به لكنه بدلا من ذلك احتضنني بقوة وأثنى على دقة التفجير.
وجاء وقت التنفيذ في السادس عشر من ديسمبر 1969 فقمنا بالعبور ليلا في قاربين مطاطيين في احدهما 9 أفراد يقودهم النقيب حمدي الشوربجي وفي الأخر أنا ومجموعتي المكونة من 9 أفراد أيضا بما مجموعة 20 فرد.
وصلنا الضفة الأخرى فقمنا بدفن القوارب في الساتر الترابي ووضعنا عليهم شباك للتمويه، وكنا نرتدي افرولات باللون الكاكي الشبيه بلون الرمال ونضع طواقي مخصوصة حتى لا يظهر شعر رؤوسنا لأنه لا يمكننا ارتداء الخوذة.
قام النقيب حمدي الشوربجي بدفن نفسه في الساتر الترابي فيما قمت ومجموعتي بالتسلل للخلف عبر المنطقة الجبلية وصولا لمنطقة التنفيذ حتى إذا ظهرت آثار أقدامنا تبدو وكأننا نتجه للجبال وليس العكس.
قمنا باحتلال المكان وسط الظلام الحالك، وكنا قد وصلنا بعد التدريب إلى إمكانية العمل بدون حتى أن نرى!، ودفنا العبوات ورششنا بعض المياه حتى يبدو المكان طبيعيا، وبعد أن انتهينا جلسنا وظهورنا للشمس ننتظر بعد أن قمنا بالتمويه اللازم بكتل الحشيش.
كان لي قريب في الكتيبة اسمه رؤوف أبو سعدة (استشهد بعد ذلك رحمه الله) وكانت خطيبته تدعى "هالة" وكانت من مدينة بورسعيد التي كانت بالنسبة لنا في الشمال، فيما كانت خطيبة حمدي الشوربجي تدعى "سامية" وكانت من السويس التي هي بالنسبة لنا في الجنوب، فكان اتفاقنا كالتالي:
إذا كانت سيارة القائد آتية من الشمال فالكلمة المتفقة عليها في اللاسلكي هي "هالة" أما إذا كانت "سامية" فمعناها انه آت من الجنوب.. "هالة ومعاها بطة" تعني أن القائد آت من جهة بورسعيد ومعه عربات مدرعة أو دبابات ، والعكس صحيح!
ومر الوقت علينا حتى كنا نسمع صوت الأذان آت من أرضنا، ونحن لا نتحرك قيد أنملة، فأي تحرك حتى ولو بسيط جدا معناه كشف العملية، وبالتالي لم يكن مسموح بأي حركة حتى إذا احتجت لقضاء حاجتك اقضها في مكانك!
ولم نكن نحمل معنا سوى قوالب شيكولاتة "كورونا" حتى تمنحنا بعض الطاقة.
وكان معنا ضابط صغير اسمه قدري نصر الله شيرازي تخرج قبل 10 أيام فقط وفوجئت به مع تباشير ضوء الصباح نائما بل وتعالى صوت شخيره!، ولم يكن يمكنني التحرك فصحت به:
"قدري .. قدري"
حتى استيقظ وتمالك نفسه بسرعة.
وبدأت الشمس تظهر في الأفق في السادسة والنصف تقريبا والجو شديد البرودة، وفي حدود السابعة والنصف أو الثامنة سمعنا صوت أزيز طائرة المراقبة ونحن على مسافة 10 إلى 15 متر فقط من الطريق لكن الطيار لم يشعر بنا.. وبعد نصف ساعة تقريبا جاءت الطيارة الهليكوبتر فلم ترنا أيضا!
وظللنا في أماكننا ننتظر بدون أدنى حركة حتى الساعة الثانية عشر والنصف ظهرا!
ثم جاءت الإشارة:
“سامية.. سامية"
ورأينا السيارة والجنرال يجلس بجانب السائق ومن خلفه جنديين مسلحين، وكما توقعنا هدئت السيارة من سرعتها في المنحنى الذي اخترناه فضغطت على زر التفجير ودوى الانفجار الهائل
لكن شيئا لم يحدث للسيارة!
فخرجنا بسرعة من كمائننا بالأسلحة الخفيفة وأطلقنا النار عليه فسارت قليلا ثم انقلبت على جانبها ومات من بها، فتوجهت إليها وتأكدت من موت الجنرال ونزعت متعلقاته الشخصية كلها .. محفظته ورتبته وحقيبته الخاصة.
العدو من أمامنا والمدفعية المصرية من ورائنا!
في الوقت الذي كنت اضغط فيه على زر التفجير كانت المدفعية المصرية قد بدأت الضرب باتفاق مسبق لكي يظن العدو أن صوت الانفجار آت من قصف المدفعية وليس من كمين معد سلفا وهذا نوع من الحماية لنا كمنفذين للكمين حتى لا يبدأ العدو في البحث عنا وتصفيتنا.
وعندما تضرب المدفعية تضرب بأسلوب متنقل على هيئة مربع مثلث الأضلاع بحيث يكون الضلع الخالي دائما هو المكان الذي لابد أن نتواجد فيه حتى نعود بمعنى انه لابد أن نتحرك بسرعة حتى لا تطولنا مدفعيتنا!
وكان علينا أن نعدو في وضح النهار وبأقصى سرعة في الأرض الضحلة التي تعوق الحركة أصلا، أنا مثلا بطل لياقة بدنية بالقوات المسلحة ثلاث سنوات متصلة ومع ذلك ومن شدة المجهود كنت ابصق دما أثناء العدو خلال هذه المسافة!
وطوال المسافة كان حمدي الشوربجي يوجهني عن طريق اللاسلكي إلى اليسار واليمين حتى أصل إليه مباشرة وقبل أن أصل إليه بـ 100 متر نزع الغطاء عن القوارب ونزل بها إلى مياه القناة وأدار المواتير وقفزنا جميعا وأخذنا طريق العودة.
وعلى الجانب الأخر كان زملاؤنا يهتفون "الله أكبر" بعزم بعد ما رأوا ما فعلناه.
كان قائد كتيبتي يقول لي "أحبك يا معتز وأكره اللي خلفوا أهلك!" لأنه بعد العمليات التي كنا ننفذها كان الطيران الإسرائيلي يهاجم الجبهة بعنف، فكان يحبني للعمليات الناجحة لكنه كان يكره العواقب.
طبعا لم نكن نعرف شخصية القائد الذي توجهنا لاسرة أو قتله ولكن بعد عودتنا اكتشفنا من متعلقاته الشخصية انه الجنرال "جافتش" قائد جبهة سيناء كلها، وقد كان لهذه العملية صدى مدوي في إسرائيل.
--------------------------------------------------------
الموضوع منقول من موقع المؤرخ