ظهر
واضحاً للعيان مدى تأثير الأحداث الأخيرة على السوريين ومواقفهم، فانقسموا
بين مؤيد ومعارض، حتى شمل الانقسام أفراد العائلة الواحدة وذلك خصوصاً في
المناطق التي لم تشملها الاضطرابات بعد، حيث يستمدون مصادرهم من متابعة
إعلام الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي فقط.
وتوزع
المؤيدون لفكرة المطالبة بالحرية أو حتى المعارضة للنظام الحاكم بين من
حزم أمره وانطلق بكل ما يمكن أن يشارك به بدءاً من ساحات الفيسبوك
الافتراضية ووصولاً إلى ساحات التظاهر وأحياناً إلى العمل المنظم، ومن ما
زال متردداً أو خائفاً، فهو قد يتجرأ أحياناً بالتعبير عن انتقاده وسخطه
ضمن حديث عابر مع أشخاص موثوقين دون أي مشاركة جهرية حتى في الساحات
الافتراضية...
وهناك
من كان منذ البداية مؤيداً للنظام الحاكم ورمزه الأوحد، وإن كان يعترف بعض
متبني هذا الرأي أحياناً بـ "أخطاء" النظام وممارسات حاشيته ومدافعاً بكل
المبررات والمسوغات الممكنة وبكل ما يحويه معجم اللغة من ألفاظ حول
المؤامرات والممانعة والاستهداف.
وتشهد
الساحة السورية ما تشهده من تظاهر واحتجاج وعنف، وتطالعنا ما يسمى بقنوات
الإعلام الحر المعروفة مثل الجزيرة والعربية والبي بي سي وغير المعروفة
سابقاً مثل شبكة شام الإخبارية بروايات شهود عيان يقال أنهم يتصلون من بؤرة
الحدث، وبتسجيلات التقطت بكاميرات الموبايلات حول التظاهرات، وتتفق كل هذه
الروايات والتسجيلات إلى حد ما بإدانة أجهزة النظام بقمع التظاهر
وممارساته الوحشية، بينما يقف الإعلام الرسمي السوري ممثلاً بقناة الفضائية
السورية وقناة الدنيا بروايته المضادة والمعاكسة في وجه كل هذه الروايات
ولديه ما لديه من "حجة" الإقناع والمشاهد المصورة بكاميرات احترافية
ومذيعيه بكل ما أوتوا من مهارات تمثيلية، وشهود العيان الذين ينتمون إلى
خلفيات متنوعة من حيث اللهجة والدين وأحياناً من دول أخرى مجاورة وكلهم
يتحدثون بخطاب واحد فيه من الإدانة ما يكفي لمن يطالبون بـ"الحرية" وهم
متهمون بتنفيذ "مخطط وأجندات خارجية" وينهون أو يبدأون حديثهم دائماً بالمبايعة المطلقة لنظام الرئيس المفدى وهي لا تعرض أي وجهة نظر مخالفة حيث لم يظهر على حد علمي ومتابعتي لحد الآن أي شخصية تدافع أو تروى أي وجهة نظر مخالفة لرواياتهم.
وأمام
هذين المصدرين للأخبار ينقسم السوريون بين مصدق لهذا الإعلام أو لذاك،
فالمعارضون يثقون بموضوعية قنوات الإعلام الحر وارتكازها على التحليل
المنطقي ويسمح غالباً بعرض وجهة نظر طرفي الأزمة، بينما يرفضها المؤيدون
للنظام ويؤكدون على صدق الإعلام الرسمي فقط سواء كانوا في قناعاتهم
الداخلية يصدقون أو لا يصدقونها، فهم بالنهاية يرتكزون على قناعتهم المطلقة
بالنظام الحاكم وتبرير أي فعل قد يفعله للمحافظة على وجوده في وجه
"المؤامرات" والدفاع عن سورية ضد ما يشاع عن مجابهة العدو الإسرائيلي
والأمريكي وأتباعه من تيار المستقبل اللبناني وغيره وهؤلاء يسهل فهم
موقفهم.
أما
موضوع حديثي فهو عن الفئة الأخرى من "المصدقين" لروايات الإعلام الرسمي
وهم الذين يلتزمون بتصديق الرواية الرسمية التي تظهر في الإعلام الرسمي
السوري أياً كانت ويحاولون دائماً مساعدتها على التبرير، ويرفض أولئك التمييز بين المطالبة بالحرية السياسية وبين التسبب بحالة الفوضى، وليست هذه الفئات بالضرورة من المستفيدين من النظام، هم أناس بعيدين عن حلبة الصراع وهذا هو الغريب في الأمر..
يرفض
هولاء التصديق بأن ما نراه من مقاطع مسجلة على ما يسمى قنوات الإعلام
الحرهو حقيقي وينكرون أي صلة لذلك بواقعهم وعندما تطالعنا دلائل وأية صور
جديدة لتأكيد التسجيل القديم يسهل عليهم تكذيبها بحجة أن هناك من يستطيع
بسهولة تزويرها ودبلجتها ووو...
وعندما
تصلهم شهادة أحد الأقارب أو المعارف أو ممن كانوا ضمن أو قرب هذه الأحداث،
فإنهم أيضاً "ينكرون" وقد ينظرون بعين الكره لمن روى هذه الشهادات
ويفرزونه فوراً ضمن فكرهم كـ مضلَلين.
إنهم
لا يريدون التصديق بأي رواية قد تزعج سلمهم الداخلي. وأزعم بأن هؤلاء
اعتادوا العيش بهدوء وسلام في الماضي مع أنفسهم، وفكرة تصديق بأن العهد
الحالي الذي يعيشونه قد انتهى ترعبهم وتشرع الباب مفتوحاً أمام حياة جديدة
بكل ما قد تحمله من مخاوف مع احتمالات الفوضى والحريات والجدل الذين يصعب
عليهم التعامل معه.
كما
أن الإقرار بصحة ما يشاهدونه قد يتطلب منهم أدبياً عدم السكوت واتخاذ موقف
جريء أو شجاع قد لا يقدرون على تحمل تبعاته فيبقى الحل الأكثر راحة لهم
ربما بالإنكار، وأحياناً كثيرة التوقف عن تتبع الأخبار بوصفها تلفيقاً
ومضيعة للوقت ويريحون أنفسهم دائماً بالرد عن أي سؤال يتعلق بأمن البلد
وينهون الحديث بعبارة "الأمور كلها بخير..."
حالة
الإنكار في علم النفس تعني عدم الاعتراف أو عدم التصديق، فمتلقي الصدمة
يعيش فترة في حالة عدم تصديق ويعتقد أن وضعه لم يتغير وكذلك المريض النفسي
ينكر إدمانه أو مرضه مهما حاولت إقناعه، ولكنه قد يبدأ بعد فترة باستيعاب
ما حدث ويحدث، وكذلك من يتعرض للتأطير والتدجين والقمع الفكري طوال سنوات فقد يرفض أي تغيير أو الاعتراف بالتغيير.
لا
أدّعي إلمامي بعلم النفس، إنما غرضي فقط هو عرض حالة لمستها تكراراً هذه
الأيام من أقرب الناس إلي علها تجد من يتناولها بالشرح من المختصين أو حتى
بـ"العلاج".
قد
تكون السنوات الطويلة التي عاشها السوريين ضمن أطر الحزب الواحد والقائد
الأوحد قد أوجدت حالة من السلم الداخلي والقناعة والتكيف التي يعيشها هؤلاء
والتي تفسرها جلياً "متلازمة استوكهولم " (مأخوذ عن الويكبيديا): وهو
مصطلح يطلق على الحالة النفسية التي تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع
عدوه أو من أساء إليه بشكل من الأشكال، أو يظهر بعض علامات الولاء له مثل
أن يتعاطف المخطوف مع المُختَطِف.
أطلق
اسم هذه الحالة نسبة إلى حادثة حدثت في ستوكهولم في السويد حيث سطا مجموعة
من اللصوص على بنك كريديتبانكين في عام 1973، و اتخذوا بعضاً من موظفي
البنك رهائن لمدة ستة أيام، خلال تلك الفترة بدأ الرهائن يرتبطون عاطفياً
مع الجناة، و قاموا بالدفاع عنهم بعد إطلاق سراحهم.
ومما
يعتقد أن يسبب هذه الحالة هو أنه عندما تكون الضحية تحت ضغط نفسي كبير،
فإن نفسه تبدأ لا إرادياً بصنع آلية نفسية للدفاع عن النفس، و ذلك من خلال
الاطمئنان للجاني، خاصة إذا أبدى الجاني حركة تنم عن الحنان أو الاهتمام
حتى لو كانت صغيرة جداً فإن الضحية يقوم بتضخيمها و تبدو له كالشيء الكبير
جداً. و في بعض الأحيان يفكر الضحية في خطورة إنقاذه، و أنه من الممكن أن
يتأذى إذا حاول أحد مساعدته أو إنقاذه، لذا يتعلق بالجاني.
على
صعيد المجتمع، يمكن ملاحظة هذا التأثير في الأنظمة القمعية، عندما لا تملك
السلطة شرعيتها من أغلبية الشعب، فتصبح وسيلة الحكم القمعية ضاغطة على
أفراد المجتمع، ولمدة طويلة، يطور خلالها الأفراد علاقة خوف من النظام،
فيصبح المجتمع ضحية النظام، ويدرك النظام هذه الحالة مع الوقت، حتى يتقن
لعبة ابتزاز المجتمع.
ف
ي سوريا يردد الكثيرون من المصابين بحالة الإنكار: ما هو البديل الذي ينادي به من يطالب بإسقاط النظام؟
ويخافون ويخوفون من المستقبل الغامض الذي قد يشبه المثال الليبي،أو حتى
العراقي، أو أمثلة صراعات طائفية غير مسبوقة، فالقائد المخلص موجود وهو
الوحيد القادر على حمايتنا من هذه السيناريوهات الغامضة رغم كل ما قد
تعانيه أجهزته من فساد أو "أخطاء" كما يحلو لمنظّري النظام من تسمية ما
يعانيه هذا النظام من أزمات وكوارث.